ثلاثة تقارير جديدة عن إسرائيل: تعذيب المعتقلين الفلسطينيين وتقطيع أوصال الضفة الغربية

على هامش المشهد

بموازاة تفشيه في مفاصل السلطة المركزية: الفساد المستشري في السلطات المحلية يشكل خطراً استراتيجياً


*في 22 تشرين الأول الجاري تجري الانتخابات للسلطات المحلية في إسرائيل في ظل تفاقم غير مسبوق لحالة الفساد المتفشي في هذه السلطات والذي يتمظهر، بوجه خاص، في الازدياد الحاد في عدد لوائح الاتهام الجنائية المقدمة ضد رؤساء في هذه السلطات المحلية والقرارات التي تصدرها المحاكم بهذا الشأن من جهة، ومن جهة أخرى في الكشف المتواتر عن مدى تغلغل عصابات الإجرام المنظم في هذه السلطات ومدى تأثيرها، المقرر في أغلب الأحيان، على طرق إدارة هذه السلطات والسيطرة على غير قليل من صلاحياتها ومواردها*

كتب سليم سلامة:

 

تجري في إسرائيل، في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول الحالي، الانتخابات البلدية لانتخاب رؤساء وأعضاء السلطات المحلية (المجالس المحلية والبلديات)، وهو ما يتم كل خمس سنوات، وفقا لما تنص عليه المادة الرابعة من "قانون السلطات المحلية (انتخابات) - 1965".

والمعروف أن في إسرائيل 254 سلطة محلية (من بينها 75 سلطة محلية في الوسط العربي)، تشمل 75 بلدية في المدن التي يزيد عدد السكان في كل منها عن 20 ألف نسمة، ويقطن فيها جميعاً، بالمجمل، نحو 75% من مجموع السكان في إسرائيل، كما تشمل 126 مجلسا محليا في القرى والبلدات التي يتراوح عدد السكان في كل منها بين 2000 و 20000 نسمة، ويقطن في جميعها، بالمجمل، نحو 15% من مجموع السكان في إسرائيل.

كذلك، تشمل منظومة الحكم المحلي في إسرائيل نوعاً ثالثا هو ما يسمى بـ "المجالس الإقليمية". ويضم كل مجلس إقليمي بضع قرى وبلدات تقع في منطقة جغرافية معينة ويتراوح عدد السكان في كل منها بين بضع مئات و2000 مواطن. ويبلغ عدد المجالس الإقليمية في إسرائيل 54 مجلساً تضم، بالمجمل، ما يزيد عن 970 قرية وبلدة يسكن فيها جميعاً نحو 15% من مجموع السكان في إسرائيل. وتجري الانتخابات للمجالس الإقليمية بشكل منفرد، ليس ضمن الانتخابات العامة للسلطات المحلية (المجالس المحلية والبلديات)، وقد تحدد موعدها هذه السنة ليوم 24/12/2013.

 

فساد مستشرٍ ومحاكمات

متتالية... ولا قانون!

 

وتأتي الانتخابات للسلطات المحلية هذا العام في ظل تفاقم غير مسبوق في حالة الفساد المتفشي في هذه السلطات يتمظهر، بوجه خاص، في الازدياد الحاد في عدد لوائح الاتهام الجنائية المقدمة ضد رؤساء في هذه السلطات المحلية وقرارات الحكم الجنائية التي تصدرها المحاكم بهذا الشأن، من جهة، ومن جهة أخرى في الكشف الرسمي المتسع عن مدى تغلغل عصابات الإجرام المنظم في هذه السلطات ومدى تأثيرها، المقرر في كثير من الأحيان، على طرق إدارة هذه السلطات والسيطرة على غير قليل من صلاحياتها ومواردها.

وفيما يتعلق بجانب الفساد الإداري، بما فيه من تفشي ظواهر الرشوة وخيانة الثقة، كانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد أصدرت، يوم 17 أيلول الأخير، قرارا في غاية الأهمية والدراماتيكية شكـّل سابقة قانونية في إسرائيل قضى بعزل اثنين من رؤساء البلديات في مدينتين بارزتين وهامّتين هما: نتسيرت عيليت ("الناصرة العليا") ورامات هشارون، عزلا فورياً، من منصبيهما، وذلك على خلفية لوائح اتهام جنائية خطيرة قدمتها النيابة العامة للدولة بحق كل منهما.

وقد اكتسب هذا القرار أهمية مضاعفة واستثنائية بفضل ثلاثة عوامل بارزة (فضلا، بالطبع، عن كونه صادرا عن المحكمة العليا ـ الهيئة القضائية الأعلى في إسرائيل): أولها - أنه صدر عن هيئة محكمة تألفت من سبعة قضاة، يتقدمهم رئيس المحكمة، آشير غرونيس (وإنْ بقي، هو شخصيا، وحيدا في موقف أقلية، مقابل إجماع القضاة الستة الآخرين). وثانيهما - أنه صدر قبل شهر واحد فقط من موعد الانتخابات للسلطات المحلية (22/10)، وهو ما اضطر المحكمة إلى استعجال البت في القضية وإصدار القرار بشأنها، معلنةً أنها ستنشر التعليلات القانونية لهذا القرار في وقت لاحق. وثالثهما (وهو الأهم، هنا) - أنه يشكل نقلة قضائية نوعية عن القرار الذي أصدرته المحكمة ذاتها في منتصف تموز الماضي، قبل شهرين من قرارها الأخير، ورفضت فيه التماسا طالبها بإلزام رئيس بلدية مدينة رامات غان، تسفي بار، بالاستقالة الفورية و/ أو إلزام المجلس البلدي في رامات غان بالالتئام وعزله الفوري، على الخلفية ذاتها وللأسباب نفسها، كما فعلت الآن.

وقد أكد القضاة الستة (مريام ناؤور، عدنه أربيل، إلياكيم روبنشتاين، إستر حيوت، نيل هندل وتسفي زلبرطال)، في قرارهم الجديد، أنه "حيال لوائح الاتهام التي قدمت ضد رئيسي البلديتين، كان لزاما على المجلسين البلديين الالتئام والبحث في عزل الرئيسين، تبعاً للمادة رقم 22 من قانون انتخاب رؤساء السلطات المحلية". ورغم أن القرار لم يمنع رئيسي بلديتي نتسيرت عيليت، شمعون غابسو، ورامات هشارون، يتسحاق روخبرغر، من التنافس مجددا في الانتخابات القريبة ـ كما طالب الملتمسون ـ إلا أنه أكد أنه في حال إعادة فوز أي منهما بالرئاسة، فسيتوجب على المجلس البلدي الجديد الالتئام والبحث، ثانية، في مسألة عزله وأن قرار المجلس البلدي بهذا الشأن سيكون خاضعا للرقابة القضائية (في المحكمة ذاتها) من جديد. وهو ما يعني أنه حتى لو تم انتخاب أي منهما لرئاسة البلدية مجددا، فسوف يكون عرضة للعزل مرة أخرى، بقرار من المحكمة نفسها.

وتوجه المحكمة العليا، في قرارها هذا، رسالة واضحة وحازمة إلى جميع السلطات المحلية التي يشغل رئاستها أشخاص قدمت بحقهم لوائح اتهام جنائية، وهم كثر، لكنها امتنعت عن اتخاذ الخطوة التالية، الأكثر حزما وتأثيرا على مستوى السلطات المحلية وانتخاب رؤسائها، والتي تتمثل في منع أي شخص قدمت ضده لائحة اتهام جنائية من الترشح والتنافس على رئاسة السلطة المحلية، إذ قال القضاة: "رغم أن تنافس مثل هؤلاء يثير عدم الرضا في المستوى الجماهيري، إلا أننا لم نر إمكانية منعه في المستوى القضائي"! وهو ما يستبطن رسالة جلية إلى الكنيست (السلطة التشريعية) للنظر في تعديل القانون ذي الصلة إلى جهة تضمينه نصا قانونيا ملزما يلزم رئيس سلطة محلية قدمت بحقه لائحة اتهام جنائية بالاستقالة الفورية من منصبه، كما يحظر على شخص قدمت لائحة اتهام جنائية بحقه الترشح والتنافس على رئاسة سلطة محلية في البلاد.

أما رئيس المحكمة العليا، غرونيس، ورغم اتفاقه مع زملائه الستة في إشكالية إشغال رئيسي البلديتين المذكورين وأمثالهما هذا المنصب، من الناحية الجماهيرية، وفي أن "المسؤولية الجماهيرية والأخلاقية كانت تقتضي استقالتهما، ثم عدم ترشحهما"، فقد عارض اتخاذ قرار قضائي يوجِب عزلهما الفوري، نظرا لتزامن النظر في القضية مع موعد الانتخابات القريبة، وهو ما يفرض على المحكمة "التأني وانتظار حُكم الناخبين" والإحجام عن وضع نفسها "مكان الناخبين"!

وفي السياق، قال النائب العام للدولة، موشي لادور، إن التحقيق في قضايا الفساد في السلطات المحلية وتقديم لوائح اتهام ضد المتورطين فيها، من رؤساء ومنتخبي جمهور آخرين، "قد يُفهم بأنه تدخل في الانتخابات البلدية، لكن عدم معالجتها يشكل، هو أيضا، تدخلا في الانتخابات"!

ويـُلزم نص القانون الحالي في إسرائيل بعزل رئيس السلطة المحلية من منصبه فقط في حال صدور قرار قضائي نهائي يتضمن إدانته بجرم جنائي يشكل "وصمة عار".

وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد أرست، في العام 1993، قاعدة قضائية (سابقة) تلزم أي وزير أو نائب وزير في الحكومة بالاستقالة الفورية من منصبه في حال تقديم لائحة اتهام جنائية خطيرة بحقه، ثم تلزم رئيس الحكومة بفصله من منصبه إذا لم يفعل ذلك هو بمبادرته.

وهذه السابقة القضائية معروفة في إسرائيل باسم "سابقة بنحاسي"، على اسم نائب وزير الأديان آنذاك، رافائيل بنحاسي (من حزب "شاس")، الذي قدمت لائحة اتهام جنائية خطيرة بحقه لكنه رفض الاستقالة، كما رفض رئيس الحكومة آنذاك، إسحق رابين، عزله.

غير أن هذه السابقة لم تطبق على رؤساء السلطات المحلية، حتى اليوم، بالرغم عن الموقف المؤيد الذي أبداه المستشار القانوني للحكومة آنذاك، يوسف حريش، واليوم، يهودا فاينشتاين، وذلك بادعاء "ضرورة التمييز" بين الوزير ونائب الوزير، اللذين يشغلان منصبيهما بالتعيين (من جانب رئيس الحكومة)، وبين رئيس السلطة المحلية، الذين يشغل منصبه بالانتخاب المباشر.

 

الإجرام المنظم يتغلغل في

السلطات المحلية ... ولا حلّ!

 

أما فيما يتعلق بجانب تغلغل عصابات الإجرام المنظم إلى السلطات المحلية وسيطرتها على مفاصل رئيسية في هيكلياتها الإدارية، فقد برز في الفترة الأخيرة، وبصورة واضحة تماما، تعمّد الشرطة الإسرائيلية الكشف العلني عن هذه الظاهرة الخطيرة، وعلى لسان قيادات الصف الأول فيها.

وكان آخر هذه التصريحات العلنية قد صدر عن رئيس "الوحدة القطرية للتحقيق في قضايا الغش والخداع" في الشرطة، الميجور جنرال عيران كامين، الذي قال من على منصة مؤتمر عقدته "نقابة المحامين" في إسرائيل، يوم 26 آب الأخير، إن عصابات الإجرام المنظم "تقوم بإنشاء علاقات مع رؤساء بلديات في عدد من المدن المركزية والاستيلاء، من خلال ذلك، على موارد السلطة المحلية"! لافتاً إلى أن في السلطات المحلية "أموالا طائلة"، سواء في الأملاك غير المنقولة أو في المناقصات.

وكان سبقه إلى ذلك القائد العام الأسبق للشرطة الإسرائيلية، دودي كوهين، الذي حذر، في سياق مقابلة مع صحيفة "ذي ماركر"، في نيسان 2008، من أن "الفساد السلطوي يهدد طابع إسرائيل الديمقراطي" وأن شرطة إسرائيل "ترى في الفساد الفلسطيني خطرا استراتيجيا"، معتبرا أن "ثمة مركزين اثنين للفساد السلطوي، أولهما - في السلطات المحلية، حيث نشهد اختراقا متواصلا لمنظمات الإجرام، يتجسد في منح الامتيازات المختلفة وكذلك في الاستيلاء على المناقصات من خلال الرشى" وأن "الخصخصة تشكل أرضا خصبة لتعزيز وتكريس العلاقة بين المال والسلطة".

ثم عاد كوهين إلى تأكيد هذه الرؤية خلال المؤتمر الذي عقده لتلخيص فترة ولايته، في العام 2010، حين حذر من أن "عصابات الإجرام المنظم في إسرائيل تفتك بجسد المجتمع الإسرائيلي، من خلال السيطرة على أسواق قانونية والتغلغل في السلطات المحلية وفي مؤسسات الدولة"!

والرؤية ذاتها أكدها، أيضا، مراقب الدولة، يوسف شابيرا، الذي قال إن "مصدر المشكلة في العلاقة بين عصابات الإجرام المنظم وبين الرؤساء والمسؤولين الآخرين في السلطات المحلية يكمن في المناقصات والتعاقدات التي تقيمها السلطات المحلية... هنا مربط الفرس وهذا ما يتوجب علينا البحث عما يختفي خلفه"!

وكان تقرير مراقب الدولة الذي صدر قبل عامين قد تطرق إلى هذه المسألة، من زاوية النظر إلى الشركات الاقتصادية المختلفة التابعة للسلطات المحلية، والتي اعتبرها "وسيلة للالتفاف على قواعد وأنظمة الإدارة السليمة، بما في ذلك تجاوز أنظمة المناقصات، تعيين مقربين في مناصب إدارية في هذه الشركات وإبعاد أنشطة السلطة المحلية عن أعين المراقبة"!

وبالرغم عن ذلك، يذهب مراقب الدولة، شابيرا، إلى القول إن "الجمهور هو الذي ينبغي أن يحاسب منتَخَبيه"، بينما يؤكد النائب العام للدولة، لادور، أن "الحديث عن قدرة الجمهور على محاسبة ومعاقبة الفاسدين من ممثليه المنتخَبين لا يتعدى كونه شعارا غير ذي جدوى، لأن الجمهور غير قادر على وضع وتنفيذ الحل لهذه المعضلة الخطيرة، بل إن قدرته على ذلك محدودة جدا".

وبينما يرى 50% من الجمهور الإسرائيلي أن عصابات الإجرام المنظم قد تسللت بالفعل إلى مواقع الحكم، المركزية والمحلية، في إسرائيل، كما بينت دراسة أجراها مؤخرا البروفسور دافيد نحمياس من "المركز المتعدد المجالات" في هرتسليا، يقول البروفسور نحمياس نفسه إن "ثمة عشرات الأدلة التي تثبت أن الإجرام المنظم قد أصبح يشكل جزءا أساسيا وحاسم التأثير في الحياة السياسية في إسرائيل، مركزيا ومحليا"، بينما يؤكد أرييه أفنيري، رئيس جمعية "أومتس" ("مواطنون من أجل الإدارة السليمة والعدالة الاجتماعية والقضائية") أن "الوضع في السلطات المحلية في إسرائيل أشدّ وطأة وخطورة، بكثير، مما يبدو على السطح... فعصابات الإجرام المنظم تغلغلت في المدن المركزية وفي بلدياتها، بينما تبدي الشرطة عجزا عن معالجة هذه الأزمة"!

وخلاصة القول، إنه أيا كان الخلاف بشأن الطريقة المثلى التي يتعين اعتمادها في محاسبة رؤساء السلطات المحلية المتورطين في الفساد، على اختلاف أنواعه وتمثلاته، وفي محاربة آفة الفساد السلطوي عامة، إلا أن ثمة إجماعا بين جميع الجهات المختصة وبين الجمهور الواسع في إسرائيل على أن الفساد أصبح يمسك بغير قليل من أرفع وأدق المفاصل الأساسية في هرم السلطة الإسرائيلية، مركزيا ومحليا، من جهة، ومن جهة أخرى أن الأدوات القانونية والقضائية ـ ناهيك عن الجماهيرية ـ المتاحة حتى الآن لا توفر الحد الأدنى اللازم والكافي لاجتثاث هذه الآفة ومحاربة مصادرها ومسبباتها الحقيقية.