شلومو ساند: "الصهاينة الجدد" اخترعوا "أرض إسرائيل" كمصطلح جيو - سياسي عصري

على هامش المشهد

 

حول بعض عمليات الفطام من النزعة الاقتصادية النيو- ليبرالية في إسرائيل

 

 

 

بقلم: يوسي دهان (*)

 

 

 

 

لعل من الأهمية بمكان مراقبة ومتابعة ما حدث للخطاب الاجتماعي - الاقتصادي في إسرائيل في العقود الثلاثة الماضية. وكيف أن القاموس والخطاب الاشتراكي- الديمقراطي الذي كان تبنيه يقتصر على قلة قليلة، واستند في جوهره على قيم مثل العدالة الاجتماعية والتضامن والمسؤولية الجماعية من طراز نموذج دولة الرفاه، جرى استهلاكه وتبنيه جزئيا من قبل وسائل الإعلام (الإسرائيلية) المؤسسية.

 

وقد قوبل هذا الخطاب فيما مضى بكثير من السخرية والازدراء من جانب وسائل الإعلام الاقتصادية النيو- ليبرالية، التي رأت في كل من تفوه بمصطلحات مثل العدالة الاجتماعية والاشتراكية- الديمقراطية، شخصا جاهلا لا يفقه شيئا في الاقتصاد، أو دوغمائيا وعقائديا حالما في تحويل إسرائيل إلى اتحاد سوفياتي ستاليني.

 

وقد شملت وسائل الإعلام الاقتصادية للمؤسسة النيو- ليبرالية في ذلك الوقت كثيرين من الأتقياء الضالين مثل غاي رولنيك الذي عمل في حينه كمراسل اقتصادي لإذاعة الجيش الإسرائيلي، وما زلت أذكر برامج الدعاية الأسبوعية الموجهة لصالح أصحاب رؤوس الأموال والرأسمالية، كبرنامج "شاعا كالا عل كالكلاه" (وقفة سريعة مع الاقتصاد) الذي كان يعده ويقدمه المراسل والمحلل الاقتصادي المرموق في صحيفة هآرتس أبراهام طال. وقد تخللت مثل هذه البرامج مواعظ ودعوات يومية لـ "الخصخصة"، وتقليص الميزانيات الاجتماعية، والتي شارك فيها كثيرون آخرون في وسائل الإعلام المؤسسية، ليسوا سوى ببغاوات محلية يقلدون حلفاءهم الأيديولوجيين التاتشريين (نسبة إلى رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر) والريغانيين (نسبة إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان) فيما وراء البحار.

 

في السنوات الأخيرة، ولا سيما في أعقاب الأزمة المالية العالمية في العام 2008، وخصوصا منذ الاحتجاج الاجتماعي في إسرائيل (صيف العام 2011)، يمر قسم من هؤلاء الورعين الضالين بعمليات فطام أيديولوجية، ويكتشفون فجأة البعد الاجتماعي للاقتصاد، ومن ضمن ذلك الاكتشاف المذهل بأن الاقتصاد يجب أن يخدم المجتمع وليس العكس. ولعل المضحك هو السرعة التي يستملك فيها هؤلاء المتذبذبون، الذين يصوغون الرأي العام، خطابا اجتماعياً تقدميا دون ذرة من خجل أو اعتذار وندم. وليس لدي أي تذمر، بل أتمنى لهم فقط فطاما، وشفاء تاما مكللا بالنجاح، وانعتاقا سريعا من قيود الطائفة.

 

قبل نحو ستة أشهر، وعلى خلفية النتائج الوخيمة للرأسمالية الجامحة التي دعت إليها، اكتشفت المجلة الأسبوعية الاقتصادية المحافظة "إيكونوميست" النموذج الـ "نوردي" لدولة الرفاه، وكالت له المديح كنموذج اقتصادي واجتماعي أنموذجي، يشمل إنتاجية اقتصادية مرتفعة ومعدلات فقر منخفضة، وعدم مساواة اجتماعية واقتصادية محدودة. لم يمض وقت طويل، وإذا بصحيفة "ذي ماركر" (نشرة اقتصادية تصدر وتوزع مع صحيفة "هآرتس") تستورد وتترجم هذا "الاكتشاف" لجمهور قرائها الإسرائيلي. غير أن ما وصفته مجلة "إيكونوميست" كدولة رفاه اسكندنافية، كان وصفا جزئيا وخاطئا، كما أورد بصورة واضحة جوزيف شفارتس في مجلة "ديزينت". فهذا الوصف لم يشمل، من ضمن أشياء أخرى، النسبة المرتفعة جدا من العمال المنظمين في تلك الدول ودورهم المركزي في رسم السياسة الاجتماعية والاقتصادية، وهو أمر أشار إليه أكثر من مرة د. عامي فتوري، الخبير الوحيد في إسرائيل في موضوع السياسة الاجتماعية والاقتصادية للدول الإسكندنافية وأحد مؤسسي منظمة "قوة للعمال".

 

وتحرص جداً "إيكونوميست"، كحال "ذي ماركر"، على سبيل المثال، على عدم إبراز حقيقة أن 30 بالمئة من قوة العمل في هذه الدول تعمل في القطاع العام، مقابل نسبة 15 بالمئة من قوة العمل (التي تعمل في القطاع ذاته) في دول منظمة التعاون الاقتصادية والتنمية (OECD).

 

مؤخرا، كرس غاي رولنيك عدداً لا يستهان به من الصفحات لتفحص النموذج السويدي، والتي شمل جزءا كبيرا منها مقابلات مهمة ومثيرة للانتباه مع خبراء اقتصاديين يعملون في اتحادات مهنية وغيرها. وقد أشار عامي فتوري، الذي امتدح رولنيك على تصحيح تشوهات مافيوزية للنموذج ذاته، إلى الاستنتاجات عديمة الأساس، حسب رأيه، التي توصل إليها رولنيك بشأن عمليات تنظيم صفوف العمال والأجراء في السنوات الأخيرة في إسرائيل.

 

إن المشكلة مع رولنيك وكثيرين آخرين ممن اكتشفوا مؤخرا النموذج السويدي، تتمثل في الطريقة الانتقائية والمنحازة التي يتبعونها في وصفه، وهو وصف انتقائي يتمشى مع مواقفهم الأيديولوجية. فقد كتب رولنيك يقول: "إن ما تعلمناه من رجالات الاقتصاد الذين يمثلون الاتحادات الكبرى في السويد، هو أن جميع اتفاقيات العمل والأجور في الدولة تخضع للمبدأ المقدس المتمثل في النجاعة والجدوى الإنتاجية. وبغية التيقن من أن اتفاقيات الأجور لا تضر بالاقتصاد، فإنها تقاد وتوجه بواسطة اتفاقيات أجور في صناعات التصدير، التي يجب أن تكون منافسة في الأسواق العالمية".

 

إن الاستنتاج المنبثق عن هذه الأقوال، وعن أقوال خبراء الاقتصاد السويديين، والذي كان يجب أن يتبنى معجبا جديداً ومتحمسا للنموذج السويدي لديه مصلحة واهتمام باستيراد هذا النموذج إلى إسرائيل، هو أن الأمر الضروري والملح الذي ينبغي القيام به هنا، يتمثل في وجوب العمل على إنشاء نقابات عمال قوية في الصناعات التصديرية، ومنها على سبيل المثال، صناعة مركزية لا توجد فيها نقابات عمالية مثل صناعة "الهايتك". لكن الاستنتاج العاجي الذي توصل إليه رولنيك، عوضا عن ذلك، والذي يشكل أيضا إحدى الأجندات المركزية لدى صحيفة "ذي ماركر" (ما عدا في حالات شاذة)، يدعو إلى إضعاف نقابات العمال في القطاع العام (وأنا أوافق أيضا على أنها تحتاج إلى إصلاحات ديمقراطية جوهرية).

 

وبغية خلق تناقض شديد بين إسرائيل والنموذج السويدي، يعرض رولنيك أيضا صورة خاطئة لعمليات تنظيم وتأطير العمال والمستخدمين الجديدة في إسرائيل، كما لو أنها تجري كافتها في القطاع العام، وسط تجاهل عمليات تنظيم جديدة أخرى تجري في الآونة الأخيرة في فروع التأمين والاتصالات وشركات الهاتف الخليوية.

 

لقد اعتادت "ذي ماركر" التباكي على المصير القاتم للعمال والمستخدمين غير المنظمين الذين لا يتمتعون سوى بسلة حقوق مقلصة، وكذلك عمال المقاولة، غير أن ذلك لا يتم بصورة عامة، من أجل تحسين أوضاعهم، وإنما فقط في سياق مناطحة ومهاجمة النقابات المهنية القائمة.

 

ويتضمن النموذج السويدي، في أحد مكوناته المركزية، سوق العمل المرنة التي ينتقل فيها العمال خلال مسيرتهم المهنية بين أماكن عمل مختلفة. ولكن بغية المحافظة على سوق العمل المرنة هذه تخصص السويد قرابة 30 بالمئة من إنتاجها القومي الخام للتأهيل المهني، وتمنح مخصصات بطالة سخية للعمال العاطلين عن العمل.

 

في إسرائيل، التي ألغيت فيها عمليا ميزانية التأهيل المهني، كنت أتوقع من متحمس للنموذج السويدي، مثل رولنيك، أن يشكل الأمن الوظيفي، من وجهة نظره، أحد العوامل المركزية المسببة لقلة النجاعة الاقتصادية والفساد في مرافق الاقتصاد الإسرائيلي، وأن يؤيد المكونات المركزية التي يتضمنها النموذج السويدي، ويعمل من أجل تطبيقه في إسرائيل، ولكنه لم ينبس بكلمة واحدة في هذا الصدد أيضا. كذلك الحال فيما يتعلق بموضوع الخصخصة، فقد أكد رولنيك على سياسة خصخصة الخدمات الاجتماعية، مثل خدمات التعليم والصحة، وعلى سبيل المثال، فإن خدمات التعليم في السويد، لا تقدم من جانب الدولة فحسب، وإنما أيضا من طرف مؤسسات خاصة، بعضها دون أهداف ربحية، وبعضها الآخر لأهداف ربحية، وتزود الدولة أيضا المواطنين بقسائم يمكن لهم بواسطتها الاختيار بين مدارس مختلفة، عامة وغير عامة، ومدارس تابعة لجهات خاصة تعمل لأهداف ربحية. بيد أن من المهم التوكيد هنا أن القسائم تمنح على أساس من المساواة، ولا يمكن أن تضاف إليها أموال خاصة. كذلك فإن جميع المدارس تخضع لعملية ضبط وإشراف صارمة جدا من جانب الدولة. وكما يظهر في أقوال الأشخاص الذين أجريت المقابلات معهم فإن التعليم يشكل بالذات سببا مركزيا لعدم الرضا في السويد، وبحسب قولهم فإن أجر المعلمين المتدني يؤثر على إنجازات ونتائج التلاميذ السويديين، الذي يعتبر منخفضا نسبيا.

 

مع ذلك، ليست كل الأمور وردية في جهاز التعليم السويدي. فقبل بضعة أشهر أعلنت إحدى المؤسسات الكبرى المزودة لخدمات التعليم في السويد عن إفلاسها، تاركة آلاف التلاميذ والمدرسين عاجزين بلا حول ولا قوة. إن خصخصة جهاز التعليم، التي تشمل، من ضمن أشياء أخرى، خصخصة توفير خدمات التعليم وإشراك جهات خاصة ذات أهداف ربحية، وخلق تنافس بين المدارس بواسطة القسائم، يعتبر أحد المواضيع أو المشاكل الجادة للغاية التي لا يمكن حلها بتصريح من قبيل أن الأمور تجري على هذا النحو في الجنة السويدية، فقط لأن ذلك يتمشى مع تفضيلاتك الأيديولوجية الليبرالية.

 

وإذا كانوا في صحيفة "ذي ماركر" قد قرروا التجند لتبني ودفع النموذج السويدي، الذي يستند من ضمن أشياء أخرى، على قواعد وأعراف وقيم تاريخية، وأخلاقية وثقافية خاصة، عندئذ وكخطوة أولى، كما يتضح أيضا من أقوال الذين شملتهم المقابلات، فإنه من الجدير بهم بادئ ذي بدء التخلص من الفكرة المستحوذة على تفكيرهم، والمتمثلة في ملاحقة واضطهاد عمال ومستخدمي القطاع العام.

 

يتعين عليهم، عوضا عن ذلك، أن يفردوا مساحة معينة في الصحيفة للكتابة عن أهمية إقامة منظمات عمالية في القطاعات التصديرية، وأن يطالبوا بالاستثمار من المال العام في التأهيل المهني وزيادة مخصصات البطالة، فهذه تشكل مكونات مركزية في اليوتوبيا السويدية.

 

________________________

 

(*) خبير اقتصادي. نقلاً عن موقع "هعوكيتس" الإلكتروني. ترجمة خاصة.