المراسل السياسي والدبلوماسي في صحيفة هآرتس: أتوقع أن ينتهي اللقاء بين نتنياهو وأوباما بمزيد من النفور

على هامش المشهد

 

 

 

الجهاز الصحي الرسمي في إسرائيل يواجه أزمة عميقة وخطرة

 

 

 

*"خدمات خاصة" و"سوق سوداء" ـ ظاهرتان تتفشيان في الجهاز الصحي الرسمي في إسرائيل*

 

 

 

 

29 مليار شيكل في السنة ـ هذا هو المبلغ الذي يدفعه المواطنون الإسرائيليون، بالمجمل، من جيوبهم الخاصة لتمويل "الخدمات الطبية الخاصة". وحين نقول "المواطنون الإسرائيليون، بالمجمل"، فمن الواضح بالتأكيد أن الحديث يدور عن شرائح محددة بعينها في المجتمع الإسرائيلي تمتلك إمكانية صرف هذه المبالغ الكبيرة للحصول على خدمات طبية في "السوق السوداء" وتسمح لنفسها بصرف هذه المبالغ، بينما يضطر السواد الأعظم من المواطنين إلى الاكتفاء بما يوفره ويقدمه له الجهاز الصحي العام في البلاد، سواء ما تمتلكه وتديره الحكومة (وزارة الصحة) مباشرة، من مستشفيات وعيادات، أو ما تمتلكه وتديره "صناديق المرضى" المختلفة، تحت إشراف حكومي، وذلك مقابل "الرسوم الصحية" الشهرية التي يدفعها المواطنون، إذ يتم خصمها من أجورهم ومستحقاتهم المختلفة، مباشرة. ويصل إجمالي هذه "الرسوم الصحية" إلى مبلغ 18 مليار شيكل في السنة، يضاف إليها مبلغ 25 مليار شيكل في السنة تُقتطع من عائدات الضرائب الرسمية المختلفة لتمويل الجهاز الصحي في إسرائيل.

 

قانون ثوريّ... أزمة متجددة!

 

ومن هنا، نرى أن مبلغ الـ 29 مليار شيكل الذي يُصرف على تمويل "الخدمات الطبية الخاصة" في إسرائيل اليوم يعادل ما نسبته نحو 40% من إجمالي الصرف على الصحة فيها. وهي خامس أعلى نسبة بين "الدول المتطورة" على هذا الصعيد، بينما تشير المعطيات الإحصائية إلى أنها تزداد بوتيرة مرتفعة جدا، من سنة إلى أخرى. وللمقارنة، فقد كان مجموع ما كان يصرفه الإسرائيليون على هذه الخدمات في العام 1995 أكثر بقليل من 7 مليارات شيكل (أي رُبع ما هي عليه الآن!) ـ وهي السنة التي بدأ في مطلعها سريان مفعول "قانون التأمين الصحي الرسمي" الذي سنه الكنيست الإسرائيلي في العام 1994وجاء لينظم تقديم الخدمات الصحية للمواطنين في البلاد، بواسطة صناديق المرضى المختلفة ومن خلالها.

 

وكان هذا القانون قد سُنّ بمبادرة من حاييم رامون، كوزير للصحة في حكومة إسحق رابين، ثم كرئيس للنقابة العامة للعمال في إسرائيل (الهستدروت)، تنفيذا لإحدى التوصيات، المركزية، التي تضمنها تقرير قدمته إلى الحكومة، قبل ذلك بأربع سنوات، لجنة تحقيق رسمية خاصة عُرفت باسم "لجنة نتنيناهو" (على اسم رئيستها، قاضية المحكمة العليا آنذاك، شوشانه نتنيناهو). وكانت الحكومة الإسرائيلية شكلت لجنة التحقيق الرسمية هذه في العام 1988، لفحص أوضاع الجهاز الصحي في البلاد وذلك على خلفية أزمة اقتصادية خانقة عصفت به وكادت تؤدي إلى انهياره التام استمرت منذ أواسط الثمانينيات وحتى أواسط التسعينيات، موعد بدء سريان مفعول القانون الجديد.

 

وقد اعتبر هذا القانون، آنذاك، بمثابة "ثورة" في مجال الخدمات الصحية في إسرائيل، ليس لمنعه وقوع الانهيار التام في الجهاز الصحي البلاد، فقط، بل من حيث ضمان عمله، طرق تمويله ومجالات عمله، فضلا عن ضمان حق كل مواطن، أو مقيم، بتلقي "سلة خدمات صحية" تشكل حدّا أدنى مُلزِما يتوجب على أي من صناديق المرضى تقديمه لأي مواطن، تبعا للحاجة (الصحية) وعلى قدم المساواة. وقد استهل القانون إياه بالإعلان أنه "مبني على قيم العدالة، المساواة والمسؤولية المتبادلة". أما "المسؤولية المتبادلة" فقد أوضح القانون، في معرض الشروحات والتسويغات، بأنها "المسؤولية تجاه الفئات المستضعفة في المجتمع. كل مؤمَّن يدفع وفقا لقدرته ويتلقى ما يضمنه القانون من خدمات، تبعا لحاجته وعلى قدم المساواة"!

 

ولكن، بعد أقل من عقد واحد على دخول هذا القانون حيز التنفيذ، يبدو واضحا أن الخدمات الصحية العامة في إسرائيل قد استدارت نحو الخلف وهي تخطو، بثبات، في طريقها إلى أزمة خانقة جديدة، ظهر خلال السنوات القليلة الأخيرة أكثر من مؤشر واحد ينذر بها مع استمرار تعمق الفجوات من جديد، وهو ما تشكل معطيات "الصرف الخاص" على الخدمات الصحية في السوق السوداء دلالة فاضحة عليه. لكن المؤشر الأبرز والأقوى على هذه الأزمة الجديدة هو تشكيل "لجنة غيرمان"، وهي لجنة استشارية شكلتها وتترأسها وزيرة الصحة الحالية، ياعيل غيرمان ("يوجد مستقبل")، أنيطت بها مهمة "فحص سبل تقوية وتعزيز الجهاز الصحي العام" في إسرائيل. وفي كتاب تعيين اللجنة، قالت وزارة الصحة، في بيان رسمي: "تبرز، في السنوات الأخيرة، وجهات تثير القلق ومن الصعب جدا تخمين تأثيراتها المستقبلية البعيدة المدى على الجهاز الصحي. وسعيا إلى ترسيم هذه الآفاق المستقبلية المختلفة وضمان استمرار المبادئ الأساس التي قام عليها "قانون التأمين الصحي الرسمي" ـ مبادئ المساواة، العدالة والمسؤولية المتبادلة ـ مستقبلا أيضا، قررت وزيرة الصحة تعيين لجنة استشارية لتقوية وتعزيز الجهاز الصحي الرسمي". وأضاف بيان الوزارة: "ستفحص اللجنة أوضاع جهاز الصحة العام في إسرائيل وتقدم توصياتها بشأن الخطوات اللازمة، بما في ذلك التعديلات القانونية والإجراءات العملية. وسيشمل فحص اللجنة الجوانب التالية: 1. العلاقة بين الخدمات الطبية العامة وبين الخدمات الطبية الخاصة، وبين المصروفات الحكومية والعامة وبين المصروفات الخاصة في مجال الصحة؛ 2. التأمينات الصحية (الخدمات الصحية الإضافية والتأمينات التجارية)؛ 3. السياحة العلاجية؛ 4. مكانة وزارة الصحة الملتبسة، كمزوّد خدمات من جهة أولى، كمؤَمِّن من جهة ثانية وكسلطة حكومية من جهة ثالثة، وما يستوجبه ذلك في مسألة "فصل القبعات"".

 

وتواجه هذه اللجنة، التي تواصل مداولاتها منذ شهر حزيران الماضي، طبقا للأنباء التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، مهمة صعبة جدا تتمثل في ضرورة تفكيك ثلاثة "ألغام" أساسية وفي غاية الأهمية بالنسبة للجهاز الصحي في إسرائيل: الأول ـ هل تسمح للمستشفيات العامة بإدخال "الخدمات الطبية الخاصة" التي تعني تمكين المرضى من اختيار الطبيب الجرّاح مقابل مبلغ من المال؟ والثاني ـ التأمينات الصحية المكمِّلة (التجارية) التي ازدهرت سوقها على نحو مذهل خلال السنوات الأخيرة (كلما كان التأمين الصحي أغلى سعراً، كانت سلة الخدمات الطبية التي يحصل عليها المؤمَّن أكبر وأفضل. ويشار هنا إلى أن 27% من السكان في إسرائيل، هم من الحريديم والعرب أساسا، لا يمتلكون أية تأمينات صحية مكمِّلة، ولو الأرخص سعرا منها)؛ والثالث ـ تحويل المستشفيات الحكومية إلى شركات خاصة ومستقلة.

 

وحيال الأزمة المتجددة في الجهاز الصحي في إسرائيل يُطرح السؤال: كيف ولماذا حصل هذا؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال، يشخّص الخبراء والمتابعون وجهتين اثنتين، توجَّه أصابع الاتهام، في كل منهما، إلى جهة مختلفة: فوزارة الصحة تتهم وزارة المالية بالمسؤولية عن هذا الوضع المستجد، نظرا لأنها (المالية) تمارس سياسة "تجويع الجهاز الصحي" بتخصيصها ميزانيات أدنى بكثير من حجم المصروفات الحقيقية التي تتكبدها صناديق المرضى والمستشفيات، مما يؤدي إلى مسٍ حاد وعميق بالخدمات الصحية المقدمة إلى المواطنين، كمّاً ونوعاَ. وحيال هذا التردي في حجم الخدمات، جودتها ومستواها، التي يقدمها الجهاز الصحي الرسمي، أخذ المواطنون يلجأون، أكثر فأكثر، إلى الخدمات الطبية الخاصة، أي "السوق السوداء".

 

وفي الجانب الآخر، تتهم وزارة المالية وزارة الصحة بأنها هي التي أرست البنية التحتية الأساسية للخدمات الصحية الخاصة: فهي التي سمحت بازدهار سوق "التأمينات الصحية المكمّلة" التي تشكل، بالنسبة لصناديق المرضى، مصدر التمويل الأساس لزيارات المؤمَّنين (الفحوصات والعلاجات) لدى الأطباء المختصين المستقلين وللعمليات الجراحية الخاصة، بما في ذلك حرية اختيار الطبيب الجرّاح. وفي اللحظة التي توفرت فيها البنية التحتية الأساسية هذه، أصبح الأطباء يحرصون على توجيه أكثر ما أمكن من المرضى (المقتدرين مالياً) إلى عياداتهم الخاصة وغرف عملياتهم الخاصة، مستغلين لذلك قدرتهم على "خلق" طوابير انتظار طويلة وغير محتملة للعلاج في إطار جهاز الخدمات الصحي، ناهيك عن انعدام إمكانية اختيار المريض طبيبه الجرّاح المرغوب في إطار هذا الجهاز!

 

وتجد "حرب الاتهامات" هذه تعبيرا صارخا لها في مداولات "لجنة غيرمان" هذه، ليس من باب "البكاء على الحليب المسكوب" فقط، وإنما لأن تحديد "المتهم" المسؤول عن هذا التردي من شأنه أن يؤثر، أيضا، في النتائج التي ستتوصل إليها هذه اللجنة وفي التوصيات التي ستخلص إليها بشأن الحلول المناسبة في كل واحدة من المسائل المذكورة.

 

رشى ومحسوبية

 

لتلقي علاجات طبية

 

في مثل هذا الوضع، الذي يزداد تفاقما يوما بعد يوم، من الطبيعي أن يتفشى الفساد المتمثل في دفع / تلقي رشى مالية لضمان الحصول على / تقديم خدمات طبية معينة.

 

فقد بيّن بحثٌ جديد أجري لفحص مدى انتشار "السوق السوداء في الخدمات الطبية" في إسرائيل ونشر مؤخرا أن واحدا من بين كل ثمانية إسرائيليين اضطر إلى دفع رشوة مالية من أجل الحصول على خدمة طبية معينة في إطار الجهاز الصحي الرسمي (!) وأن واحدا من بين كل أربعة إسرائيليين لجأ إلى المحسوبية ("واسطة"!) لضمان تلقي علاج طبي أفضل، سواء من حيث التوقيت أو من حيث الجودة!

 

وكشف البحث، الذي أجراه د. نيسيم كوهين، من قسم الإدارة والسياسة العامة في كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا، بالاشتراك مع البروفسور داني فيلك، من قسم السياسة والحُكم في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع، أن "الدفع من تحت الطاولة لتحسين جودة ومستوى العلاج الطبي ظاهرة شائعة وآخذة في التفشي في إسرائيل، حتى في ظل وجود التأمينات الصحية المكملة والخدمات الصحية الخاصة"!

 

ووثق الباحثان غيضا من الشهادات الشخصية، على ألسنة مواطنين أجريت معهم مقابلات هاتفية. ومن بينها، على سبيل المثال: "والدي دفع من تحت الطاولة لإجراء قسطرة". وقال آخر: "معارف لي اضطروا إلى دفع بضعة آلاف من الدولارات لجرّاح قلب من تحت الطاولة لكي يقوم هو بإجراء العملية"! وقال آخر: "أحد الأطباء في أحد المستشفيات أبلغنا بأنه هو الذي سيجري العملية وبأنه من المعتاد أن يكافَأ على ذلك"!

 

وبينت نتائج البحث أن 12% من المشاركين أفادوا بأنهم لجأوا خلال السنوات الأخيرة إلى "الطب الأسود" ـ أي دفع أموال لتحسين مستوى وجودة الخدمة الطبية، وأن 6% من المشاركين أفادوا بأن أطباء طلبوا منهم، بصورة مباشرة، دفع مبالغ من المال "بصورة غير رسمية" كي يقوموا هم شخصيا بتقديم العلاج اللازم أو تقريب الدور.

 

كما بيّن البحث، أيضا، أن هذه الأموال "السوداء" غير القانونية لم تُدفع لأطباء فقط، بل لممرضات وممرضين أيضا!

 

وقد جاء هذا البحث ليكشف واقع التفشي المتجدد لظاهرة "الطب الأسود" في إسرائيل بعد سنوات عديدة ساد فيها الاعتقاد العام بأن هذه الظاهرة، التي كانت منتشرة جدا في إسرائيل سابقا، قد زالت واختفت في أعقاب سن "قانون التأمين الصحي الرسمي" وظهور التأمينات الصحية المكملة. ففي التسعينيات، مثلا، كانت ظاهرة "الطب الأسود" متفشية جدا في إسرائيل، حسبما كشف البحث الأبرز الذي أجراه البروفسور شلومو نوي والبروفسور ران لحمان في العام 1998: كل مريض ثالث في إسرائيل لجأ إلى "الطب الأسود" ودفع مبالغ من المال بصورة غير قانونية للتمكن من اختيار الطبيب المعالِج، لتقريب دور العلاج أو لتلقي خدمة طبية أفضل وأسرع في أحد مستشفيات البلاد!

 

ويكتب الباحثان كوهين وفيلك: "الفساد، كما يبدو، هو جزء لا رادّ له من الواقع الإنساني. ومع ذلك، فإن اعتماد منظومات سليمة للحوافز وقواعد سلوكية واضحة يتم فرضها بصورة فعالة وناجعة من شأنه أن ينظّف جهازا فاسدا ويجعل الأعشاب الضارة ظاهرة ثانوية ونادرة فيه"! ويؤكدان أن "اجتثاث هذه الظاهرة سيعزز الثقة بالجهاز الصحي ويحسّن من أدائه، سواء على المستوى الاقتصادي أو على الصعيد الاجتماعي. والخطوة الأولى نحو التغيير والإصلاح ينبغي أن تشمل رفع الوعي العام وممارسة الضغط على السياسيين وصناع القرار، خارج الجهاز الصحي وداخله".