"إسرائيل ممعنة في سدّ أي احتمال أمام حلّ سياسي"!

على هامش المشهد

 

 

 

بحث جديد: انعدام مناطق صناعية متطورة السبب الأساس في الضائقة الاقتصادية للعرب

 

 

 

*"لكن مسألة المنشآت والمناطق المدرّة للأرنونا المرتفعة ليست مسألة قائمة بذاتها، بل هي جزء عضوي من نهج التمييز البنيوي في السياسة الرسمية وهو، تحديدا، ما يفسر تردي الوضع الاقتصادي العام في السلطات المحلية العربية"!*

 

 

يقول أحد الادعاءات الشائعة جدا بين الأوساط السياسية الرسمية الإسرائيلية، الموظفين الحكوميين وقطاع واسع من الجمهور الإسرائيلي، إن الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعاني منه السلطات المحلية في القرى والمدن العربية في داخل إسرائيل ناجم، في الأساس، عن أن عددا كبيرا من المواطنين في هذه القرى والمدن لا يدفعون لهذه السلطات المحلية مستحقاتهم عن الضرائب البلدية ("الأرنونا")، سواء على الدور السكنية أو على البنايات الصناعية والتجارية.

 

لكن البحث الجدي الذي أجري مؤخرا بالتعاون بين جمعية "سيكوي" (الجمعية لدعم المساواة المدنية) ومركز "إنجاز" (المركز المهني لتطوير الحكم المحلي للسلطات المحلية العربية) يدحض هذا الادعاء، جملة وتفصيلا، بل ينسفه من أساسه.

 

وكانت جمعية "سيكوي" ومركز "إنجاز" قد عقدا، في أواخر شهر آذار الماضي، مؤتمرا خاصا في مدينة الناصرة جرى خلاله عرض نتائج البحث الذي حمل عنوان: "مصادر تمويل ومدخولات السلطات المحلية العربية".

 

 

 

جباية "الأرنونا" لا تحل المشكلة!

 

 

يؤكد البحث أنه حتى لو قامت السلطات المحلية العربية بجباية ما نسبته 100 بالمئة من ضريبة "الأرنونا" المستحقة على المباني السكنية التابعة للمواطنين القاطنين في مناطق نفوذها، فهذا لن يسعفها ولن يمكنها من تقديم الخدمات البلدية المطلوبة، من حيث الحجم ومن حيث المستوى، للسكان، مقارنة بالسلطات المحلية اليهودية في إسرائيل.

 

ويتجسد العائق المركزي الذي يعترض طريق السلطات المحلية العربية ويحول دون تطويرها اقتصاديا في الغياب، شبه الكلي تماما، لأية مناطق صناعية، بنايات ومنشآت حكومية ومؤسسات جماهيرية عامة. فحين تقتصر مدخولات السلطة المحلية على ضريبة "الأرنونا" عن المباني السكنية فقط، من دون أن ترافقها أية مدخولات من الضريبة ذاتها على مصالح تجارية ومنشآت صناعية ومؤسسات عامة، فمعنى ذلك ـ بالضرورة ـ أن مدخولات السلطة المحلية تهبط بصورة حادة جدا. ففي نهاية المطاف، المبالغ الأكبر من الأموال التي تجبى لقاء ضريبة "الأرنونا" وتدخل إلى خزينة السلطة المحلية هي تلك التي تدفعها المصانع، التي تحتل مساحات واسعة جدا، والمصالح التجارية والمنشآت العامة، المطارات والموانئ، محطات الطاقة وغيرها، وليس تلك التي يدفعها المواطنون عن بنايات سكنية.

 

ويسجل البحث، مثلا، أن حصة السلطات المحلية العربية لا تتجاوز نسبة 2ر0 بالمئة من مجمل ما تدفعه الحكومة الإسرائيلية ضريبة "أرنونا" عن منشآتها ومكاتبها المختلفة للسلطات المحلية التي تقوم هذه المنشآت والمكاتب في نطاق نفوذها، ناهيك عن أن 5ر1 بالمئة فقط من منشآت البنى الأساسية الحكومية موجودة في قرى ومدن عربية وأن 4ر2 بالمئة فقط من المناطق الصناعية في إسرائيل موجودة في قرى ومدن عربية.

 

ويقول التقرير إنه حتى لو بلغت جباية ضريبة "الأرنونا" عن المباني السكنية في القرى العربية حدها الأعلى الممكن نظريا (لكن غير الممكن فعليا في أي مكان في العالم!)، أي نسبة 100 بالمئة، فمعنى ذلك، في الترجمة العملية، أن السلطة المحلية المتوسطة ستحصل على 809 شواكل، بالمعدل، عن كل مواطن. أما في الوسط اليهودي، فستحصل السلطة المحلية المتوسطة، في مثل هذه الحالة، على ما معدله 1217 شيكل للمواطن الفرد.

 

ويبين الفحص المقارن، أيضا، أنه في حال جباية 100 بالمئة من "الأرنونا" عن المباني غير السكنية (عامة، تجارية وصناعية) فستحصل السلطة العربية المتوسطة على 259 شيكل للفرد، بينما ستحصل السلطة اليهودية على 1426 شيكل للفرد ـ أي، ما يعادل 5ر5 ضعف!

 

وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن رؤساء السلطات المحلية العربية، ومن خلال لجنتهم القطرية، لم يتوقفوا يوما عن طرح هذه القضية على طاولة البحث لدى الوزارات الحكومية المختلفة، بل تطرق إليها مراقب الدولة، أيضا، في أكثر من واحد من تقاريره السنوية: انعدام العائدات من ضريبة "الأرنونا" عن مناطق صناعية ومنشآت حكومية وعامة.

 

 

مناطق صناعية على أراض عربية- الضرائب للسلطات اليهودية!

 

ووجد البحث أنه لو تم توزيع المنشآت التي تجبى عنها ضريبة أرنونا تجارية بصورة متساوية بين السلطات المحلية العربية واليهودية لازدادت مدخولات السلطات المحلية العربية منها بمبلغ يصل إلى 833 مليون شيكل في السنة. لكن المنشآت المختلفة التي تدرّ ضرائب أرنونا تجارية ـ مناطق صناعية، مناطق تجارية، منشآت خدماتية عامة، مصارف، منشآت بنى تحتية مختلفة ـ موجودة، جميعها، ضمن مناطق نفوذ البلدات والمدن اليهودية، رغم أن العديد منها مقام على أراض عربية، تابعة للبدات العربية أو تمت مصادرتها من أصحابها العرب.

 

ومن المعروف أن القرى والمدن العربية تفتقر إلى أية مناطق صناعية واسعة ومتطورة، وبعضها يفتقر إلى أية منطقة صناعية على الإطلاق. وإن وجدت، فهي ـ في أغلب الأحيان ـ مناطق محدودة جغرافيا وتعاني من فوضى تنظيمية وتخطيطية، فضلا عن افتقارها إلى المقومات الأساسية لوجود صناعة حقيقية، وعلى رأسها البنى التحتية الأساسية.

 

ويبين البحث أن 2% ـ 3% فقط من مجمل المناطق الصناعية القائمة في دولة إسرائيل اليوم تابعة لسلطات محلية عربية، على الرغم من أن السكان في تلك القرى والمدن العربية يشكلون أكثر من 13% من مجموع السكان في الدولة. أما مساحات "الأرنونا" التجارية في تلك القرى والمدن، قياسا لعدد السكان فيها، فهي أقل من 50% مما هي عليه في البلدات اليهودية، بينما متوسط مساحات "الأرنونا" الصناعية للفرد هي أقل بنسبة 91%. ويبلغ متوسط دخل الفرد الواحد في نطاق السلطات المحلية العربية من عائدات "الأرنونا" ما نسبته 67% من متوسط دخل الفرد في نطاق السلطات المحلية اليهودية.

 

وفي العديد من الحالات، أقامت الدولة مناطق صناعية واسعة ومتطورة جدا على تخوم قرى ومدن عربية، في شمال البلاد وجنوبها، لكنها قامت بإلحاقها، من الناحية التنظيمية، ببلدات يهودية مجاورة (حتى لو كانت بعيدة عنها جغرافيا، وحتى لو يكن ثمة تواصل جغرافي يربطها مع المنطقة الصناعية!) تستفيد السلطات المحلية فيها من عائدات ضريبة "الأرنونا" المستحقة عنها، وهي بمبالغ طائلة جدا.

 

وتمثل المنطقة الصناعية "تريديون" المحاذية لمدينة سخنين في البطوف النموذج الأبرز لهذه السياسة وتطبيقاتها الفعلية. فعلى الرغم من التصاق المنطقة الصناعية ببيوت المواطنين في مدينة سخنين (والأرض المقامة عليها هذه المنطقة الصناعية هي، في الأصل، أرض تابعة لأهالي سخنين قامت السلطات الإسرائيلية بمصادرتها!)، إلا إن جميع عائدات الضرائب عن المنشآت والمباني الضخمة جدا والواسعة جدا التي تشملها هذه المنطقة الصناعية هي من نصيب "المجلس الإقليمي مسجاف"، الذي يتولى مسؤولية الحكم المحلي في عدد من البلدات اليهودية الصغيرة المتناثرة على أراضي المواطنين العرب في المنطقة!

 

والكلام نفسه، أيضا، يمكن أن يقال عن المنطقة الصناعية "أفيك" الواقعة بين مدينة كفر قاسم العربية ومدينة "راس العين" (روش هعاين) اليهودية، حيث تحصل الأخيرة على جميع عائدات ضرائب "الأرنونا" المستحقة عن المباني في تلك المنطقة الصناعية الواسعة جدا. وهي الحال، أيضا، بالنسبة للمنطقة الواسعة التي تشمل بنايات حكومة ووزارية عديدة ومختلفة تقع بين مدينتي الناصرة العربية ونتسيرت عيليت اليهودية، وتحصل هذه الأخيرة على جميع العائدات من الضريبة البلدية المستحقة.

 

ومثال بارز آخر، أيضا، عن التوزيع غير العادل للمناطق الصناعية هو المنطقة الصناعية "تسيبوريت" المقامة على أراض عربية على تخوم قريتي المشهد وكفر كنا في الجليل. فهذه المنطقة التي أقيمت في التسعينيات على أرض كانت ملكا لأهالي كفر كنا وتمت مصادرتها منهم، تم ضمها بلديا إلى منطقة نفوذ مدينة "نتسيرت عيليت"، على الرغم من عدم وجود أي تواصل جغرافي بينهما، بل ثمة مسافة كبيرة تفصل بينهما، في مسعى حكومي رسمي واضح لضمان حصول نتسيرت عيليت على جميع عائدات الضرائب البلدية والتجارية من هذه المنطقة، وهي بمبالغ طائلة جدا سنويا.

 

وهذا، فضلا عما تسببه هذه المناطق الصناعية من متاعب وأضرار لسكان القرى والمدن العربية المجاورة. ففي حالة "تسيبوريت"، يشكو سكان القرى العربية المحيطة من التلوث الكبير الذي يصدر عن المنشآت الصناعية في تلك المنطقة، والذي تسبب في ارتفاع حاد في نسبة أمراض الجهاز التنفسي بين سكان قرية كفر كنا في السنوات الأخيرة.

 

وفي حالة "تريديون"، يقول رئيس بلدية سخنين، مازن غنايم: "نحن لا نحصل على أي قرش من عائدات الضرائب. الغبار والتلوث يذهبان إلى سخنين، بينما تذهب الأموال إلى مسجاف"!

 

وفي قلب مدينة الناصرة العربية، هنالك مجمع يدعى "مجمع شبرينتساك" تبلغ مساحته 100 دونم، يتبع بلديا وتنظيميا لبلدية نتسيرت عيليت اليهودية! وكانت هذه المنطقة، التي تشمل مباني عامة، سياحية، تجارية وسكنية، قد اقتطعت من مدينة الناصرة بذرائع أمنية ـ استخدمت آنذاك مقر قيادة المنطقة الشمالية. لكن القيادة انتقلت من هناك منذ زمن طويل، ولا تزال في المنطقة اليوم قاعدة لقيادة الجبهة الداخلية وإلى جانبها فندق، يعود ريع الضرائب عنهما إلى بلدية نتسيرت عيليت. وحين نظرت "لجنة الحدود" التابعة لوزارة الداخلية، قبل أربع سنوات، بطلب بلدية الناصرة ضم المنطقة إلى نفوذها، رفضت اللجنة هذا الطلب وقررت الإبقاء على إلحاقه ببلدية نتسيرت عيليت اليهودية "لأنها تضيف مئات آلاف الشواكل لميزانيتها"!!

 

 

 

تمييز بنيوي في السياسة الرسمية وسوء إدارة

 

وأجرى البحث مقارنة بين عدد من السلطات المحلية اليهودية والعربية التي تتميز بوضع اجتماعي ـ اقتصادي مماثل وتقع في المنطقة الجغرافية ذاتها، وسط تغييب العامل القومي من المقارنة.

 

وأظهرت هذه المقارنة أنه لو حققت السلطات المحلية والعربية، معا، المستوى نفسه من جباية ضريبة "الأرنونا"، لتقلصت الفجوة في المدخولات من هذه الضريبة بنحو 10% فقط. أما في حال توزيع المنشآت المدرّة للأرنونا بصورة متساوية، فعندئذ ستتقلص الفجوة المذكورة بنحو 65%.

 

لكن مسألة المنشآت والمناطق المدرّة للأرنونا المرتفعة ليست مسألة قائمة بذاتها، بل هي جزء عضوي من نهج التمييز البنيوي في السياسة الرسمية ـ وهو، تحديدا، ما يفسر تردي الوضع الاقتصادي العام في السلطات المحلية العربية. وهذا ما أقر به، أيضا، رئيس قسم الميزانيات في وزارة المالية، أمير ليفي، خلال زيارة قام بها إلى مدينة سخنين قبل بضعة أسابيع، حين قال: "منهجيات تخصيص الموارد والميزانيات للوسط العربي في إسرائيل ليست متساوية... ثمة فجوات كبيرة في الموارد المخصصة في جميع المجالات، بما فيها المواصلات العامة، المدخولات من الأرنونا التجارية، المناطق الصناعية والتعليم".

 

أما وزير الداخلية السابق، أوفير بينيس، فيؤكد أنه "ليس هناك أي شك في أن ثمة، في إسرائيل، تمييزا بنيويا ممأسساً ضد الجمهور العربي ـ في الأراضي، في فرص العمل، في الفرص التجارية، في حقوق الإنسان، وفي أي مجال آخر يخطر على البال".

 

وأضاف بينيس، الذي يشغل اليوم منصب رئيس معهد أبحاث الحكم المحلي التابع لجامعة تل أبيب: "لا فرق بين أي الجناحين يدير دفة الحكم في إسرائيل، سواء كان اليمين أو اليسار، في كل ما يتعلق بالتمييز ضد المواطنين العرب".