على هامش المشهد

نتنياهو يتوجه إلى انتخابات بعد 26 شهراً وهي الفترة الأقصر الثانية في تاريخ الانتخابات البرلمانية *الخلافات بين مركّبات الائتلاف الحاكم كانت انعكاسا لقلق العلمانيين من المستقبل المتوقع لهم أمام تحول المتدينين الى أغلبية اليهود ثم السكان التصادم بين ممثلي الذراعين المسيطرين على الحكومة- حيتان المال واليمين المتطرف- جاء أسرع بكثير مما هو متوقع استطلاعات الرأي تتنبأ بحكومة أخرى غير مستقرة

 كتب برهوم جرايسي:

سجل بنيامين نتنياهو بين العامين 2009 و2013، "رقما قياسيا"، إن جاز التعبير، في عمر الولاية البرلمانية الإسرائيلية، منذ العام 1996، إذ استمرت الولاية قبل الأخيرة لفترة 48 شهرا، رغم أنها انتهت بانتخابات مبكرة، ولكنها جاءت بعد معدل دورات، بالكاد وصل إلى 33 شهرا، ولكن في المقابل، فإن الدورة المنتهية، سجلت هي أيضا "ذروة" في قُصر عمر الولاية البرلمانية، منذ العام 1961، إذ استمرت 26 شهرا.

  إلا أن القضية ليست حسابات عددية، ولا نزوات شخصية، بل حالة صدام، جاء أسرع بكثير مما كان متوقعا، بين ممثلي الذراعين الممسكين بهذه الحكومة، حيتان المال المعنيين بتطبيق سياسة اقتصادية شرسة، وبين التيار اليميني الأشد تطرفا، الذي تناغم مع حيتان المال بمطالبهم، ولكنه ذهب بعيدا في شراهته، لسن أكثر ما يمكن من القوانين المتطرفة، سياسيا وحتى اجتماعيا، وقانون "القومية" كان الحلبة الأبرز لحالة الصدام هذه، وفيها تفجّرت صراعات كانت ما تزال هامدة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي.

  العناوين والحقيقة الأعمق

 
كثرت العناوين الرئيسة، التي تصدرت الصحف الإسرائيلية المركزية، أو النشرات والبرامج الاخبارية، التي أخذت الأزمة إلى الجانب الشخصي، كعادة معظم التحليلات الإسرائيلية، فتارة نتنياهو يسعى إلى اغتنام فرصة "وضعه الجيد" في استطلاعات الرأي، وتارة أنه قلق من القانون الذي اقراره نهائيا كان سيحظر استمرار توزيع صحيفة "يسرائيل هيوم" المجانية، الموالية بالمطلق لشخصه، ومن ثم لليمين، ويمولها صديقه الشخصي شلدون أدلسون.

قليل من تلك العناوين اتجه نحو تحليلات سياسية، ولكنه بقي متصلا بالجانب الشخصي، مثل أن نتنياهو اعتبر أن سن قانون "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي في العالم"، سيضعه في خانة "عظماء إسرائيل"، وأن تركيبة الحكومة الحالية، كانت ستمنع الاقرار الكلي لهذا القانون بالصيغة التي يريدها اليمين المتشدد بقيادته.

لكن بالإمكان القول إن الأسباب الحقيقية لسرعة انهيار هذه الحكومة، ما نقض كل التوقعات السابقة، كانت غائبة عن تلك "العناوين الرئيسة"، ولكن مؤشراتها كانت ظاهرة في خطابات الساسة، مباشرة أو بشكل غير مباشر، وهو أن هذه الحكومة شكّلت حالة التلاقي الأبرز والأشد، لحيتان المال، كبار الرأسماليين، المسيطرين على الاقتصاد، المعنيين بسياسة اقتصادية تخدم مصالحهم أولا، مع اليمين الأشد تطرفا بقيادة بنيامين نتنياهو، الذي هو "الشخص الأقوى" لحالة تلاقي السياستين، ولكن وحده لا يستطيع أن يقود، وبلغت لديه "الجرأة"، كتعبير مخفف، إلى مستوى أن يتهم الجمهور، لأنه لم يعطه القوة الكافية، ليطبق برامجه على الأرض رغم سياسته الاقتصادية التي واصلت توسيع الفجوات الاجتماعية، وإسرائيل من أكثر الدول اتساعا لهذه الفجوات، وفق تقارير دولية ومحلية، ورغم سياسته وموقفه من القضية الفلسطينية وحل الصراع، فهو واصل اتباع سياسة الجمود في المفاوضات، وتطبيق أخطر المخططات الاستيطانية المتسارعة.

ولأن نتنياهو لم يستطع تحقيق الأغلبية بمفرده، بطبيعة الحال، فإنه في الانتخابات السابقة، كانون الثاني 2013، التقى مع الرأسين الآخرين للمثلث الذي يتوق له، ليقف على رأسه، ويُطبق على السياسة الاقتصادية التي يريدها: يائير لبيد، الذي أنشأ وقاد حزب "يوجد مستقبل"، ونفتالي بينيت، الذي كان الشخص المركزي في توحيد أحزاب المستوطنين الأشد تطرفا، وقاد اللائحة المشتركة تحت اسم "البيت اليهودي".

فيائير لبيد خاض تلك الانتخابات راكبا على موجة الاحتجاجات الشعبية على غلاء المعيشة، التي اندلعت في إسرائيل لبضعة أسابيع قليلة، وعبّرت أساسا عن مصالح ومطالب الشريحة العليا، من ضمن الطبقة الوسطى، فرفع سلسلة من الشعارات الاقتصادية الاجتماعية، التي ساهمت في أن يحقق قوة برلمانية لم تقرأها أي من استطلاعات الرأي، التي سبقت الانتخابات، وحصل على 19 مقعدا من أصل 120 مقعدا، وهو العدد الأكبر لحزب من هذا النوع، في تاريخ الانتخابات البرلمانية، إذ أن من قبله كانت حالتان: في العام 1977 حينما حصلت لائحة "داش" على 15 مقعدا، وانهارت في الانتخابات التالية 1981، والثانية في العام 2003، حينما حصلت لائحة "شينوي" برئاسة والد يائير، يوسيف (طومي) لبيد، على 15 مقعدا هي الأخرى، وانهارت كليا في الانتخابات التالية في العام 2006، مع فارق واحد، وهو أن "شينوي" كانت قد حصلت في انتخابات 1999 على 6 مقاعد.

وقرأنا لاحقا أن لبيد خاض الانتخابات بعد أن حصل على ضمانات مالية، ساعدته في الحصول على اعتمادات مالية من البنوك، من 78 ثريا، بمستويات ثراء متفاوتة، وكل واحد منهم قدم ضمانات بقيمة 27 ألف دولار، ولكن كما جرت العادة، فإن المساهمات المالية الحقيقية، من كبار رأس المال، لا تظهر على الملأ ولا تسجل في السجلات الرسمية، فهي مساهمات تظهر وكأنها ليست مباشرة، أو ذات علاقة بذلك الحزب.

 
وفي المقابل، فإن الضابط في الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، نفتالي بينيت، من التيار الديني الصهيوني، "المحبوب" لدى المستوطنين في الضفة الغربية، خاض تلك الانتخابات بشعارات التيار الذي ينتمي اليه، رافضا قيام دولة فلسطينية، وداعيا لبناء المستوطنات في كل بقعة من الضفة والقدس المحتلة، وفي الجولان.

ولم تكن الأجندة الاقتصادية الاجتماعية بارزة في برنامج "البيت اليهودي"، الذي حقق لأول مرّة منذ سنوات الستين، 12 مقعدا ضمن كتلة واحدة، للتيار الديني الصهيوني، علما أن هذا التيار خسر أكثر من مقعدين في الانتخابات السابقة، بفعل عدم اجتياز لائحة ثانية، تنافس بالتطرف، ويقودها أنصار وتلامذة الحاخام العنصري المتطرف السابق مئير كهانا زعيم حركة "كاخ". 

وما يجمع الاثنين، أن لبيد يُعد نجما في مجتمعه العلماني، في "دولة تل أبيب"، كما هو المصطلح الشائع إسرائيليا، للتعبير عن العلمانية ومجتمعها المتحرر، بينما يُعد بينيت نجما لدى الجمهور الأكثر تطرفا سياسيا، ونجح كل واحد منهما في أن يقتنص كم الأصوات الأكبر من الجمهور الذي "كُلف به".

لكن حقيقة الاثنين تأكدت من خلال المفاوضات لتشكيل حكومة نتنياهو المنهارة، فلبيد أراد حقيبة المالية، بينما بينيت، الذي كان يُفترض أن يطالب بحقيبة سياسية، اختار حقيبة "الاقتصاد" الموسعة، التي تضم عدة وزارات كانت قائمة من قبل، وظهر الاثنان كحليفين، وسط الكثير الكثير من علامات السؤال، ولعبا معا دور "السد" في وجه نتنياهو، وكأنهما يفرضان عليه شروطا، والشرط، الذي طالما حلم به نتنياهو: "حكومة من دون حريديم"، على شاكلة حكومة أريئيل شارون، 2003- 2005، التي كان فيها نتنياهو وزيرا للمالية، ووضع أشرس سياسة اقتصادية، لا يمكنه تطبيقها في حكومة يشارك فيها نواب المتدينين المتزمتين "الحريديم".

وبعد أن "أنجزا" مهمة شكل الحكومة- من دون حريديم- انتقل كل واحد منهما لتنفيذ "المهمة"، فوضع لبيد بالتنسيق مع نتنياهو، موازنة مزدوجة للعامين 2013 و2014، تقشفية بدرجة عالية، وفي مركزها ضرب مخصصات الأولاد، التي تتقاضاها كل عائلة في إسرائيل، عن كل ولد لديها يقل عمره عن 18 عاما، وبلغ مقدار التقليص أكثر من 800 مليون دولار، وانقلب لبيد على كل شعاراته الانتخابية، حتى فيما يتعلق بالشريحة الوسطى.

 
أما بينيت فإن أول ما أمسك به، في وزارة "الاقتصاد"، كان القانون "الاشكالي" من ناحية كبار حيتان المال، وهو قانون منع تعدد الاحتكارات، للمجموعة الاقتصادية الواحدة، فعلى الرغم من أن القانون مطروح على أجندة الكنيست، منذ سنوات عديدة، فقد تم الانتهاء من تشريعه في غضون أشهر قليلة، ولكن ليس قبل افراغه من مضمونه الحقيقي، فنذكر مثلا، أن القانون سيسري فعليا على وسائل الإعلام المركزية التجارية، ليس قبل العام 2030، إذ أن القانون يقر سريانه على قنوات التلفزة والإذاعات التابعة للسلطة الثانية للبث، المخصخصة، في العام 2017، بينما العطاءات على الشركات ستكون في العام المقبل 2015 ويبقى مفعول العطاءات حتى العام 2030، ولا يمكن تطبيق القانون على ما هو قائم!.

 
وحينما نعلم أن وسائل الإعلام التجارية- شبه الرسمية، يسيطر عليها حيتان المال، فحينها نعرف السبب.

 
التماسك والانهيار

نجح هذا الائتلاف الحاكم بإنهاء عامه الأول، في نهاية الدورة الشتوية السابقة، بتماسك غير مسبوق، وجرى في تلك الدورة اقرار سلسلة من القوانين الكبرى التي لوّح بها كل واحد من الأحزاب المشاركة، ومنها ما كان مطروحا منذ سنوات، إلى جانب تطبيق السياسة الاقتصادية، وكانت قوانين على المستوى السياسي والصراع، وعلى مستوى أنظمة الانتخابات والعمل البرلماني، بهدف أول: التقليل من وزن العرب البرلماني، ومن ثم السياسي العام.

 
فقد رأينا  قانونا هو عمليا تعزيز لقانون "الاستفتاء العام" القائم، إذ جرى تحويل قانون "الاستفتاء العام"، الذي أقر في العام 2010، إلى قانون "أساس"، وبموجب الأنظمة الإسرائيلية لا يجوز الغاؤه، إلا بأغلبية عددية من 61 نائبا، وكل أغلبية دون ذلك لا تحسب. ويقضي قانون "الاستفتاء العام"، بأن أي اتفاق لحل الصراع تتوصل له الحكومة الإسرائيلية ويتضمن انسحابا من مناطق تقع تحت ما يسمى بـ "السيادة الإسرائيلية"، سيحتاج إلى أغلبية عددية في الكنيست من 80 نائبا، وفي حال لم تتحقق هذه الأغلبية ولو بنائب واحد، فسيتم التوجه إلى "الاستفتاء العام"، وفي ظروف الشارع الإسرائيلي الحالية، وللمستقبل المنظور، فإن ضمان أغلبية كهذه في البرلمان أو في الشارع شبه معدومة.

 
ويتعلق هذا القانون أساسا بمنطقة مدينة القدس الكبرى وما تم ضمه من مناطق لها، ومرتفعات الجولان السورية المحتلة، بعد أن كان الاحتلال قد فرض على هاتين المنطقتين "القانون الإسرائيلي" في الماضي، كما سيسري القانون على أي مناطق ستكون ضمن اتفاق "تبادل أراضي".

 
كما أقر الكنيست بالقراءة النهائية رفع نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانية من 2% إلى 25ر3%، وسوية معه قانون ما يسمى "استقرار الحكم"، وقد فصّل اليمين الإسرائيلي القانونين بمواصفات تعزز سيطرته هو على الحكم، والهدف المركزي الأساس من هذين القانونين، ضرب التمثيل السياسي البرلماني للمواطنين العرب، إضافة إلى تقويض دور المعارضة، وإضعاف مكانة الهيئة التشريعية، ليعزز أكثر قبضة حكم اليمين على المؤسسة الحاكمة.

 
فليس صدفة أنه تم اختيار نسبة 25ر3% كنسبة حسم، بدلا من 2% قبل اقرار القانون، لأن هذه النسبة الأعلى التي وصلت لها لائحة انتخابية تمثل شريحة سياسية من المواطنين العرب، وهذا الأمر سيفرض على العرب أن يخوضوا الانتخابات إما في لائحة واحدة أو لائحتين، وهذا ليس بالضرورة سيكون مظهر "وحدة" أو يضمن قوة أكبر، لأن عدم التعددية الفكرية والسياسية في داخل المجتمع العربي قد تدفع بمجموعات كبيرة للجلوس جانبا.

 
كذلك فإن تفاصيل قانون ثبات الحكم فيها أيضا محاولة لتحييد النواب العرب، فأولا يضع القانون تقييدات على اقتراحات حجب الثقة عن الحكومة، وسيحتاج حجب الثقة عن الحكومة إلى أغلبية عددية من 61 نائبا، وأي أغلبية أخرى تقل عن ذلك من بين المتواجدين في الهيئة العامة لدى التصويت لا يتم احتسابها وهذا كان قائما في القانون قبل تعديله، ولكن الجديد الأخطر في هذا القانون هو أنه في حال تم حجب الثقة عن الحكومة بالأغلبية المطلوبة فإن الحكومة تواصل عملها كالمعتاد كاملة الصلاحيات، وليس كحكومة انتقالية، وذلك إلى حين تشكيل حكومة بديلة ترتكز على 65 نائبا من أصل 120 نائبا، وهذا عدد ليس صدفة، لأن فارق عشرة نواب يأخذ بعين الاعتبار معدل القوة البرلمانية للكتل التي تمثل المواطنين العرب في السنوات الأخيرة.

 
وبعد جدل سنوات طويلة، أقر الكنيست القانون الذي يفرض الخدمة العسكرية على الشبان المتدينين المتزمتين "الحريديم"، الذين يرفضون الخدمة من منطلقات دينية وشرائعية، رغم توجهاتهم اليمينية، ولكن في القانون ما يسمح تعديله مستقبلا، إذ أنه يدخل حيز التنفيذ تدريجيا، وهو يواجه معارضة صاخبة جدا لدى جمهور "الحريديم".

 
إضافة إلى قوانين عنصرية خطيرة، ولكن مستواها استراتيجي بدرجة أقل، وإلى جانب كل هذا، فإن من يجري اعتبارهم "وسطا سياسيا"، مثل يائير لبيد، وتسيبي ليفني، لم يعترضوا على مشاريع الاستيطان، كما انهم لم يضغطوا بالقدر الكافي للتوجه نحو مفاوضات جدية وحقيقية تقود إلى حل، مع الجانب الفلسطيني، بل بالإمكان القول إن ليفني كانت تسعى لهدف إدارة المفاوضات، وليس حل الصراع، وحينما تفجّرت المفاوضات كليا، سارعت إلى توجيه الاتهام للجانب الفلسطيني.

قلنا سابقاً، بعد انتهاء الدورة الشتوية، في ربيع العام 2014، إن هذه الحكومة الأكثر تماسكا، ولا يبدو أن عمرها سينتهي قبل انتهاء الولاية القانونية في خريف العام 2017، لكن في تلك الأيام لم يكن ظاهرا أن اليمين الأكثر تشددا وتطرفا سيندفع بشراهته نحو مشاريع قوانين، تثير صراعات هامدة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وهذا ما كان بالإمكان توقعه، إذ لم يكن واضحا في تلك الأيام، أو على الأقل لم يكن واضحا أن نتنياهو شخصيا سيكون ذراعا دافعا لهذا.

 
الصراع حول  "الدولة القومية"

الخلاف الجوهري حول قانون ما يسمى "إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي"، بقصد "الشعب اليهودي في العالم"، كان أبعد من العنوان المركزي والأول للقانون، الذي لم يختلف عليه أحد من مركّبات الحكومة، وأيضا في صفوف المعارضة، وهو البند الأساس، وما يتبعه من "حق الهجرة إلى إسرائيل"، وهو ما سيكون عقبة مركزية أمام حل الصراع، بما يشمل حق عودة اللاجئين، وأكثر من هذا فإن الخطورة تتفاقم، حينما لا تقر إسرائيل حدودها رسميا، وفي الوضع القائم بالإمكان القول إن القانون يسري على فلسطين التاريخية، وهوية المبادرين والضاغطين لسن هذا القانون تعزز هذا الاستنتاج.

لكن الخلاف الجوهري بين مركّبات الائتلاف يدور حول مكانة الشرائع اليهودية التوراتية، التي يريدها المبادرون ملهما ومرجعا لقوانين إسرائيل، ولجهاز القضاء، طالما لم يكن قانون يرد على أسئلة ناشئة، وأيضا مفهوم الديمقراطية والمساواة.

ومن الواضح أن تأخر بند المساواة، في أولويات القانون، وجعلها مساواة على مستوى حقوق الفرد فقط، لكل من هو "غير يهودي"، تستهدف المواطنين العرب، وحرمانهم مستقبلا من احتمال الاعتراف بهم كأقلية قومية، لها حقوق قومية في وطنها. ولكن بنظر العلمانيين، الممثلين عمليا بيائير لبيد وتسيبي ليفني، اللذين يمثلان العلمانية بمفهوم "دولة تل أبيب"، فإن مكانة الديمقراطية والمساواة، المتأخرة، ومسألة الشريعة اليهودية ومكانتها، ستعطيان جمهور المتدينين مستقبلا سطوة أكبر على مقاليد الحكم، إن كانوا من "التيار الديني الصهيوني"، أو من المتدينين المتزمتين "الحريديم".

 
فجمهور العلمانيين يعرف أن نسبته في تراجع متسارع بين اليهود، لصالح المتدينين، وحسب توقعات بحث في جامعة حيفا فإن المتدينين على أنواعهم سيشكلون أغلبية بين اليهود وحدهم، في السنوات الأولى بعد العام 2020، ولكن في العام 2030 سيكونون 51% من إجمالي سكان إسرائيل، ما يعني 65% من اليهود وحدهم، وهذا يعني أنه سيكون من الصعب على العلمانيين زحزحة قوانين واقعة تحت الاكراه الديني، تعديلها أو الغائها.

 
وهذا القانون لم يكن وحده، بل هناك مواطن خلاف أخرى، مثل قانون التهويد، الذي كان الهدف منه تقليص سطوة الحاخامية الرئيسية في إسرائيل على مسارات التهويد، ولكن من المفارقة أنه حول هذا القانون اتفق العلمانيون مع التيار الديني الصهيوني، الذي هو أخف تشددا من "الحريديم" من الناحية الدينية، وكان نتنياهو يعارض القانون، لكونه يثير غضب "الحريديم"، بوصفهم قوة احتياط لدعم حكومته الحالية أو المقبلة، في حال أنشأنها.

 
إن التصادم بين جمهور العلمانيين وسطوة المتدينين كان أمرا متوقعا وكان مسألة وقت، إلا أنه جاء مبكرا، واسرع بكثير من كافة التوقعات، بفعل قانون "القومية"، الذي بادر له نواب من اليمين الأكثر تشددا، وهو أصلا تبلور كنص أول، قبل أكثر من ست سنوات، في معاهد استراتيجية لحركات صهيونية يمينية متطرف.

 
وهذا التصادم، الذي قاد الى تفجّر حكومة نتنياهو، يفسر عامل "المفاجأة"، الذي برز من التحالف الوثيق بين لبيد العلماني وبينيت المتدين، لدى تشكيل الحكومة بعد الانتخابات الأخيرة، فقد كان التقاء بين متناقضين، وكما يبدو لخدمة هدف واحد: حيتان المال، الذين ساعدوهم على الوصول بقوة إلى الكنيست، ولكن أولئك، لم يأخذوا بالحسبان ظهور هذه التناقضات.

 
استمرار عدم الاستقرار

رغم كل ما سبق من جوهر، إلا أنه ما من شك أن المصالح الحزبية، وأيضا المصالح الشخصية، على مستوى صراع البقاء على الحلبة السياسية، لعبت هي أيضا دورا، وساهمت ولو بقدر ما ببلورة القرار الظاهر، إلا أن بنيامين نتنياهو إذا كان قراره الهروب من أزمة، من أجل ضمان بقائه رئيسا للحكومة بعد أي انتخابات مقبلة، فإنه عمليا يهرب إلى أزمة قد تكون أشد عمقا، فهو قد يرأس الحكومة التالية، وفق ما تشير له استطلاعات الرأي حتى الآن، إلا أنه لا يوجد ما يضمن أن يكون على رأس حكومة مستقرة.

 
فكل استطلاعات الرأي العام حتى الآن تشير إلى أن الانتخابات المقبلة ستكون أكثر تشرذما، فنحن قد نرى عددا أقل من الكتل البرلمانية، إلا أن هذا سيكون ناجما عن تحالف أحزاب تخوض الانتخابات ضمن لوائح انتخابية مشتركة، ولكن نموذج "الليكود" و"إسرائيل بيتنا" ليس وحيدا، فهناك أيضا تحالف اليمين المتشدد، ضمن "البيت اليهودي" الذي يواجه أزمة داخلية بين اطرافه، قد يتم تجاوزها لغرض الاستمرار، ولكنها مؤشر لأزمات لاحقة.

 
وحتى الاستطلاع الأخير لم تظهر الكتلة البرلمانية الواحدة القوية، فأكبر عدد مقاعد نسبيا كان من نصيب حزب "الليكود"، ما بين 22 إلى 24 مقعدا، من أصل 120 مقعدا، وغالبية الكتل حتى الآن، تحصل على ما بين 8 إلى 17 مقعدا، ما يعني ان أي حكومة سيشكلها نتنياهو، حسب الافتراض القائم، سترتكز على ست أو سبع كتل برلمانية، وإن جرى تحالف في ما بينها فهذا لن يغير من واقع الحال بأنه لا يوجد للحكومة المقبلة حزب واحد متين، يسيطر على ثلث المقاعد على الأقل، كما كانت الحال حتى انتخابات 1992.

 
تتجه إسرائيل في ربيع 2015 إلى الانتخابات البرلمانية الـ 20، وحتى الآن لم تجر سوى خمس انتخابات برلمانية في موعدها القانوني، وآخرها كان في العام 1988، وكانت أصغر ولاية برلمانية، امتدت لمدة 17 شهرا، بين العامين 1959 و1961، وتحل في المرتبة الثانية، هذه الانتخابات التي تجري بعد 26 شهرا من الانتخابات السابقة.

 
وبحسب نتائج الاستطلاعات الواردة حتى الآن فإن الحلبة السياسية الإسرائيلية تدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، لكن في خضم كل هذه العواصف السياسية هناك من يسير بثبات ويحقق "إنجازات" لأجندته، ويوثق قبضته على مؤسسات الحكم بكل أشكالها، وهو اليمين المتشدد والأكثر تطرفا.