على هامش المشهد

 

"سلب حق التظاهر في الضفة الغربية انتهاك ينبغي وقفه"!

 

 

 

*"ورقة موقف" أصدرتها "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل": يتوجب على دولة إسرائيل - كدولة احتلال في الضفة الغربية - أولا وقبل كل شيء، الاعتراف الصريح بسريان الحق في التظاهر في المناطق المحتلة. ثم يتوجب عليها، تاليا، وضع قواعد ومعايير واضحة لا لبس فيها بشأن ضمان الحق في حرية التعبير والحق في التظاهر في الضفة الغربية، سواء من خلال المظاهرات الأسبوعية أو أية أعمال احتجاجية أخرى*

 

يخضع الفلسطينيون في المناطق المحتلة للقانون العسكري الإسرائيلي ولجهاز القضاء (العسكري) الإسرائيلي، الذي وضعه وأرساه الحاكم العسكري الإسرائيلي، وهو قضاء متشدد بصورة استثنائية في طبيعته، بكونه قضاء عسكريا احتلاليا، بينما يخضع المستوطنون اليهود في المناطق الفلسطينية المحتلة للقوانين الإسرائيلية ولجهاز القضاء المدني الإسرائيلي، ما يعني تمتعهم بجميع الحقوق المكفولة قانونيا.

وعلى هذا، فمن المعروف أنه يترتب على هذه الوضعية القانونية والقضائية مسّ خطير ومتنوع بحقوق الإنسان الفلسطيني الأساسية في المناطق المحتلة وبكرامته يطال مختلف جوانب حياته، اليومية والمستقبلية. ورغم أن هذا المسّ والتعدي على حقوق أساسية من حقوق الإنسان يتعارضان، نصا وروحا وتطبيقا، مع مجموع القوانين والمواثيق الدولية المختلفة، ناهيك عن مبادئ وأسس القضاء الإسرائيلي ذاته الذي يفترض أن يسري على جميع الأذرع السلطوية الإسرائيلية أينما كان تمثيلها ووجودها وأينما تدخلت، إلا أن هذا التعارض الصارخ لا يغير من الواقع شيئا، حتى الآن ورغم مرور عقود طويلة على الاحتلال.

وبالرغم من التماسات عديدة قدمتها منظمات حقوقية مختلفة، فلسطينية وإسرائيلية، إلى "محكمة العدل العليا الإسرائيلية" ضد خروقات وانتهاكات عينية لحقوق الإنسان الأساسية (مثل: الحق في الحرية، الحق في إجراءات قضائية منصفة، الحق في الكرامة الشخصية، الحق في المساواة، حق التملك، الحق في الملكية وغيرها)، وعلى الرغم من بعض القرارات التي صدرت عن هذه المحكمة في قضايا عينية، إلا أن الوضع بمجمله لا يزال على حال التعدّي الصارخ والمسّ الشديد بحقوق الإنسان الفلسطيني الأساسية في المناطق المحتلة.

ومن بين الالتماسات هذه، والتي لا تزال تنتظر البتّ النهائي بشأنها في "المحكمة العليا"، التماس قُدم في أيار من العام 2010 ضد فترات الاعتقال الطويلة جدا والمبالغ فيها بصورة استثنائية التي تُفرض على الفلسطينيين في الضفة الغربية، قبل تقديم لوائح اتهام بحقهم. وفي أعقاب تقديم هذا الالتماس، أدخل الحاكم العسكري بعض التعديلات في أحكام القانون العسكري قضت بتقصير جزء من فترات الاعتقال هذه، لكن ليس إلى حد مساواتها بالفترات التي تُفرض على المستوطنين الإسرائيليين بالشبهات والتهم ذاتها. لكن هذه التعديلات "ليست كافية"، وفق ما أكدت المحكمة ذاتها في قرار حكم جزئي أصدرته في هذا الالتماس في نيسان هذا العام. وأشار قرار المحكمة، آنذاك، إلى ثلاثة مسائل محددة لا ترى أن تعديلات الحاكم العسكري يعالجها ويقدم لها "حلولا مرضية"، هي: فترات الاعتقال بحق القاصرين الفلسطينيين؛ فترات الاعتقال بحق البالغين الفلسطينيين المشتبه بهم بارتكاب مخالفات لا تُعتبر "مخالفات أمنية"؛ فترات الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القضائية. وعلى هذا، أمرت المحكمة العليا الحاكم العسكري الإسرائيلي (الدولة الإسرائيلية / الحكومة الإسرائيلية) بإعادة النظر في هذه المسائل وفحصها ثم تقديم رد إلى المحكمة.

وإلى جانب ذلك، رفضت المحكمة الالتماس في كل ما يتعلق بفترات الاعتقال بحق بالغين فلسطينيين مشتبه بهم بارتكاب مخالفات تعتبر "مخالفات أمنية" واعتبرت المحكمة أنه "في أعقاب التسهيلات التي أعلنت عنها الدولة، في إثر تقديم الالتماس، فإن فترات الاعتقال هذه تبدو معقولة وتناسبية"!! على الرغم من كونها، بعد هذه "التسهيلات"، طويلة جدا واستثنائية بوجه خاص، لا سيما بالمقارنة مع تلك المفروضة على المستوطنين اليهود الإسرائيليين.

 

التظاهر ـ مخالفة "أمنية" محظورة بأمر عسكري!!

 

 

في هذا السياق، تنبغي الإشارة إلى أن تعريف "مخالفة أمنية" هو تعريف "قانوني"(!) ـ سياسي وضعه الحاكم العسكري، في إطار "القانون العسكري" المفروض على المناطق الفلسطينية المحتلة. ومن بين هذه المخالفات: "التظاهر"!

ففي آب من العام 1967، أي بعد نحو شهرين من انتهاء عدوان حزيران 1967 واحتلال الضفة الغربية، وقع الحاكم العسكري (قائد المنطقة العسكرية الوسطى) أمرا عسكريا حمل الرقم "الأمر 101" وعنوانه: "أمر بحظر أعمال تحريضية ودعائية معادية". ومنذ ذلك التاريخ، تم تعديل هذا الأمر بضع مرات ولا يزال ساريا في الضفة الغربية.

ينطلق "الأمر 101" من قاعدة أن السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية لا يتمتعون بحق التظاهر أو الحق في (حرية) التعبير ـ وهما من حقوق الإنسان الأساسية التي تكفلها القوانين والمواثيق الدولية وأحكامها. وإلى جانبهما، يحظر هذا الأمر أيضا أية مقاومة غير عنيفة (سلمية) وأية احتجاجات مدنية، بما فيها التجمهر الهادئ! ويفرض هذا الأمر العسكري قيودا مشددة جدا على حق الإنسان الفلسطيني في الضفة الغربية في المشاركة في تظاهرات أو تنظيمها ويحدد عقوبة السجن لمدة عشر سنوات (أو غرامة مالية باهظة) على مَن يرتكب هذه "المخالفة"!

على هذه الخلفية، أصدرت "جمعية حقوق المواطن" في إسرائيل، في أوائل تشرين الأول الجاري، "ورقة موقف" شاملة حول هذا الموضوع تحت عنوان: "مكانة الحق في التظاهر في المناطق المحتلة"، أعدتها المحاميتان رغد جرايسي وتمار فيلدمان (من الجمعية ذاتها)، وتشكل وثيقة هامة تحاول الإجابة على السؤال المركزي التالي: ما هي المكانة القضائية التي ينبغي أن يتمتع بها حق التظاهر في منطقة خاضعة لاحتلال متواصل، بوجه عام، وفي الضفة الغربية بوجه خاص، وما هي الفوارق والفجوات بين الموجود (القائم) وبين المطلوب (المرغوب)؟ وتشير المقدمة، توضيحا، إلى أن "الضفة الغربية" في سياق هذه الورقة لا تشمل القدس الشرقية، لأن سكانها لا يخضعون للحكم العسكري (رسميا، على الأقل!)، وذلك نتيجة لقرار إسرائيل ضمها إليها وفرض القانون الإسرائيلي عليها، في إثر احتلالها في العام 1967، علما بأن عملية الضم تتعارض مع أحكام القانون الدولي، ما يعني أن المدينة (القدس الشرقية) لا تزال تعتبر منطقة محتلة، طبقا لأحكام هذا القانون وطبقا لموقف سكانها الفلسطينيين والمجتمع الدولي عامة.

وتشمل "ورقة الموقف" معالجات للمواضيع التالية: عرض تفصيلي للإطار القانوني السائد في حالة الاحتلال، تحليل للعلاقة التبادلية التفاعلية بين قوانين الاحتلال وقوانين حقوق الإنسان في هذا السياق، مكانة الحق في التظاهر وحدوده، سواء طبقا لقوانين الاحتلال أو طبقا لقوانين حقوق الإنسان، تحليل المكانة القانونية المعيارية المرغوب فيها لحق التظاهر في الضفة الغربية اليوم، عرض توصيفي للواقع السائد ميدانيا في الضفة الغربية مع فحص ما إذا كان يتلاءم مع الأحكام الملزمة طبقا للقانون الدولي الساري على المناطق المحتلة، ثم تلخيص واستنتاجات.

تُستهل "الورقة" بمقدمة توضح الوضعية القانونية للضفة الغربية المحتلة باعتبارها منطقة تم احتلالها عسكريا من جانب دولة إسرائيل قبل سبعة وأربعين عاما ومنذ ذلك الحين لم يعد السكان الفلسطينيون أسيادا على حياتهم ومصيرهم. فهم لا يحظون بأي تمثيل لدى السلطة (العسكرية) المفروضة عليهم وليس في وسعهم التأثير على قراراتها، رغم أن هذه تؤثر في مجريات حياتهم على مختلف المستويات والأصعدة. ومن هنا، تشكل المظاهرات، عمليا وواقعيا، السبيل المركزي الذي تبقى لديهم سعيا إلى تحقيق حكمهم ذاتيا، رفع صرختهم وإسماع كلمتهم والتعبير عن رفضهم للاحتلال وممارساته، بما تتضمنه من خروق وانتهاكات متواصلة، عديدة وقاسية، لحقوقهم الأساسية ـ من حقوق الملكية، حقوق المياه والسكن، مرورا بالحق في حرية الحركة والتنقل، الحق في الكرامة، وانتهاء بحق تقرير المصير.

وتذكّر الورقة بأنه مع بداية الاحتلال، انطلقت في الضفة الغربية حركة احتجاجية ونضالية شعبية، واسعة ونشطة. ومع استمرار الاحتلال، وخلال العقد الأخير على وجه التحديد، أصبحت المظاهرات المنظمة والثابتة "أداة مركزية في هذا النضال"، فبدأت تتسع، تنتشر وتزداد وتيرتها في مختلف أنحاء الضفة الغربية، حتى أنها أضحت في العديد من قراها "مشهدا ثابتا ودائما يتكرر كل يوم جمعة". ورويدا رويدا، أصبحت هذه المظاهرات تشكل "بؤرة مواجهة متواصلة بين المتظاهرين من جهة، وقوات الجيش الإسرائيلي من الجهة الأخرى، والتي تعتمد وسائل مختلفة، من بينها استخدام القوة بصورة مفرطة في أحيان كثيرة، في محاولة منها لتفريق هذه المظاهرات، تقييدها، بل وإجهاض تنظيمها مسبقا".

مثل هذا الواقع يطرح تساؤلات عديدة تتعلق بمكانة حق التظاهر في الضفة الغربية، سواء في المستوى القانوني المعياري أو في المستوى التنفيذي التطبيقي. وتحتم هذه التساؤلات إعادة النظر في الإطار القانوني الذي يعالج هذه المسألة والمرجعية القانونية التي تعتمد عليها. ومن هنا، تأتي هذه الورقة في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات.

 

واجب إسرائيل الأولي طبقا للقوانين الدولية: إقرار حق التظاهر وضمانه!

 

في الباب الأخير منها، باب التلخيص والاستنتاجات، تؤكد الورقة أن فحص الإطار القانوني المعياري السائد في المناطق الفلسطينية المحتلة يقود إلى الاستنتاج القاطع بأن الواجب الأدنى الملزم لدولة إسرائيل (بصفتها دولة الاحتلال) هو: ضمان واحترام حق الفلسطينيين في الضفة الغربية في التظاهر! وهو واجب منصوص عليه ومكفول في قوانين الاحتلال وفي قوانين حقوق الإنسان، على حد سواء، ما يعني أن سلب الحق في حرية الاحتجاج في المناطق المحتلة، في التطبيق الفعلي، يشكل خرقا فظا لواجبات إسرائيل طبقا للقانون الدولي. ومن هنا، ينبغي للبحث المركزي أن يتمحور حول مدى سريان الحق في التعبير وحول الطرق والوسائل التي يلجأ إليها الجيش الإسرائيلي في محاولاته العملية لمواجهة هذه التظاهرات وللتعامل مع المتظاهرين المشاركين فيها، لا حول مجرد وجود هذا الحق أم لا.

وحتى إذا ما اعترفنا ـ تضيف ـ بصلاحية قوة الاحتلال في تقييد حق سكان المناطق المحتلة، بدرجة ما وبصورة جزئية، إلا أنه حيال استمرار الاحتلال وغياب الحاجة الأمنية العينية لتقييد النشاطات الاحتجاجية فليس ثمة شك في أن دولة إسرائيل ملزمة، على الأقل، باحترام حق التظاهر في المناطق المحتلة، أي: الإقرار بهذا الحق والامتناع عن أي مس مباشر به، بما في ذلك بواسطة فرض قيود شاملة وتقييدات جارفة على إمكانيات وسبل ممارسته.

ويتوجب على دولة إسرائيل - كدولة احتلال في الضفة الغربية - أولا وقبل كل شيء، الاعتراف الصريح بسريان الحق في التظاهر في المناطق المحتلة. ثم يتوجب عليها، تاليا، وضع قواعد ومعايير واضحة لا لبس فيها بشأن ضمان الحق في حرية التعبير والحق في التظاهر في الضفة الغربية، سواء من خلال المظاهرات الأسبوعية أو أية أعمال احتجاجية أخرى. أما المس بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية في حرية التعبير فينبغي، لزاما، أن يقتصر على الحالات الاستثنائية المحددة المنصوص عليها في قوانين حقوق الإنسان.

ولهذا الغرض، يتعين على الجيش الإسرائيلي إدخال التعديلات اللازمة في نص القانون (العسكري) وفي تطبيقاته. ومن ضمن هذه التعديلات، ينبغي إلغاء "منظومة ترخيص المظاهرات" كما يحددها الأمر العسكري رقم 101، الذي يتجاهل واقع العلاقات المركبة ما بين قوة الاحتلال وسكان المنطقة الخاضعة للاحتلال. وبدلا منه، ينبغي وضع تعليمات واضحة لجميع الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية تؤكد واجبها الإلزامي في احترام الحق في حرية التعبير والاحتجاج وحمايته؛ إفساح مجال واسع، قدر الإمكان، لتنظيم المظاهرات والنشاطات الاحتجاجية والمشاركة فيها؛ معاملة المتظاهرين ونشطاء حقوق الإنسان باحترام. وفضلا عن هذا، ينبغي توضيح وتكريس القواعد والإجراءات الخاصة بإصدار أوامر الإغلاق العسكرية واستخدامها، وكذلك القواعد والإجراءات الخاصة باستخدام "وسائل تفريق المظاهرات".

وفي الختام، تؤكد الورقة: "يتعين على المحاكم العسكرية العمل لتكريس الخطاب الذي يقرّ بحق التظاهر ويمنح ممارسته على أرض الواقع الشرعية القانونية الضرورية. ويتم هذا، ضمن أشياء أخرى، من خلال وضع المداولات في قضايا (ملفات) المتظاهرين ضمن إطار الحق في التظاهر، ومن خلال ممارسة الرقابة القضائية اللازمة على الأوامر العسكرية والممارسات العسكرية التي تشكل مسّا لا توجبه الحاجة الموضوعية، أو الزائدة عن الحاجة، بحق التظاهر في الضفة الغربية".