على هامش المشهد

 

 

 

ضوء أخضر قانوني لعقوبات جماعية بهدم عشرات المنازل الفلسطينية خلال الفترة المقبلة

 

 

 

 

*عادت محكمة "العدل" العليا الإسرائيلية إلى سابق نهجها في شرعنة ممارسات الاحتلال في مجال نسف وتدمير عشرات البيوت الفلسطينية ضمن سياسة العقوبات الجماعية، التي تتخذ طابعا انتقاميا مكشوفا، بعدما عادت السلطات العسكرية المعنية إلى هذه الممارسات، وهي التي توقفت عن اعتمادها لبضع سنوات، لا عن طيب خاطر أو حسن نية أو بدوافع إنسانية وأخلاقية، بل بصورة اضطرارية حيال ما تأكد لها في محصلة ميزان الربح والخسارة!*

 

 

كتب سليم سلامة:

 

إذا ما اقتفينا المنطق الإسرائيلي (الرسمي والشعبي!)، بإمكاننا القول: إذا كانت إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وإذا كان الجيش الإسرائيلي هو الأكثر والأسمى أخلاقيةً من بين الجيوش في العالم قاطبة، فلا شكّ إذن ـ بالقياس نفسه ـ في أن المحكمة العليا الإسرائيلية هي الأكثر عدلا وعدالة من بين المحاكم كلها على وجه البسيطة. ويصح هذا - في المنطق الإسرائيلي ذاته ـ لمجرد كونها إسرائيلية ولمجرد أن اسمها هو "محكمة العدل"، حتى لو أجازت - قانونيا وأخلاقيا!!- أفظع وأقسى العقوبات الجماعية الانتقامية ضد مجموعات من البشر لم يقترف أي فرد منها أي ذنب ولا علاقة لأي منها بأي شيء سوى أنه يصبح مشتبها به، بصورة أوتوماتيكية، لأن قرابة دم تربطه بشخص مشتبه به!

 

هذا ما عادت المحكمة العليا الإسرائيلية (اسمها القانوني الرسمي، لدى النظر في مثل هذه القضايا، هو "محكمة العدل العليا"!) إلى فِعله الأسبوع الأخير بقرارين أجازت فيهما قرارات عسكرية إسرائيلية بهدم منازل تابعة لعائلات فلسطينية في الضفة الغربية، لأن أفرادا من هذه العائلات مشتبه بأنهم قتلوا إسرائيليين! ونقول "عادت"، رغم أنها لم تتوقف سوى لأن السلطات العسكرية المعنية هي التي توقفت، لأسبابها واعتباراتها هي (كما سنبين لاحقا)، مؤقتا. وقد كتب وقيل الكثير عن خضوع المحكمة العليا الإسرائيلية خصوصا، وما دونها أيضا من محاكم إسرائيلية في الدرجات المختلفة، خضوعا شبه مطلق تام ـ وهو خضوع طوعيّ، يجب التأكيد! ـ للاعتبارات "الأمنية" التي تصوغها، تضعها وتتحكم بها الأجهزة الأمنية المختلفة وتغليب هذه الاعتبارات على أية جوانب أخرى، أيا كانت!

 

والقراران الأخيران اللذان أصدرتهما "محكمة العدل العليا" هذه، بفارق 40 يوما، أجازت في أولهما (الصادر يوم الأول من تموز الأخير) لسلطات الاحتلال العسكرية تنفيذ قرارها تفجير وتدمير منزل عائلة الأسير الفلسطيني زياد عواد في قرية إذنا (قضاء الخليل) المتهم (لا المُدان!) بقتل اللفتينانت كولونيل باروخ مزراحي قرب مدينة الخليل في نيسان الأخير. وفي القرار الثاني (الصادر يوم 11 آب الجاري) أجازت المحكمة ذاتها تفجير وتدمير منازل عائلات الشبان الفلسطينيين الثلاثة عامر أبو عيشة ومروان القواسمي وحسام القواسمي في الخليل على خلفية اتهامهم (لا إدانتهم!) بالضلوع في خطف وقتل المستوطنين الثلاثة في حزيران الأخير، وهذا بالرغم عن أن الشابين الأولين (عامر ومروان) لا يزالان فارّين ولم تستطع سلطات الاحتلال إلقاء القبض عليهما!

 

وهذا القراران هما بمثابة ضوء أخضر توفره المحكمة العليا لسلطات الاحتلال (وحكومتها) لتنفيذ مخططها هدم عشرات أخرى من البيوت الفلسطينية خلال الفترة القريبة (كما سنرى أدناه) إشباعا لغريزة الانتقام الجارفة التي تكتسح الشارع الإسرائيلي مؤخرا! وهذا، على الرغم من أن عمليات الهدم هذه تتناقض مع نصوص تشريعية دولية مختلفة، في مقدمتها اتفاقيات جنيف وميثاق هاغ من العام 1907.

 

وكانت سلطات الاحتلال قد سلمت العائلات الثلاث الأخيرة إخطارات بنيتها هدم منازلها قبل أكثر من شهر، لكنها أرجأت التنفيذ على ضوء الالتماسات الثلاثة التي قدمتها العائلات ضد قرار الهدم علّ المحكمة العليا الإسرائيلية تقيم بعضا من عدل أو إنصاف (وقد انضم "هموكيد ـ مركز الدفاع عن الفرد" إلى اثنين من هذه الالتماسات). لكنّ هذه المحكمة لم تجد أي حرج في وضع ختم الشرعية والقانونية، بل العدالة والأخلاقية (!)، على عمليات الهدم والتشريد الجماعية هذه بزعم أنها "إجرءات ردعية"، لا عقابية، و"تكرّمت" على العائلات بتأجيل تنفيذ أعمال التفجير والهدم والتشريد ثلاثة أيام (من يوم الاثنين 11 آب ـ يوم إصدار قرارها ـ حتى يوم الخميس 14 آب) لغرض "إتاحة المجال أمام العائلات لتقديم رأي هندسيّ مهنيّ إلى سلطات جيش الاحتلال بشأن تأثير الهدم على عقارات وأبنية متاخمة"!!!

 

ورغم أن قرارات المحكمة هذه ليست مفاجئة، بالتأكيد، إلا أن ثمة أهمية كبيرة للتبريرات والتسويغات التي ساقها قضاة هيئة المحكمة الثلاثة في سعيهم الواضح والمكشوف للانتهاء إلى النتيجة التي كانوا يقصدون، مسبقا، التوصل إليها، كي لا يخرجوا عن دائرة "الإجماع القومي" وكي لا يحيدوا عن نهج حق الأسبقية والصدارة لكل ما يصدر عن الأجهزة الأمنية المختلفة وما يدور في فلك "الأمن"!

 

 

التخبط والعودة إلى ما ثبت فشله!

 

عادت محكمة "العدل" العليا الإسرائيلية، كما ذكرنا أعلاه، إلى سابق نهجها في شرعنة ممارسات الاحتلال في مجال نسف وتدمير بيوت فلسطينية ضمن سياسة العقوبات الجماعية، التي تتخذ طابعا انتقاميا مكشوفا، بعدما عادت السلطات العسكرية المعنية إلى هذه الممارسات، وهي التي توقفت عن اعتمادها لبضع سنوات، لا عن طيب خاطر أو حسن نية أو بدوافع إنسانية وأخلاقية، بل بصورة اضطرارية حيال ما تأكد لها في محصلة ميزان الربح والخسارة!

 

وكانت عملية نسف وتدمير منزل الأسير زياد عواد في قرية إذنا، المذكورة أعلاه، بمثابة الاستئناف الرسمي لهذا النوع من العقوبات الجماعية بعد التوقف عن تنفيذه منذ العام 2005، أي قبل ما يزيد عن تسع سنوات! أما قبل ذلك، أي قبل العام 2005، فقد كان إجراء نسف وهدم المنازل الفلسطينية في الضفة الغربية "إجراء روتينيا" تلجأ إليه السلطات العسكرية بصورة منهجية، متواترة ومكثفة، بغرض الترهيب والانتقام من عائلات زعمت سلطات الاحتلال "تورط أحد أبنائها في نشاط إرهابي"! وفي العام المذكور، 2005، وحيال فشل هذه السلطات في تحقيق أهدافها "الردعية" من عمليات الهدم المتكررة والمتزايدة هذه، قرر رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، موشيه يعلون (وزير الدفاع الحالي)، تشكيل "لجنة عسكرية خاصة كُلّفت بمهمة النظر في هذه السياسة، وفحص ما إذا كانت تحقق أهدافها الردعية بردع فلسطينيين آخرين من الضلوع في عمليات انتحارية"، ثم تقديم توصيات عملياتية بشأنها.

 

وخلصت اللجنة، التي ترأسها الجنرال أودي (إيهود) شاني، في ختام تقرير قدمته إلى يعلون في شباط 2005، إلى توصية مركزية مؤداها: التوقف عن تنفيذ سياسة هدم البيوت، لأنها "تسبب أضرارا تفوق فائدتها بكثير"! وأوضحت أن "سياسة الهدم غير فعالة وغير مفيدة، باستثناء في حالات قليلة جدا، بل هي تثير موجة واسعة من الاستياء، الكراهية والعداء"، باعتبارها سياسة عقوبات جماعية!

 

وفي التعقيب على تقرير تلك اللجنة وتوصياتها، نفى جنرال في الجيش من بين المؤيدين لمواصلة تنفيذ سياسة الهدم هذه أن تكون "أضرارها تفوق فوائدها"... "طالما أنها تنحصر فقط في بيوت الانتحاريين ومرسِليهِم ولا يتم توسيع العقوبات لتشمل، أيضا، الضالعين في عمليات إطلاق نار أو في مخالفات أقل خطورة، كما يحدث في أحيان عديدة"!

 

وإلى تقرير هذه اللجنة وتوصياتها، يضاف أيضا ما خلصت إليه دراسة داخلية أجراها الجيش الإسرائيلي ونشرت في نهاية العام 2003 من أن "ليس هنالك، حتى اليوم، أي إثبات على أن لهدم البيوت تأثيرات رادعة... بل العكس هو الصحيح، إذ إن عدد العمليات قد ازداد بصورة مقلقة"!

 

ويستدل من معطيات نشرها مركز "بتسيلم" أنه خلال الفترة الواقعة بين تشرين الأول 2001 وكانون الثاني 2005 (أي، أكثر من 3 سنوات بقليل) أقدمت سلطات الاحتلال على هدم 664 منزلا فلسطينيا في الضفة الغربية "كإجراء عقابيّ"!، استنادا إلى البند 119 من "أنظمة الطوارئ" الانتدابية. وهو البند ذاته الذي عادت سلطات الاحتلال إلى اعتماده الآن وعادت المحكمة العليا الإسرائيلية إلى تبريره.

 

ومما يدل على "يأس" سلطات الاحتلال من سياسة الهدم العقابية الجماعية هذه أنها رفضت حتى تبني توصية قدمها رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) بالعودة إلى تنفيذ هذه السياسة بصورة منهجية، وذلك من خلال هدم منزليّ فلسطينييّن أدينا بقتل أفراد عائلة فوغل في مستوطنة إيتمار في شهر آذار 2011، بهدف "تعزيز قوة الردع بين مشاركين محتملين في عمليات إرهابية مستقبلية"!!

 

وعلى الرغم من هذا كله، وحيال تخبط سلطات الاحتلال وأذرعها المختلفة وفشلها المتواصل في "الردع" والمنع، عادت الآن إلى استئناف تنفيذ سياسة هدم المنازل العقابية هذه.

 

ويستدل من تصريح مشفوع بالقسم قدمه قائد المنطقة العسكرية الوسطى، الجنرال نيتسان ألون، إلى محكمة "العدل" العليا في أوائل شهر تموز الأخير أن "الهدم مطلوب حيال تصاعد الإرهاب خلال السنتين الأخيرتين"! وهذا، على الرغم من أن ألون نفسه كان قد قال سابقا ـ طبقا لتقارير صحافية إسرائيلية ـ إن "تأثير سياسة هدم البيوت معاكس لما تتوقعه إسرائيل... فهي تشكل محفزاً لعمليات انتقامية"!

 

وأفادت أنباء تناقلتها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا بأن قرارا رسميا قد اتخذ في أعلى مستويات القيادات العسكرية في إسرائيل يقضي باستئناف تنفيذ سياسة هدم البيوت الفلسطينية كإجراء عقابي بصورة رسمية وفعلية، وأن سلطات الاحتلال تعتزم "هدم عشرات البيوت في الضفة الغربية خلال الفترة القريبة"!

 

 

 

الهدم... لبيوت الفلسطينيين فقط!!

 

محكمة "العدل" العليا، التي أجازت عمليات هدم بيوت العائلات الفلسطينية بالرغم عن أن أفرادها المعنيين لا يزالون في عِداد المشتبه بهم فقط، لم يُقدموا إلى المحاكمة ولم تثبت إدانتهم، رفضت في القرار نفسه ادعاء الملتمسين بشأن التمييز غير القانوني المتمثل في أن الدولة لا تستخدم "حقها هذا" وصلاحيتها هذه ولا تمارس سياسة الهدم العقابية هذه بحق يهود اقترفوا جرائم إرهابية بحق فلسطينيين، وآخرهم قتلة الفتى محمد أبو خضير.

 

وبررت المحكمة موقفها، الذي تعتبره قانونيا وأخلاقيا (!!)، بالقول إن "الحديث يدور هنا عن حادثة شاذة بين الشواذ"، ولذا، "فليس ثمة مكان للموازاة المصطنعة المُدّعاة من جانب الملتمسين لإسناد ادعائهم بشأن التطبيق التمييزي"!!، كما كتب القاضي يروام دنتسيغر وأيده القاضيان إسحاق عميت ونوعام سولبيرغ.

 

ونشير إلى أن هذا المطلب كان قد طرحه، أيضا، حسين أبو خضير، والد الفتى الشهيد محمد، لدى حضوره جلسة المحكمة المركزية في القدس حين مددت، يوم 6 آب الجاري، اعتقال المستوطنين اليهود الثلاثة المتهمين باختطاف الفتى الشهيد وإحراقه حيّا. فقد قال حسين أبو خضير: "ها قد مرّ شهر منذ جريمة القتل وحتى الآن لم يهدموا أيا من بيوت القتلة الثلاثة"، وعلى الرغم من تقديم لوائح اتهام ضدهم.

 

إجراءات وحشية شرّدت الآلاف!

 

تبريرات محكمة "العدل" العليا وتسويغاتها، سواء المغلفة بكساء قانوني أو الصريحة في سياستها وشعبويّتها، ومهما حاولت التقنع بالموضوعية والأخلاقية، لا تقوى على تمويه الحقيقة الساطعة الأساس: عمليات الهدم هذه هي جرائم عقاب جماعيّ لا تناسبية، على الإطلاق، بينها وبين الجرائم المنسوبة ـ على مستوى الاشتباه، أساساً وتحديدا ـ إلى أفراد من العائلات التي تتعرض لهذا العقاب الجماعي الذي وصفه مركز "بتسيلم" بأنه "إجراء وحشي"!

 

وذكّر "بتسيلم" بأن آلاف المواطنين الفلسطينيين، من شيوخ ومسنين ونساء وأطفال ومرضى وعجزة وغيرهم، أصبحوا مشردين بلا مأوى من جراء هذه السياسة الوحشية، على الرغم من أنهم شخصيا لا علاقة ولا ذنب لهم بأي شيء ولم توجه لهم سلطات الاحتلال أية تهمة بالضلوع في أية مخالفة أو جريمة!

 

ولفت مركز "بتسليم" إلى أن ادعاء السلطات الإسرائيلية بأن "التغيير الحاد في الظروف" هو الذي يبرر العودة إلى ممارسة سياسة العقاب الجماعي هذه هو "ادعاء غير منطقي وغير مقبول ولا يرمي سوى إلى بسط شرعية قانونية على رغبة الحكومة الإسرائيلية في اعتماد إجراءات وحشية، بما فيها عقوبات جماعية، للتجاوب والتماشي مع الجو العام الناشئ بفعل اختطاف الشبان (المستوطنين) الثلاثة وقتلهم، وهي إجراءات تحظى بضوء أخضر فوري ومباشر من جانب محكمة العدل العليا، بالرغم عن حدتها وخطورتها القصويين".

 

وأعاد المركز تأكيد البديهية الأساسية بأن سياسة هدم البيوت العقابية هذه مرفوضة من أساسها إذ هي تعاقب أشخاصا بجريرة أفعال منسوبة (بالادعاء وبالاحتمالية فقط، في أحيان كثيرة!) إلى أشخاص آخرين، بما يتعارض مع جميع المعايير والأعراف الأخلاقية!