تقرير "مركز طاوب": تآكل أجور المستخدمين الأكاديميين وارتفاع غلاء المعيشة يبعدان العائلات الشابة عن الطبقة الوسطى

على هامش المشهد

 

الجيش الإسرائيلي يدير معارك الميزانية من خلال التحذير والتخويف من إسقاطات أي تقليصات في ميزانيته

 

 

 

 

*"جهوزية الجيش للحرب القادمة" ـ مسألة يعيدها قادة الجيش إلى صدارة جدول الأعمال العام من حين إلى آخر معتمدين الشكوى والتحذير والتخويف من أن عدم إمداد الجيش بالميزانيات اللازمة، بل عدم رصد المزيد والمزيد منها، يشكل مسّاً خطيرا بقدرة الجيش على إجراء التدريبات اللازمة وعلى التزود بالمزيد من التجهيزات والمعدات العسكرية المتطورة، وهو ما يعود بضرر جسيم على مدى الجهوزية للحرب*

 

 

كتب سليم سلامة:

 

 

مرة أخرى، تعود إلى واجهة النقاش العام في إسرائيل مسألة "جهوزية الجيش للحرب القادمة"، وهي مسألة يعيدها قادة الجيش إلى صدارة جدول الأعمال العام من حين إلى آخر معتمدين الشكوى والتباكي من أن عدم إمداد الجيش بالميزانيات اللازمة، بل عدم رصد المزيد والمزيد منها، يشكل مسّاً خطيرا بقدرة الجيش على إجراء التدريبات اللازمة وعلى التزود بالمزيد من التجهيزات والمعدات العسكرية المتطورة، وهو ما يعود بضرر جسيم على مدى جهوزية الجيش للحرب القادمة.

 

ويلجأ الجيش، في مسعاه هذا، إلى خطاب تخويفي يستهدف إثارة المخاوف المكشوفة والواضحة لدى الإسرائيليين عموما من مغبة عدم وجود الجيش، بمختلف وحداته، في أعلى درجات الجهوزية اللازمة لتحقيق الانتصار الكاسح في أية حرب قادمة، على أمل تحويل هذه المخاوف إلى وقود يحرك مكابس الضغط على صناع القرار المعنيين لكي يقروا، وينفذوا، رصد المزيد من الميزانيات للجيش، خاصة وأن هؤلاء الأخيرين يريدون، أيضا ومسبقا، تجنب وضعهم في خانة تحمل المسؤولية عن إخفاقات عسكرية محتملة في المستقبل!

 

والجولة الأخيرة من هذه الحملة التخويفية، والتي تجري هذه الأيام ـ وبصرف النظر عن بعض التفاصيل الصحيحة والحقيقية فيها ـ كانت قد سبقتها جولة أخرى قبل أشهر قليلة، انتهت بقرار اتخذته لجنة المالية التابعة للكنيست، في نهاية كانون الأول الأخير، قضى بزيادة ميزانية الجيش، في خطوة شكلت، عمليا، إلغاء فعليا للتقليص الذي كان مخططا إجراؤه في هذه الميزانية خلال العام الجاري 2014، في إطار الميزانية العامة للدولة. بل أكثر من ذلك، جاء قرار لجنة المالية البرلمانية المذكور مناقضا تماما للتصريحات العلنية العديدة التي كانت الحكومة الإسرائيلية قد أطلقتها من قبل حول عزمها على إجراء تقليصات جدية في ميزانية "الأمن"ـ أي، الجيش.

 

ففي أيار الماضي، 2013، أعلن وزير المالية، يائير لبيد، والدفاع، موشيه يعلون، عن قرار تقليص ما قيمته ثلاثة مليارات شيكل من ميزانية الأمن خلال العام 2014. لكن يعلون، الذي كان شريكا في اتخاذ القرار المذكور وفي الإعلان عنه، سارع إلى عقد اجتماع خاص مع قادة الجيش الإسرائيلي لبحث الموضوع تمخض عنه بيان عام تضمن "تحذيرا شديدا" من أن "ميزانية الأمن، كما أقرت، لا تتناسب مع احتياجات جهاز الأمن ولا تلبيها"، مما سيؤدي إلى "مس كبير بالأمن وبجهوزية الوحدات العسكرية"!

 

وفي محاولات واضحة لممارسة الضغط على صناع القرار السياسيين، شرعت قيادة الجيش في "إعداد خطة" لإجراء تقليصات داخلية، سواء في القوى البشرية أو في تدريبات الوحدات العسكرية المختلفة، بما فيها وحدات الاحتياط، وهو ما أثمر فعلا في شهر تشرين الثاني 2013، بإعلان الحكومة أن "فائضا بقيمة 6 مليارات شيكل قد نشأ في الميزانية العامة للدولة" تلاه إعلان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، شخصيا، قبوله طلب الأجهزة الأمنية "تحويل مبلغ 75ر2 مليار شيكل من هذا الفائض"، سرعان ما أضيف إليه مبلغ 40 مليون شيكل أخرى في غضون أربعة أشهر ليستقر (مبلغ الزيادة) على 79ر2 مليار شيكل! وهذا ما أقرته لجنة المالية البرلمانية، كما ذكر.

 

ولم يكن هذا كل شيء. فقد أقرت لجنة المالية، أيضا، حصول الجيش على زيادات وإضافات أخرى مختلفة، كان من بينها: مليون شيكل "زيادة خاصة لقاء مصرفاتها المخصصة لاستيعاب جنود من الحريديم"، 330 مليون شيكل مقابل إخلاء معسكرات للجيش في مركز البلاد لإقامة أحياء سكنية مكانها، 180 مليون شيكل "لاحتياجات مختلفة" تتعلق، أساسا، بأجهزة استخباراتية من خارج الجيش.

 

وهكذا، يبلغ إجمالي الميزانية المرصودة لوزارة الدفاع (الجيش) فعليا خلال العام 2014، نحو 2ر54 مليار شيكل على الأقل، من دون المعونة العسكرية الأميركية التي تصبّ في ميزانية الجيش مباشرة. ومن "حسن حظ" الجيش أن هذه المعونة ستكون، هذا العام، أكبر مما كان مخططا سلفا: فقد تراكم فائض بمبلغ 82ر1 مليار شيكل منها منذ العام 2012 (بسبب تأجيل وإلغاء بعض صفقات "شراء" العتاد العسكري من الولايات المتحدة). وهو مبلغ تقضي التفاهمات الأميركية ـ الإسرائيلية بحظر تحويله إلى أغراض أخرى، ما يعني أنه سيصبّ في خزينة وزارة الدفاع الإسرائيلية، مباشرة، خلال العام الجاري.

 

وفي المجمل، تبين الأرقام الرسمية المنشورة أن ميزانية الأمن (الجيش) الفعلية ستزيد عن المبلغ الأصلي المقرر في قانون الميزانية العامة للدولة ـ أي، المبلغ قبل "قرار التقليصات"! وبكلمات أخرى، ليس أن ميزانية الأمن الإسرائيلية لن تتعرض إلى أي تقليص، ولو اسمي فقط، خلال العام الجاري 2014، بل إنها ستزداد ببضعة مئات الملايين من الشواكل، حتى وإن كان بعضها "زيادات لمرة واحدة"!

 

 

زيادة الميزانيات لا توقف حملات التخويف!

 

الحملة الأخيرة في هذا السياق جاءت من خلال تقرير موسع أعده المراسل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، ونشرته الصحيفة في نهاية الأسبوع الأخير. وبصرف النظر عن التفاصيل العينية الواردة في التقرير، والتي قد يكون بعضها ـ القليل أو الكثير، لا فرق ـ صحيحا وحقيقيا، إلا أن الروح العامة والأساسية في التقرير هي الروح نفسها التي يعتمدها الجيش كل مرة، في جميع حملات الضغط التي ينظمها ويمارسها لإحباط أية نوايا لتقليص ميزانيته، بل لدفع الساسة الإسرائيليين إلى إقرار تحويل المزيد من الميزانيات له.

 

ويعرض التقرير لجملة واسعة من التقليصات التي عمد إليها الجيش، والتي يخطط لإجرائها لاحقا أيضا، سواء في حجم القوى البشرية أو في حجم التدريبات العسكرية التي تجريها الوحدات العسكرية المختلفة، معلنا أنها "أدت، هذه السنة، إلى مسّ جدي في خطة التدريبات العسكرية في الجيش"!

 

وحين يُطرح هذا الموضوع، وخاصة في السنوات الأخيرة، فهو يرتكز على تجربة "حرب لبنان الثانية"، التي خاضها الجيش الإسرائيلي مع "حزب الله"، في إطار عدوانه على لبنان صيف العام 2006، والتي تعتبرها الغالبية الساحقة من المعلقين والمحللين العسكريين الإسرائيليين ـ وليس هم وحدهم فقط ـ "إخفاقا عسكريا شاملا، وخاصة فيما يتعلق بالقوات البرية".

 

فمنذ تلك الحرب، في أعقابها وعلى خلفية نتائجها واستنادا إلى التقارير التفصيلية التي وضعتها لجان الفحص والتحقيق الإسرائيلية، يجري التركيز المشدد على ضرورة الاستفادة من دروسها والعمل على إصلاح ما ينبغي إصلاحه من خلال العودة إلى التأهيل والتدريب، سعيا إلى سدّ جزء كبير من الفجوات التي كشفت عنها تلك الحرب، "والتي نجمت، بصورة أساسية، عن التراخي والإهمال في مجال التدريبات العسكرية إبان سنوات الانتفاضة الثانية".

 

وكانت التقارير المختلفة في وسائل الإعلام الإسرائيلية قد كررت التأكيد، مرارا، على أن الجيش قد "تعلم الدرس من حرب لبنان الثانية" وعاد إلى توظيف جهود كبيرة جدا في مجال التدريبات العسكرية المختلفة، سواء بين الوحدات النظامية أو وحدات الاحتياط، مستفيدا ـ بوجه أساس ـ من استقرار حالة الهدوء الشامل والدائم السائدة، إجمالا، في المناطق الفلسطينية. "لكن هذا المسار قد توقف فعليا منذ نحو سنة"، حسبما يقول تقرير المراسل العسكري في "هآرتس"، مضيفا أن "الجيش الإسرائيلي يقلّص في التدريبات بصورة جدية خلال العام 2014 ويرتجل حلولا شتى في محاولة منه لمنع حصول ضرر وخيم في قدرة الوحدات البرية، سواء النظامية منها أو الاحتياطية". ثم يواصل التقرير منحى التخويف ذاته، إذ يقول: "وإذا لم تطرأ تغييرات جوهرية عميقة خلال السنة القادمة ـ وهي مسألة لم تحسم بعد ـ فقد يكون الضرر أكثر جسامة وخطورة في العام 2015"!

 

أما "المسألة التي لم تحسم بعد" هذه، فهي، بطبيعة الحال، ليست خطط الجيش وقيادة أركانه، وإنما قضية الميزانية، على نحو مركزي.

 

ويستعرض التقرير جملة التقليصات التي أجراها الجيش أو يخطط لإجرائها في المدى المنظور، وفي مقدمتها: تقليص حجم التدريبات العسكرية (بل وقفها كليا، تقريبا، في وحدات الاحتياط) خلال النصف الثاني من العام 2013، على خلفية ما يسميه "معارك الميزانية مع وزارة المالية"! ويعود إلى التذكير بالزيادات التي حصل عليها الجيش في ميزانيته، فضلا عن إلغاء التقليصات التي كان مقررا إجراؤها، كما فصّلناها آنفا، لكنه يضيف: "ورغم ذلك (الزيادات)، يواجه الجيش حاجة ملحة إلى إيجاد مصادر تمويلية أخرى، بديلة وجديدة، على خلفية الفجوة الناشئة بين ما كان يقدّر أنه سيحصل عليه وبين ما رُصِد له بالفعل"!

 

وإلى جانب ذلك، وضعت قيادة الجيش خطة لفصل / إعفاء 5000 من الجنود والضباط النظاميين، على أن يتم استيعاب 1000 آخرين بدلا منهم (!)، "وهو ما وفّر حلا واحدا"، أضيفت إليه إجراءات أخرى على المدى القصير.

 

ويضيف التقرير إلى "تحديات الميزانية"، أيضا، العبء الذي يشكله على الجيش "قانون الخدمة الاحتياطية الجديد"، الذي دخل حيز التنفيذ في منتصف العام الماضي، والذي يحدد عدد المرات التي يمكن فيها استدعاء وحدات الاحتياط لتدريبات عسكرية أو لأنشطة عسكرية عملياتية: مرة واحدة كل ثلاث سنوات.

 

وبينما كان الهدف الأصلي من هذا القانون، أساسا، تقليص العبء الواقع على جنود وضباط الاحتياط وإتاحة المجال أمام قادتهم العسكريين للانشغال بإعداد هذه الوحدات وتهيئتها للحرب القادمة، إلا أن ما حصل في الواقع، ميدانيا، هو "تفاعل متسلسِل": نظرا لأنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على وحدات الاحتياط في مهمات الأمن الجارية، فقد أصبح لزاما على الوحدات النظامية القيام بهذه المهمات العملياتية اليومية، مما اضطرها إلى البقاء زمنا أطول في المناطق الفلسطينية وعلى الحدود. ونظرا لأن ميزانية التدريبات محدودة، فقد انخفضت كثيرا مشاركة الوحدات النظامية في هذه التدريبات ـ التي أصبحت تحتل مكانة متدنية في سلم الأولويات أصلا ـ فأصبحت (التدريبات) تشمل الوحدات الهجومية فقط، ولا تشمل الوحدات الأخرى، التي لا تشكل "رأس حربة".

 

الجيش يرسم صورة متفائلة، ولكن...

 

ويروي المراسل العسكري، على خلفية مشاهداته وانطباعاته الشخصية من زيارتين قام بهما خلال الأسبوعين الأخيرين إلى تدريبين عسكريين أجرتهما وحدتان، إحداهما نظامية والأخرى احتياطية، فيقول: يبدو جليا أنه في أعقاب الكيّة التي صلي بها الجيش في حرب لبنان الثانية، يبذل الجنود والضباط في الميدان جهودا كبيرة لتجنب تكرار الأخطاء التي وقع فيها الجيش آنذاك. ولكن الجلي أيضا، من جهة أخرى، أن عملية تآكل حاد تفتك في جهوزية الوحدات العسكرية المختلفة، يتوقع أن تتفاقم مستقبلا إن لم يطرأ تغيير جوهري في خطط التدريبات المعدة للعام 2015. ومن المعروف أن لدى الجيش ميلا واضحا، ممتدا منذ سنين طويلة، لوصف أحواله بصورة وردية ولعرض الواقع أمام الجمهور بألوان تفاؤلية، لكن ينبغي الحذر ـ فليس من المؤكد أن "التفكير الإيجابي" هو الجواب الصحيح والمناسب!

 

لكن المراسل ينقل عن أحد القادة العسكريين الميدانيين تفسيره للتقليص المذكور في حجم تدريبات الوحدات البرية، إذ يقول إن هذا التقليص "هو جزء من التوجهات الجديدة المعتمدة في خطط بناء قوة الجيش المستقبلية: تحويل مكثف للميزانيات من الوحدات البرية إلى سلاح الجو، شعبة الاستخبارات العسكرية وحرب الانترنت وشبكات المعلومات، على الرغم من أن الجيش يواصل التصريح بأنه يستعد، أيضا، لاحتمال المناورات البرية خلال الحرب القادمة"!

 

وينقل عن قائد عسكري ميداني آخر، هو القائد العام للقوات البرية، تقديره بأن "الجيش الإسرائيلي، في هذه اللحظة الزمنية، بعيد جدا، بُعد الشرق عن الغرب، عن الوضع الذي كان قائما عشية حرب لبنان الثانية. وينبغي أن نتذكر أننا موجودون اليوم بعد سبع سنوات من التدريبات المكثفة، من إعادة ترتيب وصياغة نظرياتنا القتالية وتحسين تقنيات التدريبات. وصحيح أننا نقف إزاء احتمال لتراجع الجهوزية، لكننا لا نزال بعيدين جدا عن ذلك"!

 

وتبين هذه التصريحات والتقديرات المتضاربة جوهر التكتيك الذي يعتمده الجيش في "معاركه" على الميزانية وعلى صورته أمام الرأي العام الإسرائيلي، راهنا ومستقبلا: فهو يصوّر نفسه متعلّما، قويا، فاعلا ومستعدا من جهة، فيما يضع "الآخرون" (السياسيون) عقبات وحواجز أمام استمراره في هذا التعلم، التدرب والاستعداد، من جهة أخرى، حتى أن أية قرارات ميزانياتية "غير صحيحة" قد يتخذونها يمكن أن تفضي إلى نتائج عكسية لا تحمد عقباها!