الليكود بات في خانة اليمين الأشد تطرفا
*اليمين المتشدد الذي تمرّد على زعيمه "القديم" في الليكود أحكم قبضته على الحزب كليا *الليكود يفرض على نفسه التخلي عن أصوات "الوسط" و"اليمين المعتدل" لينافس لاحقا أساسا في قطاع المستوطنين *نتنياهو داعم من وراء الكواليس لقوة اليمين المتشدد*
كتب برهوم جرايسي:
غيّب الموت هذا الأسبوع رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل شارون، صاحب الدور الأبرز في اقامة حزب "الليكود" في العام 1973، وقائد الانشقاق الأكبر فيه بعد 32 عاما على تشكيله، على خلفية خطة إخلاء مستوطنات غزة، إذ جوبه بتكتل يميني متشدد تمرّد عليه في الكنيست بعد أن كان سنده في الحزب، ليتلقى "الليكود" بعد ذلك ضربة قاصمة في العام 2006، سرعان ما استفاق منها ليعود إلى الحكم في 2009، مستمرا بعد انتخابات مطلع عام 2013، لكن اليوم بات واضحا أن نواة التمرد على شارون باتت هي الحزب كله، كما بات الليكود المنافس الأكبر لأشد أحزاب اليمين تطرفا، بعد أن شطب كل الفوارق ولو كانت طفيفة بينه وبين أحزاب التطرف، ومشاريع القوانين التي يبادر لها نواب الليكود ومدى التأييد لها تعكس صورة الحزب "الجديدة".
لمحة قصيرة
عمل حزب "حيروت" اليميني المتشدد بزعامة مناحيم بيغن، في العام 1973، على تشكيل تحالف يميني ضم اليه أحزابا يمينية صغيرة، لكن عرّاب هذا التحالف، الذي بات أسمه الليكود (التكتل)، كان الجنرال أريئيل شارون، الذي خلع البزّة العسكرية في ذلك العام وانخرط في السياسة، إلا أنه في حرب أكتوبر ذات العام تم استدعاؤه للجيش مجددا ليكون من قادة الحرب.
وفي اليوم الأخير من ذلك العام جرت الانتخابات البرلمانية الثامنة، ونجح الليكود في أن يحقق 39 مقعدا، بعد أن كان لحزب حيروت في الانتخابات التي سبقت (العام 1969) 26 مقعدا، لكن شارون النائب الجديد في الكنيست لم يصمد لأكثر من عام، حتى غادر الكنيست ومن ثم غادر صفوف الحزب، وبات مستشارا سياسيا لرئيس الحكومة آنذاك إسحق رابين، ثم عاد شارون إلى الكنيست من خلال حزب جديد أطلق عليه "شلوم تسيون" وحصل في انتخابات 1977 على مقعدين، ولكن فور انتهاء الانتخابات انضم هذا الحزب إلى كتلة حزب "الليكود" الذي بات حاكما ليحصل شارون على حقيبة الزراعة.
وكان التيار المسيطر على حزب الليكود هو حزب حيروت بتياره الأيديولوجي التقليدي المتشدد، وبقيادة بيغن، وكل من انضم إلى هذا الإطار السياسي انصهر فيه سياسيا أيضا، وكذا أيضا بالنسبة لشارون، الذي احتل المراتب الأولى في لائحة الحزب في انتخابات العام 1981، وحصل على حقيبة الدفاع في حكومة بيغن الثانية، وبعد عام قاد الحرب على لبنان.
وكان شارون "العضو العاق" في الحزب على مر سنوات الثمانين والتسعين، في سنوات رئاسة إسحق شامير ومن بعده بنيامين نتنياهو، وقاد سلسلة من القلاقل و"فجّر" مؤتمرات واجتماعات مركزية، وكان هو رمز التيار اليميني المتشدد، وخاصة في منتصف سنوات التسعين، حينما بدأت تتغلغل في صفوف الحزب مجموعات كبيرة من المستوطنين وناشطين من اليمين المتطرف، بهدف المشاركة في الانتخابات الداخلية للحزب لاختيار لائحة الحزب البرلمانية، وأيضا للتأثير على تركيبة هيئات الحزب، وكان شارون يرتكز على هذا التيار الذي أوصله إلى رئاسة الحزب في العام 1999.
إلا أن شارون ظهر كمن ينقلب على التيار اليميني المتشدد، حينما بادر إلى خطة اخلاء مستوطنات قطاع غزة في العام 2004، فالتيار اليميني بقي يذكر لشارون مقولته الشهيرة حينما وصل إلى كرسي رئاسة الحكومة: "ما نراه من هنا (رئاسة الحكومة) مختلف عما كنا نراه من هناك (ميدانيا)"، وكان تلميحا لمتغيرات سياسية لديه.
واعتقد هذا التيار أن شارون يُطلّق قطاع غزة كبداية لانسحاب أكبر من الضفة الغربية، رغم أن الخطة كانت واضحة منذ البداية، وتهدف إلى اعادة انتشار جيش الاحتلال حول القطاع، وتشديد القبضة على الضفة الفلسطينية المحتلة.
ونجح شارون بشخصيته الكاريزماتية في أن يقود انشقاقا كبيرا في حزب الليكود، في تشرين الثاني 2005، فانسحب معه نصف الكتلة البرلمانية تقريبا، ليشكل حزب "كاديما" الذي انضم له ثلاثة نواب من حزب "العمل" من بينهم الشخصية التاريخية فيه شمعون بيريس.
وقبل العودة للمحور الأساس، التيار اليميني المتشدد في الليكود، علينا الإشارة إلى أن غياب شارون عن قيادة حزب "كاديما" بعد 47 يوما من تشكيله، ساهم في شكل بلورة الحزب لاحقا وعدم ثباته في الساحة السياسية، رغم الفوز الذي حققه في انتخابات ربيع 2006.
التيار المتشدد يسيطر كليا
في انتخابات 2006 تلقى حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو ضربة قاصمة بهبوطه إلى 12 مقعدا بعد أن حصل في انتخابات 2003 على 38 مقعدا، في حين حصل حزب "كاديما" على 29 مقعدا، ولكن الليكود استفاد كثيرا من ضعف أداء "كاديما" وخاصة ضعف رئيسه إيهود أولمرت، ونجح الليكود في العودة إلى الحكم قويا نسبيا، في انتخابات العام 2009، بكتلة من 27 نائبا.
لكن قبل تلك الانتخابات عرف نتنياهو أنه بحاجة إلى جذب أسماء لامعة في الحلبة الإسرائيلية، منهم أعضاء ليكود سابقين، وجنرالات في الجيش، من أجل ضمان عودة الحزب إلى الحكم، فرأينا عودة بنيامين بيغن، اليميني الأيديولوجي المتشدد، ودان مريدور، الذي كان محسوبا على تيار "الاعتدال"، كما انضم رئيس هيئة الأركان الأسبق موشيه يعلون، والجنرال الاحتياط يوسي بيلد، وغيرهم.
وهذه الأسماء يضاف اليها نواب آخرون في الليكود أضفت على الحزب وكتلته البرلمانية انطباعا وكأن فيه تعددية ما، وبامكانها أن تستقطب الأصوات من جمهور "الوسط"، خاصة وأن هذه الأسماء ضمها نتنياهو إلى حكومته بحقائب مختلفة، ولكن في المقابل كان التيار اليميني المتطرف كليا يتعزز أكثر فأكثر، وبدعم نتنياهو من وراء الكواليس.
وفي أواخر العام 2012، في الانتخابات الداخلية التمهيدية للانتخابات البرلمانية (التي جرت مطلع العام 2013)، تنّكر نتنياهو لكل تلك الشخصيات ذات المكانة الشعبية، وترك الساحة للتيار اليميني المتشدد ليطيح بها، ولم تحصل الشخصيات على مكان في اللائحة، مثل بيغن ومريدور، وأيضا النائب ميخائيل ايتان، وفلت من هذه المصيدة من كان رئيسا للكنيست رؤوفين ريفلين، ولكن بعد الانتخابات منع نتنياهو بقاءه في منصبه، رغم مواقفه اليمينية المتشددة، ولكنه في نفس الوقت أيديولوجي له مواقف مغايرة بشأن التعامل مع المواطنين العرب.
ووصلت إلى الكنيست كتلة برلمانية هي الأشد تطرفا في تاريخ الليكود، أو كما ورد في مقال سابق هنا فإن هذا اليمين متطرف منفلت، لا تضبطه أية مقاييس أيديولوجية، بل يتبع أسلوب الحرب المفتوحة على جميع الأصعدة، وضد جميع الجهات التي تختلف مع تطلعاته.
ولدى تشكيل حكومته، عرف نتنياهو أنه سيكون في مأزق سياسي أمام الحلبة الدولية، إذا ما اعتمد تركيبة لائحته حزبه البرلمانية في توزيع الحقائب، بمعنى توزيعها على من احتلوا أماكن متقدمة، إذ جلهم من ذلك التيار، وغالبيتهم حديثة العهد في السياسة، ولذا رأيناه يبقي على عدد من الوزراء من الحكومة السابقة، بينما وزع مناصب بدرجة أقل على الفريق الأشد تطرفا، مثل نائب وزير الدفاع داني دانون، ونائب وزير الخارجية زئيف إلكين، ونائب في ديوان رئاسة الحكومة أوفير أكونيس، ونائبة الوزير تسيبي حوتوبيلي، وسلّم النائب ياريف ليفين رئاسة الائتلاف، والنائبة ميري ريغف رئاسة لجنة الداخلية.
النهج البرلماني
تضم كتلة حزب "الليكود- بيتنا" حزبي الليكود و"إسرائيل بيتنا" وللحزبين 31 نائبا، منهم 20 نائبا لحزب الليكود، و19 نائبا منهم حصلوا على مناصب وزارية وبرلمانية، أي باستثناء ريفلين، ولكن 14 نائبا منهم في وظائف لا تسمح لهم بطرح مبادرات قوانين، وهم رئيس الحكومة والوزراء ونوابهم ورئيس الكنيست، ما يعني أن مجال العمل البرلماني المفتوح متاح لستة نواب، وليسوا كلهم بنفس درجة النشاط وطرح المبادرات، ولكنهم يدعمون.
ويبرز في مجال طرح القوانين رئيس الائتلاف ياريف ليفين ورئيسة لجنة الداخلية البرلمانية ميري ريغف، ويسارع هذان الاثنان على وجه الخصوص في طرح قوانين تهدف بالأساس إلى ضرب آفاق حل الصراع وعرقلة المفاوضات، عدا عن قوانين عنصرية موجهة ضد المواطنين العرب في إسرائيل.
ومن هذه القوانين، مشروع قانون ضم غور الأردن لما يسمى "السيادة الإسرائيلية"، والذي أقرته اللجنة الوزارية لشؤون التشريعات بأغلبية نواب "الليكود" و"إسرائيل بيتنا" و"البيت اليهودي"، وجمدّه نتنياهو في حكومته ومنع مرحليا طرحه على الكنيست، وقانون منع التفاوض حول القدس، وسلسلة قوانين يطرحها ليفين خاصة وتستهدف العرب، مثل قانون "القومية".
وعمليا فإن كل الكتلة البرلمانية نجدها منسجمة سياسيا، حتى وإن بدا وكأن نتنياهو يعترض هنا وهناك، إلا أنه لا يمنع أي حراك متطرف. فمثلا، حينما اجتمع مع وزراء حزب الليكود قبل التصويت على مشروع ضم غور الأردن قال لهم، حسب الصحافة، إن هذا القانون سيحرج إسرائيل، لكنه لم يعبر عن موقف معارض مبدئيا، كما لم يطلب من الوزراء التصويت ضده، ولم يعترض نتنياهو أيضا على الجولة الوزارية والنيابية لحزبه في غور الأردن و"وضع حجر أساس" لمستوطنة جديدة.
وكذا أيضا حينما بادر رئيس الائتلاف الحاكم ياريف ليفين إلى إقامة اللوبي البرلماني "من أجل أرض إسرائيل" فإنه لم يلق معارضة من نتنياهو، بل لقي تأييدا من جميع أعضاء الكتلة العشرين، بمن فيهم الوزراء ونوابهم.
حلبة منافسة الليكود
سمح "التنوع" المحدود في حزب الليكود، بموجب المقاييس الإسرائيلية، على مر السنين، في جذب أصوات من جمهور "الوسط" أو "اليمين المعتدل"، أيضا وفق المفهوم الإسرائيلي لهذه المصطلحات، لكن المشهد الحاصل في حزب الليكود اليوم يدل بشكل واضح على أنه بات من الصعب عليه جذب هذه الأصوات، وليس من المؤكد أن يكون هذا الجمهور قد ارتدع بقوة في الانتخابات الأخيرة عن التصويت لحزب الليكود، الذي خسر سوية مع حزب "إسرائيل بيتنا" 11 مقعدا، إذ رأينا أن حزب المستوطنين "البيت اليهودي" زاد قوته من 5 مقاعد إلى 12 مقعدا، وهذا عدا عن مقعدين إضافيين كانا في الدورة البرلمانية للأحزاب التي شكلت هذا الحزب في الانتخابات الأخيرة، ولم ينجح صاحباهما في الدخول إلى الكنيست بسبب عدم استيفاء أصوات نسبة الحسم ببضع مئات من الأصوات.
لكن كما يبدو فإن استمرار الحالة سيكون له انعكاسات في الانتخابات المقبلة، ولا تلوح في الافق أية نية لتغيير الوضع القائم في الليكود، وما يدل على هذا نوايا نتنياهو ذاته، إذ تتحدث الصحافة الإسرائيلية كثيرا عن رغبته في انصهار حزبي "الليكود" و"إسرائيل بيتنا" بزعامة ليبرمان في حزب واحد، وهذه مبادرة تواجه معارضة شديدة في الليكود، خاصة من التيار المتشدد، ولكن من منطلقات حزبية ومراكز قوى، إذ يعتقدون أن دخول ليبرمان إلى حزب مشترك سيجعله الخليفة الأقوى لنتنياهو في رئاسة حزب كهذا، نظرا لشخصيته القوية وغيرها من الأسباب.
وفي المقابل، تبدو منذ الآن ملامح منافسة بين كتلة "الليكود" وكتلة "البيت اليهودي"- الإطار السياسي الأكبر بين المستوطنين في الضفة الفلسطينية المحتلة، وقد نرى في أي انتخابات مقبلة منافسة قوية جدا بين الإطارين في قطاع المستوطنين، الذي شكّل في الانتخابات الأخيرة 7% من ذوي حق التصويت، ولكن لا أقل من 5ر8% من الذين صوتوا فعلا، نظرا لنسب التصويت العالية جدا بين المستوطنين، مقارنة بنسبة التصويت العامة.
وهذا يعني أن الليكود يفرض على نفسه الانسحاب من حلبات أوسع، وخاصة جمهور "اليمين المعتدل"، وأيضا من "الوسط"، الذي قد يبحث عن "مأوى" سياسي جديد له في الانتخابات المقبلة، وهذا سيكون على حساب قوة "الليكود" البرلمانية كما يبدو حاليا.