انتخاب الحل الأحادي الجانب وترسخ مقولة غياب الشريك

وثائق وتقارير

خلفية

 في 14 مارس/ آذار 2006 اقتحمت قوات معززة من الجيش الإسرائيلي مقر المقاطعة في مدينة أريحا، وقامت بهدم وتدمير جزء كبير من المكان واعتقلت المتواجدين فيه. محطات التلفزة من كل أنحاء العالم عرضت في بث مباشر صوراً لعشرات الرجال الفلسطينيين المقتادين بإهانة وإذلال وهم لا يرتدون سوى ملابسهم الداخلية.

 

 

هذا التقرير الصادر عن "كيشف"- مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل، يتفحص التغطية الصحافية للعملية في أريحا، بين الرابع عشر والسابع عشر من آذار، في الصحف الإسرائيلية الرئيسية الثلاث، "يديعوت أحرونوت"، "معاريف" و"هآرتس"، وفي نشرات الأخبار المركزية الثلاث التي تبثها محطات التلفزيون الإسرائيلي: القناة الأولى والقناة الثانية والقناة العاشرة. وكما سنلاحظ فقد ركزت جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الأربع والعشرين ساعة الأولى التي تلت العملية على إبراز تظاهرة الوحدة في تبرير وتسويغ السلوك الإسرائيلي من جهة، وتحقير وإهانة الجانب الفلسطيني من جهة أخرى، وسط إبراز مظاهر غطرسة قومية منقطعة النظير. وفي اليوم الثاني حاولت نشرات الأخبار المذاعة في محطات التلفزيون إثارة عدد من التساؤلات النقدية المنبثقة عن العملية، فيما واصلت الصحف من جهتها إبراز أجواء النشوة بالانتصار!

 

التغطية في اليوم الأول

 

كما أسلفنا، أظهرت وسائل الإعلام في اليوم التالي للعملية، شعوراً بالوحدة والاعتزاز. فعلى الصفحة الأولى من صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصادرة في 15 آذار، نُشر مثلاً العمود الذي يكتبه المعلق العسكري أليكس فيشمان، تحت عنوان "إنها لحظة اعتزاز قومي!". وجاء في ما تضمنه التعليق: بإمكاننا أن ننحي جانباً للحظة أحاديث الدعاية الانتخابية اللاذعة... من حقنا اليوم أن نشعر بالفخر والاعتزاز. هناك قرارات تعتبر بمنزلة حجارة أساس في بناء النموذج القومي [...]".

 

هذا التوجه ساد في الغالب في التغطية الإعلامية الإسرائيلية:

  • "قبضنا عليهم" ("معاريف" 15/03/2006، عنوان رئيسي تصدر الصفحات من 1 إلى 8 التي خصصت لتغطية نفس الموضوع بالخبر والتقرير والتعليق والصور...الخ).
  • "صُفيَّ الحسابُ" ("يديعوت أحرونوت" 15/03/2006، عنوان رئيسي مع كتابات ونصوص من صفحة 1 وحتى صفحة 6).
  • "تساهل [جيش الدفاع الإسرائيلي] يقدم: يوم الحساب" ("معاريف" 15/03/2006، عنوان رئيسي صفحة 2 و 3، بالإضافة إلى عنوان آخر في صفحة 3 جاء فيه: (عملية) سريعة ورشيقة.

 

  • يوءاف ليمور، المعلق العسكري في محطة القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، قال في مستهل نشرة الأخبار المركزية مساء 14 آذار، مخاطباً حاييم يافين، مقدم النشرة: "حاييم، أولاً هذه عملية ليس هناك من عملية مبررة أكثر منها... أعتقد أنك توافقني في هذا الشأن...".

 

صحيفة "يديعوت أحرونوت" تفوقت على الجميع بنشرها للعنوان التالي على الصفحة الرابعة: أثناء زيارة لمستوطنة "أريئيل" أخذ موفاز أولمرت جانباً وهمس في أذنه: "المراقبون البريطانيون تركوا السجن في أريحا، الجيش ("تساهل") مستعد للعملية"، فرد أولمرت "أول رايت...استمروا في العملية". عندما اتصل عدد من وزراء خارجية دول العالم بوزيرة الخارجية (تسيبي) ليفني معربين عن قلقهم، ردت عليهم قائلة: "يجب على الرجل أن يفعل ما ينبغي للرجل أن يفعله...". بعد مرور بضع ساعات هاتف أولمرت أرملة (رحبعام) زئيفي معلنا "هناك عدالة في إسرائيل".

 

في اليوم الأول بعد العملية، امتنعت وسائل الإعلام كلياً عن الخوض في أي نقاش نقدي حول العملية ومبرراتها ولم توجه الأسئلة الواجب طرحها من قبيل: ما هي انعكاسات العملية على علاقاتنا مع السلطة الفلسطينية وعلى استقرار الأخيرة؛ إلى أي حد أخذت هذه الاعتبارات بالحسبان عندما أُقرت العملية؟ هل تم تفحص خيارات أخرى؟ ما هي الدلائل التي تربط المطلوبين بقتل زئيفي؟[1]

 

في هذا اليوم بالذات نسجت وسائل الإعلام قصة مفادها أن كبار المسؤولين في الهيئة الأمنية وأعضاء الحكومة والمجتمع الإسرائيلي بأكمله يؤيدون العملية والطريقة التي نفذت بها دون تحفظ. وقد كانت هذه قصة انتقام مشروع، قصة يهزم فيها "طرفنا"- الطرف الإسرائيلي المحق والكلي القدرة- الطرف الغدّار والجبان والمخل بالاتفاقيات. هذا الاتجاه من التفكير انعكس فيما انعكس، في التغطية الواسعة التي سخرت من رضوخ وخوف أحمد سعدات الذي كان قد تعهد بـ"القتال حتى الموت" ولم يف بتعهده! وعلى سبيل المثال كتبت صحيفة "هآرتس" في عنوان رئيسي على صفحتها الثانية يوم 15 آذار: "سنقاتل حتى الموت" أعلن سعدات وسلم نفسه بعد حصار استمر عشر ساعات!

 

وفي أجواء مشابهة، جرى النقاش في مستهل نشره أخبار القناة الأولى في التلفزيون مساء 14/3: مقدم النشرة حاييم يافين: "... نحن معك، أمير بارشالوم في أريحا. سعدات هدد بالقتال حتى الموت ولكنه سلم نفسه في النهاية لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي. ما هي العِبَر المستخلصة من هذا الحادث الدراماتيكي الذي رافقنا طيلة اليوم؟".

 

المراسل العسكري أمير بارشالوم: "حاييم! لقد سلم نفسه وكان يبدو أنه خائف جداً... هذا ما رواه لي ضابط في تساهل قابلة وشَخَّصه. يقولون إنه وكذلك فؤاد الشوبكي خرجا من بناية المقاطعة مرعوبين جداً جداً".

ثم خاطب حاييم يافين يوءاف ليمور قائلاً: "إذن اتضح أن زعيم الجبهة الشعبية بطل إلى أن أصبح الأمر يتعلق بحياته...".

ليمور واصَلَ بنفس الروحية قائلاً: "بالنسبة لأحمد سعدات الذي ذكرته... أنظر، هو بطل على الآخرين... هؤلاء الناس يجيدون إرسال انتحاريين إلى حتفهم وحتفنا. ولكن عندما يصل ذلك إلى موتهم الشخصي تجدهم أبطالاً صغاراً جداً... الآن ما ينتظره هو زنزانة اعتقال ضيقة، في الأيام المقبلة سيخضع لتحقيقات الشاباك، ومن ثم بطبيعة الحال توجيه لوائح اتهام وأعتقد أنه سيمكث سنوات طويلة، طويلة جداً في السجن الإسرائيلي".

لم يقلع يافين عن هذا الخط أو النسق من الأسئلة، حيث وجه سؤالاً مشابهاً لمعلق الشؤون العربية عوديد غرانوت: "عوديد، كيف تفسر أن الرجل الذي أقسم على الموت، استسلم؟!"

 

على الرغم من أن العناوين روت، في اليوم التالي للعملية، قصة بسيطة بررت العملية في أريحا والطريقة التي جرت فيها، إلاّ أنه نُشرت أيضاً في نفس اليوم تقارير عَكَّرت هذا المزاج العام. هذه التقارير نشرت عموماً على الصفحات الداخلية وفي هوامش نشرات الأخبار، وقد تضمنت هذه التقارير تصريحات لمعلقين ومراسلين عرضوا صورة أكثر تعقيداً تطرقوا من خلالها إلى إنعكاسات العملية والطريقة التي نفذت بها. وذكر في هذا السياق أن العملية ذاتها، وخاصة تجريد أفراد الشرطة الفلسطينيين من ملابسهم وهدم مقر المقاطعة والسجن في أريحا- علماً أن الشرطة والمقر هما رمزان للسيادة الفلسطينية- أمام عدسات كاميرات التلفزة، سوف تُسهم في إضعاف مكانة (الرئيس محمود عباس) أبو مازن، وفي زعزعة استقرار السلطة الفلسطينية، وستؤدي في الوقت ذاته إلى تقوية حركة "حماس". بهذه الروحية كتب مثلاً روني شكيد تعليقاً نشر في الصفحة السادسة من عدد "يديعوت أحرونوت" 15/3 وذلك تحت عنوان "هدية لحماس، ضربة لأبي مازن"، ومما جاء في تعليق شكيد: "تعتبر العملية في أريحا ضربة تحت الحزام لمعسكر المعتدلين برئاسة أبو مازن وهدية أخرى لتعزيز مكانة حماس [...] لقد دُفن أمس المعسكر الفلسطيني المعتدل تحت أنقاض المقاطعة في أريحا"؟

 

عميت كوهين عالج أيضاً انعكاسات العملية على علاقات إسرائيل مع السلطة الفلسطينية، حيث كتب في تعليق نُشر على الصفحة السادسة في "معاريف" (15/3) تحت عنوان "صمت حماس":

تأتي العملية في أريحا (...) لتؤكد مرة أخرى على مفهوم الـ "لا شريك" والذي يهدف إلى تبرير الخطوات الأحادية الجانب... وسيكون هناك من الآن فصاعداً تجاهل (إسرائيلي) تام لتأثيرات وانعكاسات الخطوات الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية.

 

في الدقيقة الـ 16 من نشرة أخبار محطة تلفزيون "القناة 10" في 14 آذار، جرى الحوار التالي بين مقدم النشرة يعقوب إيلون وبين المعلق للشؤون العربية، تسفي يحزكيلي.

 

إيلون: "تسفي يحزكيلي، أنت تتحدث عن إهانة على مستويين اليوم: على مستوى السلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن، والثاني الطريقة التي خرج بها هؤلاء المعتقلون الفلسطينيون من سجن أريحا".

 

يحزكيلي: تماماً. لقد كان ذلك مهيناً من كل النواحي وبكل الأبعاد. كان مهيناً للفلسطينيين رؤية أفراد شرطتهم وهم ينزعون ملابسهم ويصعدون على الشاحنات، وكان مهيناً سماع أحمد سعدات يصرح بأنه لن يخرج إلا في تابوتٍ ثم يخرج في النهاية رافعاً يديه، كما أن ذلك يشكل في نهاية المطاف إهانة للسلطة الفلسطينية (...) في النهاية ثمة مشكلة كبيرة في إجراء مثل هذا الامتحان في مثل هذا الوقت الحساس بالنسبة للسلطة الفلسطينية.

 

كما رأينا فإن التطرق لانعكاسات العملية لم يصل خلال اليوم التالي للعملية إلى العناوين الرئيسية في الصحف والتلفزيون.

 

على هامش التقارير وبعيداً عن العناوين، ظهرت أيضاً مؤشرات ودلائل على أنه كان يمكن لإسرائيل اللجوء لقنوات عمل أخرى. فقد ذكر على سبيل المثال بأنه جرت محاولات ومساع دولية للتوسط بين الأطراف لضمان بقاء المطلوبين في السجن، وهذا ما تضمنه تقرير نشرته "معاريف" في 15/3 الصفحة 8 وتناول تغطية الأحداث (عملية أريحا) من قِبَلِ الصحافة الأجنبية، حيث ذكرت "معاريف": "أما وسائل الإعلام في إسبانيا فقد ركزت على محاولة وزير الخارجية الإسباني التوسط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية". وفي عنوان فرعي في صفحة 4 ذكرت أيضاً صحيفة "يديعوت أحرونوت" (15/3): أحمد الطيبي نقل رسالة مؤداها أن "أبو مازن" مستعد لتحمل المسؤولية عن القتلة (!) مصدر سياسي (إسرائيلي): لم نفكر مجرد تفكير بهذه الاقتراحات السخيفة (!)

 

هناك مسألة واحدة تناولتها وسائل الإعلام بطريقة أكثر جوهرية بعض الشيء وهي: العلاقة بين العملية العسكرية (في أريحا) وبين الانتخابات الإسرائيلية. فقد أثار عدد غير قليل من المراسلين والمعلقين الاشتباه بأن الاعتبار الانتخابي لحزب "كديما" شكل عاملاً مركزياً في تحديد طابع وتوقيت العملية. وعلى سبيل المثال، كتبت المراسلة السياسية سيما كدمون في تعليق نشر على الصفحة الأولى من "يديعوت أحرونوت" في 15 آذار:

القبض على قتلة زئيفي سقط في يد أولمرت كثمرة ناضجة: عملية سهلة، سلسة، لا أحد يطعن في شرعيتها، وفي توقيت سياسي رائع، تقدم إجابة لناخبي اليمين المترددين ولا تغضب في الوقت ذاته اليسار. فهل من باب الصدفة أو الحظ أن يغادر المراقبون (الأميركيون والبريطانيون) في توقيت رائع، وبما يمكن أولمرت من العثور قبل أسبوعين من الانتخابات على فرصته بضرب هدف مشابه لضرب المفاعل النووي العراقي (كما فعل مناحيم بيغن سنة 1981 قبل وقت قصير من موعد الانتخابات العامة في إسرائيل).

 

أثناء بث تقرير في نشرة أخبار "القناة 10" في 14 آذار، ظهر عضوا الكنيست أحمد الطيبي ويوسي بيلين وتحدثا عن موضوع العملية في أريحا.

 

قال الطيبي: "يبدو إذن أن الدم الفلسطيني، أو الموضوع الفلسطيني، هو الوقود الذي يحرك حملة الانتخابات والمنافسة الداخلية الإسرائيلية كالمعتاد".

 

بيلين أضاف قائلاً: "ثمة هنا خطر حقيقي بحدوث تدهور لا مبرر له. لا زال بالإمكان منع ذلك والاستماع لصوت العقل والمنطق وليس لصوت الانتخابات". غير أن هذه التصريحات لم تصل إلى العناوين.

 

التغطية في الأيام التالية- تساؤلات

 

إذا كانت قد ظهرت انتقادات معينة في يوم التغطية الأول فإن هذه الانتقادات لم تجد تعبيراً لها في العناوين. في المقابل أخذت العناوين الرئيسية لنشرات الأخبار في اليوم التالي للعملية، أي في 15 آذار، تتضمن نقداً صريحاً وحقيقياً للعملية. أما العناوين الرئيسية في الصحف فقد كفت عن تناول الموضوع الذي نُحيَّت تغطيته والانتقادات حوله إلى هامش أخبار هذه الصحف.

 

على سبيل المثال، أُستهلت نشرة أخبار القناة الأولى بالعنوان التالي وذلك على خلفية صورة للسجن المهدوم في أريحا: "أبو مازن يعود إلى المنطقة مصدوماً مهاناً... هكذا بدا اليوم "معسكر حنان" - المقاطعة، في أريحا- رمز السلطة الفلسطينية". بعد ذلك ظهر على الشاشة أبو مازن وهو يقول "ما جرى اليوم هو بلا شك جريمة لا تغتفر". وفي وقت لاحق من النشرة جرى الحوار التالي بين مقدم النشرة، حاييم يافين، وبين معلق الشؤون العربية عوديد غرانوت:

يافين: عوديد غرانوت، هذه إهانة غير معقولة، أليس هذا هو ما حصل؟.

غرانوت: أجل، كان هناك إهانة، وأبو مازن يصل بعد أن قطع زيارته، وذلك بعدما قالوا له: يجب أن تعود نظراً لأن ثمة هنا فراغا سلطويا والجميع يتساءلون أين أبو مازن".

يافين: إذن السؤال لماذا يعتبر ذلك جيداً لدولة إسرائيل... أن ندفعهم إلى الحائط؟ هذا المساء صدرت دعوات تحث حماس على تولي زمام السلطة.

غرانوت: صحيح، فحماس هي التي تستغل الوضع. إنها تقول: أنظروا، إسرائيل لم تحترم الاتفاقيات، لذلك نحن أيضاً يجب أن لا نحترم الاتفاقيات الموقعة بين السلطة وإسرائيل.

 

في ذات المساء استهلت نشرة أخبار محطة القناة الثانية على النحو التالي: حجيج إلى أطلال (أنقاض) سجن أريحا... مراسلنا التقى السجناء المفرج عنهم... ثم ظهر على الشاشة فلسطيني صرح قائلاً: "أجبرونا على خلع ملابسنا واقتادونا...".

 

أثناء تقرير بدأ في الدقيقة التاسعة من نشرة الأخبار (نشرة القناة الثانية) قال المراسل لشؤون المناطق يورام بينور: هناك أيضاً مخاوف من أن الرابح سيكون في النهاية كالمعتاد، حركة حماس. اعتقال أعضاء الجبهة الشعبية أمس يعفي حكومة حماس من المسؤولية عن سلامتهم، في حين يتعين على أبي مازن الآن تقديم التفسيرات والإيضاحات.

 

بعد ذلك انتقل البث إلى الأستوديو، حيث جرى هناك الحوار التالي بين مقدمة النشرة يونيت ليفي وبين معلق الشؤون العربية إيهود يعاري.

ليفي: معلقنا إيهود يعاري، إذن ليس في إسرائيل فقط يجرون الحساب حول من الرابح سياسياً مما حدث في سجن أريحا؟...

يعاري: بالفعل. أحد الأشخاص المرشحين لمشاركة حماس في الإئتلاف، مصطفى البرغوثي صرح قائلاً: لماذا نحتاج إلى أجهزة أمنية إذا كانت إسرائيل تقوم بإرغام عناصر هذه الأجهزة على نزع ملابسهم حتى السروال الداخلي... في هذا الوضع الذي يعاني فيه أبو مازن من ضعف جلي، تحاول حماس هذه الليلة بل وفي هذه الساعات تحديداً الانتهاء من مهمة تأليف الحكومة [...].

 

في محطة تلفزيون القناة العاشرة أعلن العنوان الثاني في النشرة: رئيس السلطة الفلسطينية يعبر عن غضبه في أريحا. ثم ظهر أبو مازن وهو يقول: "هذه جريمة لا تغتفر".

 

مقدمة النشرة، ميكي حايموفيتش، استمرت في هذا الخط حيث استهلت نشرة الأخبار بالكلمات التالية: "جريمة لا تغتفر وإهانة للشعب الفلسطيني... هكذا وصف رئيس السلطة الفلسطينية اليوم العملية الإسرائيلية في سجن أريحا. في حماس يطالبون أبو مازن بالاستقالة ويقولون إنه هو المسؤول عن الإهانة الفظيعة".

 

خلافاً لنشرات الأخبار التلفزيونية، ظل النقد في الصحف كما أسلفنا في هامش التغطية حتى في الأيام اللاحقة. صحيفة "يديعوت أحرونوت" (16 آذار) نشرت في الصفحة الرابعة مثلاً تقريراً رسم صورة فوضى عارمة في السلطة الفلسطينية... عنوان التقرير الذي قررَّ أن "السلطة الفلسطينية على وشك الانهيار" لم يطرح إمكانية وجود علاقة بين العملية في أريحا وبين تدهور وضع السلطة.

 

في هامش التقرير فقط ورد اقتباس ينطوي على مثل هذا الربط: نشطاء "فتح" طالبوا أمس أبو مازن بحل السلطة "بسبب عجزها عن مواجهة الاحتلال". وقال هؤلاء إنه يتعين على أبي مازن مطالبة دول العالم بتحمل المسؤولية عن مصير الفلسطينيين "في ضوء ما يتعرضون له من إهانة وإذلال على مرأى من العالم أجمع وحقيقة أن السلطة غير قادرة على حماية معتقليها".

 

في "معاريف" (16 آذار) كتبت ياعيل باز- ميلامد في زاوية الآراء المنشورة في الملحق اليومي للصحيفة: "مثل هذه النشوة والإجماع لم نعهدهما منذ سنوات طوال. إنه شيء يذكر بفرحة النصر عقب حرب الأيام الستة، أو تلك التي عمت عقب عملية (تحرير الرهائن المخطوفين) مطار عنتيبة. ليست فرحة كبرى فقط وإنما بالأساس كرامة وكبرياء، فها هو جيش الدفاع يكيل مجدداً ضرباته لأعدائنا بصورة سريعة ورشيقة، ويجعلهم يظهرون بأذيال الذل والمهانة... هذا هو "تساهل" الذي نحبه. صارم، حازم، بارع، والأهم منتصر. "قبضنا عليهم" هكذا بشرت "معاريف" في عنوانها الرئيسي، فيما أعلنت "يديعوت أحرونوت" في عنوانها "صُفيّ الحساب"... كلمتان فقط في كل صحيفة. كلمتان تعبران عن عودة الروح الإسرائيلية الفخورة.

 

والسؤال: ألهذه الدرجة فقدنا الثقة بجيش الدفاع الإسرائيلي وبأنفسنا حتى ننجرف إلى هذه المستويات من الدهشة والانبهار بعملية لم يكن هناك أدنى شك في أنها ستنتهي بانتصار الجيش الإسرائيلي؟

 

(...) إن المشكلة تكمن في تلك الروح الإسرائيلية ذاتها، والتي لا تعلو أو تتسامى إلاّ عند استخدام القوة. ونحن يطيب لنا رؤية الفلسطينيين مذلين مهانين...

 

إن النشوة التي اعترت شرائح الجمهور ليست مرتبطة فقط بنجاح العملية، بل ترتبط وتتعاظم برؤية عشرات الفلسطينيين يقتادون موثوقي الأيدي بسراويلهم الداخلية فقط، إلى الشاحنات لتنقلهم للتحقيق في إسرائيل".

 

وكان مراسلون ومحللون آخرون قد أشاروا إلى إمكانية أن تكون العملية في أريحا تشكل "نقطة تحوّل" في تعاطي إسرائيل مع السلطة الفلسطينية، وهو ما يشكل تغييراً إستراتيجياً في سياسة الحكومة أشار إليه أيضاً مسؤولون كبار في الهيئة الأمنية الإسرائيلية. وقد كتب المحلل العسكري أليكس فيشمان في زاويته بملحق السبت في صحيفة "يديعوت أحرونوت" (17 آذار): اقتحام سجن أريحا كان نقطة تحول في الوزن الذي تعطيه إسرائيل للجوانب المتعلقة باستقرار السلطة.

 

ولخص فيشمان: "وسيكون ذلك نمط التفكير والعمل في مواجهة السلطة الفلسطينية في المستقبل أيضاً. لقد انتقل الصولجان من التفكير السياسي إلى التفكير الأمني- العسكري. ويقرُّ العسكريون: هذا الوضع الجديد مريح لنا أكثر".

 

بن كسبيت كتب تحليلاً يحمل رسالة مشابهة، نشر في "معاريف"- ملحق السبت في 17 آذار، جاء فيه قوله: على الرغم من أن العملية في أريحا تعد من أبسط العمليات التي يمكن تصورها، إلا أننا رأينا أفضل جيش في الشرق الأوسط يجتاح (المقاطعة في أريحا) مدججاً ومعززاً بالدبابات والطائرات العمودية وطائرات التجسس بدون طيار وبالوحدات الخاصة والقناصة وبالبلدوزرات وكل ما يمكن تصوره من عتاد وتجهيزات، علماً أن أريحا مدينة هادئة، خالية تماماً من الإرهاب ولا يوجد فيها أكثر من عشرة بنادق كلاشينكوف [...] ولعل الشيء المقلق أن أحداً لم يتطرق إلى الأضرار والانعكاسات التي نجمت أو يمكن أن تنجم عن هذه العملية [...] تكتيكياً يمكن القول إن أولمرت سجل انتصاراً لصالحه، أما إستراتيجياً فهذا يتوقف على الزاوية التي يُنظر إلى الأمر منها.

 

بمنظور تاريخي سيتضح أن عملية أريحا هي خطوة كبيرة أخرى على طريق الشطب شبه النهائي للخيار الفلسطيني ... وهكذا فإن توجه أريئيل شارون القاضي بأنه "ليس هناك من يمكن التحدث معه" و"لا يجوز الثقة بالعرب" أخذ يكتسب المزيد من المشروعية والإجماع حوله في إسرائيل... وما هي إلا مسألة وقت حتى يعتاد باقي العالم هذا التوجه ذاته.

 

خلاصة القول: لقد ساندت وسائل الإعلام الإسرائيلية وبررت عملية الجيش الإسرائيلي في أريحا منذ البداية بصورة متحمسة، ونادراً ما تناولت انعكاساتها المحتملة على السلطة الفلسطينية والمنطقة عموماً. وقد انتهجت وسائل الإعلام الإسرائيلية في هذا الخصوص نمطاً مألوفاً في تغطيتها للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة خاصة. وبحسب ما يتضح من التحقيق المنهجي الذي قام به "مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل" ("كيشف") فقد تصرفت وسائل الإعلام الإسرائيلية بنفس الطريقة أيضاً في تغطية الأيام الأخيرة للرئيس (الراحل) ياسر عرفات.