وثائق وتقارير

يجمع "معهد فان لير"، القائم في القدس الغربيّة، تحت سقفه نماذج المجتمع الإسرائيلي بكافة أطيافه وقطاعاته وتوجّهاته، سواء كان الحديث عن أبناء القوميتين، عرباً ويهوداً، أو التشكيلات المختلفة للمجتمع اليهودي التي تشمل الأشكناز والسفاراديم، والعلمانيين والمتدينين القوميين، بل إنّ المعهد نجح في استقطاب جمهور الحريديم الأرثوذكس والذين يعتبر اقتحام عالمهم أمراً ليس باليسير بل أقرب إلى أن يكون مستحيلاً. وهناك تواصل بين المعهد ومؤسسات أو أشخاص من الجانب الفلسطيني لكنه ما زال محدودًا

 

 كتبت غصون ريّان:

  جمع "معهد فان لير"، القائم في القدس الغربيّة، تحت سقفه نماذج المجتمع الإسرائيلي بكافة أطيافه وقطاعاته وتوجّهاته، سواء كان الحديث عن أبناء القوميتين، عرباً ويهوداً، أو التشكيلات المختلفة للمجتمع اليهودي التي تشمل الأشكناز والسفاراديم، والعلمانيين والمتدينين القوميين، بل إنّ المعهد نجح في استقطاب جمهور الحريديم الأرثوذكس والذين يعتبر اقتحام عالمهم أمراً ليس باليسير بل أقرب إلى أن يكون مستحيلاً.

 

ينتقي المعهد النخبة الأكاديمية والفكرية الألمع في إسرائيل من باحثين يمثلون كافة تشعبات المجتمع الإسرائيلي، موفراً لهم المناخ الملائم وكافة المستلزمات والمصادر لإجراء أبحاث وعقد مؤتمرات وندوات في مجالات المجتمع والتربية المدنيّة والثقافة والفلسفة والاقتصاد، ممّا يعزّز مكانة المعهد الأكاديمية ويرتقي به إلى أن يكون أحد أهم المراكز الفكرية الرائدة في بحث هذه المجالات.

 

يهدف المعهد في مجالات بحثه العديدة ومظلاته المتنوّعة، إلى تعزيز مفاهيم وقيم المجتمع المدني وتعميق الديمقراطية في إسرائيل جنباً إلى جنب مع ترسيخ الهوية والثقافة اليهودية في أوساط اليهود، بالإضافة إلى دفع سبل وقنوات الحوار مع الفلسطينيين قدماً. هذه هي الرسائل التي احتضنتها عائلة فان لير اليهودية الهولندية، والتي أبقت أرباح أعمالها لإنشاء صندوق فان لير في هولندا، كما خصّصت 14% من الأرباح لتشييد معهد فان لير في القدس.

 

الأهداف الآنفة الذكر تحتم على المعهد أن لا يقتصر عمله على البحث العلمي فحسب، بل يتعدّى ذلك ليخترق فضاء تطبيق النظريّة وإحالتها إلى أرض الواقع، من خلال برامج ومشاريع عدّة تفعّل في كافة أنحاء البلاد، إن كان ذلك في المدارس أو المراكز الجماهيريّة أو البلديّات والمجالس المحليّة، وإن كان العمل مع الطلاب أو جمهور الشباب أو المدارس، فإنّ فان لير يتّبع سبيل مجابهة السياسات الحكوميّة بتطبيقه لأبحاثه العلميّة الصرفة بعيداً عن المزايدات والمناقصات التي يتّسم بها عمل الحكومة.

 

ويعقد فان لير مؤتمرات وندوات ومجموعات نقاش حول قضايا الساعة والوضع الراهن وكل المواضيع المدرجة على جدول الأعمال وتهم الرأي العام، أو عند إصدار كتاب بعد إجراء بحث، وتكون مفتوحة للجمهور عامّة ويدعى إليها كبار المسؤولين وصانعي القرار في إسرائيل بالإضافة إلى أكاديميين وجهات لها صلة بالموضوع المطروح. وهو من خلال ذلك يحاول التأثير على صانعي القرارات لتبني توصيات وأطروحات نتاج عمل المعهد في ميادين مختلفة كالحقل الاجتماعي والاقتصادي والتربوي وما إلى ذلك.

قسم من الندوات التي عقدت تطرّقت إلى موضوع الأسرى الفلسطينيين والمعهد هو المكان الثقافي الوحيد الذي عقد مؤتمرًا دوليًا لثلاثة أيّام عن اللاجئين الفلسطينيين وشارك في الإعداد لهذا المؤتمر فلسطينيون، وكان هناك مؤتمر آخر بحثت فيه وثيقة "التصوّر المستقبلي للعرب في إسرائيل" بالإضافة إلى وثائق أخرى أعدّتها قيادات عربيّة في إسرائيل.

 

 

ترجمة العمل البحثي والأكاديمي إلى برامج تربوية

 

 

يتطلّع معهد فان لير إذن إلى أن يكون مصدرًا فكريًا لإنتاج سياسات تقوم على أسس علميّة بحتة. ويستغل المعهد كمنصّة للعديد من المنظمات والجمعيّات التي تصبو إلى إعلاء صوتها إذا ما تماشت مضامينها مع المفاهيم التي يشاء المعهد تعزيزها وترسيخها كما توضّح السيّدة هيفاء صبّاغ، مديرة البرامج التربويّة في المعهد، في حديثها لـ"المشهد الإسرائيلي". وتضيف أنّ القسم الذي تعمل فيه مسؤول عن ترجمة العمل البحثي والأكاديمي إلى برامج تربوية تنتج وتفعّل في الميدان لفترة محدّدة وهي ليست مستديمة بل متجدّدة دائماً. كما أنّ إعداد البرامج يقوم على أساس تشخيص النواقص والفجوات والحاجات التي لا توفرها وزارة المعارف أو الجهات الحكوميّة، ثم يبنى البرنامج لسد هذه النواقص في الوسطين العربي واليهودي. وتذكر صبّاغ أن "الهدف من وراء هذه البرامج والمشاريع هو تطوير مفاهيم القيم والتربية الديمقراطيّة وتعزيز قيمة الفرد الفعّال الذي يشعر بالمسؤوليّة الاجتماعيّة ويؤمن بقدراته على التأثير في مجتمعه وإحداث فوارق للأفضل". البرامج معدّة لفئة الشبيبة بين أعمار 12- 18 عامًا ويتم فيها تمرير مواد تعليمية وكراسات يعدها المعهد وتصدر باللغتين العربية والعبرية، بالإضافة إلى تدريبات معينة هدفها توعية هذه الفئة بالذات من خلال فتح أبواب المعرفة وتزويد المعلومات التي تحجبها وزارة المعارف عن الطلاب في منهاجها التعليمي، إذ تقدّم وجهة نظر واحدة ممّا يؤدي إلى محدوديّة وضيق الأفق لدى الطالب. كما أنّ الكتب التدريسيّة تتجاهل المواطن العربي أو أنّها تذكره بشكل سلبي ومتشكّك، وبالتالي هذا يسلب منه القدرة على معايشة الاختلافات والتعدّديّة التي تحيط به بل ويدفعه باتّجاه العنصريّة الناتجة عن الآراء المسبقة.

 

وتقول صبّاغ "نحن نحاول تربية جيل على مفاهيم الديمقراطية الصحيحة والتي تشمل التعددية واحترام الآخر المختلف، إذ أنّ مفاهيم كهذه ضعيفة في المجتمع الإسرائيلي". وتشير إلى أنّ استطلاعات الرأي تبيّن وجود مغالطات في فهم الديمقراطيّة في المجتمع الإسرائيلي بحيث تدرك بشكلها الرّسمي وليس المضموني، لذلك يسهل على الفرد اليهودي أن يعادي العربي وينتزع حقوقه. وتتابع "هذا الواقع منوط إلى حد كبير بسياسة وأجندة وزارة التربية والتعليم. ويجب ألا ننسى أنّ المجتمع اليهودي مؤلّف من مجموعات غير متجانسة وتعاني من فروقات اجتماعيّة واقتصاديّة، لذا فإنّ الوزارة معنيّة بزرع وترسيخ الهوّة اليهودية والصهيونية، بيد أنّ القيم الديمقراطية وحق المواطنة،على سبيل المثال، الذي يعتبر حقا أساسا، ليست مفهومة ضمناً. فكيف للوزارة أن تدخل هذه القيم إلى المنهاج التعليمي وفي كل يوم تصدر من المسؤولين تهديدات بسحب مواطنة قسم من السكان أو القيام بترانسفير لقسم من المواطنين، كما أنّ الدولة تعرّف نفسها على أنّها يهوديّة وبهذا فهي تخرج المواطنين العرب خارج نطاق التعريف. وهي أيضاً تحتل شعبا آخر، كل هذا وغيره الكثير يصب في انحسار إمكانيّة التنشئة على قيم المساواة واحترام حقوق الإنسان والحريات المختلفة".

 

يعمل المعهد في هذا المشروع مع أكثر من مائتي مدرسة في محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه، كما أنّه نجح في إعداد حلقات دراسيّة سنويّة يشارك فيها مدراء مدارس دينيّة من جمهور الحريديم المتسمين بالتشدّد ورفض كل ما لا يتوافق مع تعاليمهم الدينيّة، وتمّ تعريفهم وإطلاعهم على نظريات في العلوم الاجتماعية والإنسانية في محاولة للتأثير عليهم أيضاًَ. وهناك العديد من المشاريع المعدّة خصّيصاً للجمهور العربي وسكّان القدس الشرقية والذين تناسب المشاريع لكونهم غير مواطنين. من ضمن المشاريع التي بادر إليها المعهد يمكن أيضاً ذكر برنامج "الشبيبة لأجل التغيير الاجتماعي" وهو يعمل مع مجموعات شبابيّة يتم تدريبها وإكسابها مهارات مطلوبة، ثم تمر في سيرورة لإحداث تغييرات مجتمعيّة أو إصلاح وضع فاسد، وهنا تشير صبّاغ إلى الفروقات الواضحة بين الجمهورين العربي واليهودي، فالأخير يتربى في المدارس على مفاهيم التضامن والتكافل الاجتماعي والمسؤوليّة الاجتماعيّة ولديه الكثير من الميادين بإمكانه التطوّع فيها، أمّا المجموعات العربيّة فهي لا تتربى على هذه المفاهيم في إطار المدارس، كما تنقصها المؤسسات التي بإمكانها التطوع فيها ولذا فإنّ العمل معهم يكون من مرحلة أوليّة جداً، بدءاً من تعريفهم على هويّتهم.

 

 

أول كتاب من نوعه عن المجتمع العربي

 

 

من جانبه يشير البروفيسور عزيز حيدر، الباحث في معهد فان لير في الشأن العربي، إلى واحد من أهم الإنجازات التي قام بها تحت سقف فان لير وهو إصدار كتاب إحصائي في مجالات متنوّعة تخص المجتمع العربي، ولقي صدى واهتماما واسعين جداً على المستويين الشعبي والرسمي وأيضاً أكاديمياً وإعلامياً، حتى أنّ الجامعات الإسرائيليّة سارعت إلى تبنّيه معتمدة عليه في تدريس شؤون العرب في إسرائيل.

 

يقول حيدر لـ"المشهد الإسرائيلي" إنّ الكتاب يعتبر الأوّل من نوعه نظراً لكونه قائما على إحصائيّات دقيقة جداً، وهو يكشف ظواهر للمرّة الأولى لم يسبق أن نشرت من قبل وهي تتطرّق إلى أربع مجالات. في الشأن السكاني الديمغرافي تمّ إثبات أنّ كل الإحصائيّات التعداديّة عن العرب مبالغ فيها وأنّ ما يقال عن أنّ نسبة العرب في إسرائيل تبلغ عشرين بالمائة هي بعيدة عن الصّحة. الجمهور العربي، وفق ما يذكر حيدر، صدّق ما يشاع ويستخدم ذلك للمطالبة بحصّة أكبر في الموارد، بينما تستخدم السلطات ذلك للإشارة إلى التهديد والخطر الديمغرافي الذي يشكّله العرب في إسرائيل. ويضيف أنّ البحث الذي اعتمده يؤكّد أنّ هناك زيادة في هذه النسبة على الأقل بخمسة بالمائة نظراً إلى الخلط بين الفئات السكانيّة في الإحصائيّات التي تقوم بها دائرة الإحصاء المركزيّة والمعدّة في سبيل خدمة مصالح الدولة.. إحصائيّات الدائرة المركزيّة تضم أيضاً السكان المقيمين في القدس، وهم ليسوا مواطنين، والبالغ تعدادهم ما يقارب 250000 مع العرب في إسرائيل، أي أنّ سكان القدس يستخدمون في الإحصائيّات الفلسطينيّة وأيضاً في الإحصائيّات الإسرائيليّة، كما أنّ الإحصائيّات تشمل أيضاً كل العملاء وعائلاتهم واللبنانيين الذين قدموا من الجنوب اللبناني بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المهاجرين الروس والذين قدموا في منتصف التسعينيات وتسجّلوا كمسيحيين دينياً. كل هذه الفئات تحسب أيضاً على العرب في إسرائيل. عند تطرّق دائرة الإحصاء المركزيّة إلى العرب في إسرائيل فهي تجمع ما بين المسلمين والمسيحيّن والدروز، لذا فعند الحديث عن الخطر الديمغرافي الذي يشكّله العرب، وفق تصريحات المسؤولين، فإنّ الدروز الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي هم أيضاً في خضم هذا التهديد. الإحصائيّات التي تنشرها دائرة الإحصاء المركزيّة تنتج عنها مضاعفات ومواقف سياسيّة كالحديث عن الخطر الديمغرافي الذي نتج عنه طروحات بصدد تبادل مناطق كثيفة بالسكّان كمنطقة المثلث مقابل مستوطنات في الضفة الغربيّة ما بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. الكتاب تطرّق أيضاً إلى ظواهر اجتماعيّة عدّة لم تكن معروفة علمياً واستحوذت على اهتمام كبير، من بينها الكشف عن أنّ نسبة العزباوات العربيّات في إسرائيل بعد سن الثلاثين تصل إلى 4ر17% وهي ضعف نسبة العزباوات اليهوديّات. يلفت حيدر إلى أنّ التحدّي والأهميّة التي تكمن من وراء نشر هذا الكتاب أنّه أحدث أصداء واسعة النطاق وأثار الباحثين لإنجاز المزيد من الأبحاث لتفسير هذه الظواهر والمعطيات. الكتاب احتوى فصلا يخصّ الاقتصاد والعمل وبحث وضع العرب في سوق العمل الإسرائيلية، ولأوّل مرّة تمّ تفنيد الشّائعة التي تنص على أنّ هناك بطالة وسط الأكاديميين العرب، حيث أنّ البحث الذي تمّ يبيّن أنّ نسبة البطالة عند الأكاديميّين العرب لا تتعدّى 7ر1% إلا أنّ جزءًا ليس بالقليل من الأكاديميين يعملون في غير تخصصاتهم أو لديهم مهن جزئيّة. كما أنّ البحث يعرض أنّ أقل فئة في المجتمع الإسرائيلي فيها بطالة هنّ الأكاديميّات العربيّات في منطقة المثلث. وفي مضمار التعليم، البحث أيضاً دحض الادعاء الشّائع أنّ متوسط التعلّم لدى المسيحيّين أكثر منه لدى المسلمين، إذ أنّ البحث يوضّح أنّ متوسط التعليم اليوم متساوي لدى الجانبين. أمّا في سياق الأوضاع الاجتماعيّة والفقر فقد وجد أن نسبة الأكاديميّين الفقراء من العرب عالية إذ تبلغ ما يقارب 19% وهذا لا يتّفق مع التناسب العكسي بين العلم والفقر القائم في إسرائيل. أمّا عن السبب في ذلك فهو يعود إلى أنّ الزوجة لا تعمل في كثير من الأحيان وهذا يكشف عن أهميّة عمل المرأة في الخروج من نطاق دائرة الفقر الذي لا يقتصر على العاطلين عن العمل فحسب إذ أنّ البحث يشير إلى أنّ نسبة عالية من الفقراء هم عاملون وأحد الأسباب لذلك هو عدم تطبيق قانون الحد الأدنى للدخل في قسم من المرافق الاقتصاديّة. فيما يخص العمل، تمّ الكشف أيضاً عن أنّ نسبة النساء العربيّات العاملات لا تتجاوز 19% وليس 28% كما هو شائع، إذ أنّ هذه النسبة الأخيرة تشمل الروسيّات اللاتي تسجّلن كمسيحيّات وألحقن بالعرب في التعداد السكّاني.

أمّا في وسط الطلاب الثانويّين، ففي السنوات العشر الأخيرة هناك عدد أكبر من الطلاب الذكور العرب يتركون المقاعد الدراسيّة، لذا فإنّ نسبة البنات من حيث سنوات التعليم تربو على نسبة الذّكور وهذا يعود إلى أنّ الشباب يجدون أنّ سوق العمل يشكّل عائقا أمامهم بعد التعلّم لذا يفضّلون عدم متابعة المشوار الدراسي، ولهذا دلالة في علوّ أهميّة القيم الماديّة على حساب القيم التعليميّة في الوسط العربي، وفق ما يقول حيدر.

فان لير يرعى أيضاً البحث التالي الذي سيكون تحت إشراف حيدر بالتعاون مع مجموعة باحثين آخرين يطالب أن يكونوا كلّهم عرباً وأن يجرى البحث ويصدر أيضاً بالعربيّة، وهو حول السلطات المحليّة العربيّة في إسرائيل. إذ كما ينبّه حيدر فإنّ كل الأبحاث التي أجريت بهذا الشأن كانت حول علاقة السلطات العربيّة المحليّة بالحكومة ووزاراتها إلا أنّه سيبحث موضوع الإدارة الذاتية والداخليّة للسلطات المحليّة العربيّة لتشخيص عيوب وأخطاء ومشاكل الإدارة هذه وهو ينطلق من فرضيّة أنّ سياسة الدولة ثابتة ويمكن وصمها بالمعادية لكن يبقى هناك جزءًا من المسؤوليّة ملقى على كاهل الإدارة العربيّة. وفي بحثه سوف يتطرّق إلى عمليّة الانتخاب والحمائليّة وتصويت المرأة العربيّة بالإضافة إلى الإدارة الماليّة للسلطات المحليّة، ومقارنة ذلك مع أحوال أقليّات أخرى في العالم. ويتوقّع حيدر أن يلقى البحث حال نشره أيضاً صدى كبيرا وواسع النطاق على غرار البحث الآنف الذكر. ويخلص إلى أنّ هناك اندفاعا كبيرا في فان لير في السّنوات الأخيرة لأن يكون المعهد الأوّل في البلاد في بحث شؤون المجتمع العربي، مشيراً إلى الاهتمام المتزايد لفهم واقع هذا المجتمع من قبل كافة الجهات وعلى الأخص في أعقاب أحداث أكتوبر 2000 وأيضاً بعد نشر وثيقة التّصوّر المستقبلي للمواطنين العرب في إسرائيل ووثائق أخرى صدرت عن القيادات العربيّة في إسرائيل. وهناك أيضاً ضغط من قبل جهات يهوديّة في أميركا تمارس على إسرائيل لإصلاح الوضع مع المواطنين العرب، على حد تعبير حيدر.

أمّا عن نجاحات فان لير فبالإضافة إلى الأبحاث الأكاديميّة التي يتبنّاها ومجلة "نظريّة ونقد" التي تصدر عنه وتعد أرقى مجلة علميّة وأكاديميّة في إسرائيل وأيضاً البرامج التربويّة التي يعدّها لمختلف الشرائح في المجتمع الإسرائيلي واعتباره منصّة للعديد من الجمعيّات والجهات فقد نجح في أن يكوّن لنفسه جمهورا دائما يحضر كل المؤتمرات والنشاطات التي يبادر إليها فان لير، وجزء من هذا الجمهور يشمل نخبا اجتماعيّة معروفة في إسرائيل. كما أنّ المعهد له أهميّة وصيت غير محدودين وذلك يمكّنه من التأثير على صانعي القرارات. وفي هذا السّياق يورد حيدر مثالاً بشأن خصخصة الأراضي حيث يقول إنّهم يكثرون في الحديث عن هذا الموضوع في المؤتمرات والمحافل المختلفة حتّى تمّ الحصول على وعد من إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية، بإقامة لجنة تعنى بخصخصة الأرض بعد أن رعى المعهد ندوة استمرّت يوما كاملا في هذا الشأن.

 

برنامج ميداني لكتابة الروايتين الإسرائيليّة والفلسطينيّة

 

 

من ناحيته شدّد الرابي البروفيسور نفتالي روتنبرغ، رئيس قسم الحضارة والهوية اليهودية في معهد فان لير، في حديثه معنا، على أنّ التعايش الإسرائيلي- الفلسطيني واليهودي- العربي الذي يدعمه ويعزّزه المعهد من اليسير تحقيقه شريطة عدم التلاعب بالأمور الدينيّة وتوظيفها لخدمة المصالح السياسيّة، فأصل الخلاف الإسرائيلي- الفلسطيني هو خلاف سياسي وليس دينيا. وهو يستعيد كمثال على هذا التوظيف القائدين إيهود باراك وياسر عرفات عند خروجهما من محادثات كامب ديفيد، حيث توجه كل منهما إلى مجموعة كاميرات وصرّحا بلغتين مختلفتين التّصريح ذاته مع اختلاف بسيط. باراك قال إنّهم لم يتوصّلوا إلى اتفاق لأنه حافظ على قدس أقداس اليهوديّة بينما قال عرفات إنّهم لم يتوصّلوا إلى اتفاق لأنّه حافظ على قدس أقداس المسلمين. ويذكر روتنبرغ أنّ كلا الزعيمين علمانيّان وحتى أنّ باراك قبل شهر فقط من هذه المحادثات وعد الإسرائيليّين بانقلاب علماني وفصل الدين عن الدّولة. ويضيف روتنبرغ أنّ قسما كبيرا من الخلافات منشأها استغلال الدّين والتّلاعب به من قبل سياسيّين وعلمانيّين لخدمة مصالحهم فالديانتان اليهوديّة والإسلاميّة لديهما العديد من القواسم المشتركة، وهو يستعيد حين كان الرّابي الرئيسي في البيرو لمدة أربع سنوات ولم تكن محكمة وفق الشّريعة الإسلاميّة، "حينها كانت الجالية الإسلاميّة هناك وغالبيتها من الفلسطينيّين يأتون إلى المحكمة التي عملت بها واثقين من أنني أستطيع إنصافهم". المسجد الأقصى والذي يتذرّع به السياسيّون لاعتبارهم إيّاه جوهر النزاع هو ليس محط خلاف على الإطلاق، بل على عكس ذلك بإمكانه أن يكون قاعدة صلبة لإحلال السلام، كما يؤكّد روتنبرغ، منوّهاً إلى أنّ رجال الدين اليهود على الرغم من عدم وجود أي حد لاختلافاتهم في الرأي بأمور الدين إلا أنّهم يتّفقون بإجماع شبه تام على أنّ الاقتراب من ساحة الأقصى من أشدّ المحرّمات، بل هو أشدّ حرماً من الأكل في يوم الغفران. وهو يشير إلى أنّ دخول شارون باحة الحرم الأقصى هو مسّ بمشاعر اليهود ليس أقل من المس بمشاعر المسلمين.

 

وبخصوص الاحتلال فهو يدعو إلى وجوب زواله ويقول إنّه كان على إسرائيل أن تعود إلى خط الرابع من حزيران في اليوم السابع للحرب. وهو يرى أنّ أحد أبرز الإخفاقات التي أقدم عليها المسؤولون الإسرائيليّون هي تعريف إسرائيل على أنّها يهوديّة في وثيقة الاستقلال وهو يقول إنّ رموز الدولة كلّها تشير إلى هذا فما الداعي لأن يدوّن ذلك.

روتنبرغ أيضاً يفند كل الإدعاءات التي تشير إلى وجود كراهيّة وبغضاء بين العرب واليهود لا يمكن أن تمحى بسهولة، وهو يخلص إلى أنه في حال تمّ التوصل إلى اتفاق وإقامة دولتين للشعبين فإنّه لن يكون أي مجال للحديث عن هذه الكراهيّة التي لن يكون لها أي أثر.

في سياق آخر هناك تواصل وإن كان محدوداً بين المعهد ومؤسسات أو أشخاص من الجانب الفلسطيني. أحد المشاريع ضمن هذا المضمار هو قيام مجموعة دراسيّة إسرائيليّة- فلسطينيّة مشتركة حول حماية البيئة بالتعاون مع منتدى الشباب الفلسطيني للسلام والحريّة. كما أنّ هناك مشروعا بحثيا آخر بعنوان "إسرائيل- فلسطين: كارثة في طور التّكوين"، ويقوم هذا المشروع الدراسي بالإطلاع على التحوّلات في الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينيّة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية. هناك أيضا برنامج ميداني يعمل على كتابة الروايتين الإسرائيليّة والفلسطينيّة جنباً إلى جنب وإصدارهما باللغتين العبريّة والعربيّة.

 

إنّ معهد فان لير هو مجسّم صغير لحالة من التآخي والتعايش السلمي، لكن يبقى التساؤل فيما إذا ستسمح الظروف والأقدار بتعميم هذا النموذج على مستوى الدولة، أو على الأصح على مستوى الدولتين؟.