إسرائيل تدرس تشكيل لجنة تحقيق لتجنب عواقب تقرير غولدستون

على هامش المشهد

قبل عدة أعوام تقدمت إلى مقابلة للعمل في إحدى المنظمات الريادية في مجال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد سارت المقابلة على خير ما يرام، إلى أن طلب مني الإجابة على سؤال بدا لي غريباً، جاء فيه: إذا أتى إليك مستوطن يهودي شاكيا من انتهاك لحقوقه الإنسانية، هل تستطيعين التعامل معه بصورة جادة ودون تمييز؟! بعبارة أخرى، فقد اختارت هذه المنظمة الحقوقية الإسرائيلية الريادية (وعن حق) أن تكون "مهنية" حتى النهاية، حين وضعتني في موقف غير مريح دعيت فيه إلى التفكير، للمرة الأولى كفلسطينية، في أمر بدا من ناحيتي غير معقول: الدفاع عن الحقوق الأساسية لأي إنسان، حتى لو كان مستوطنا مهووسا ومتطرفاً وكان لتشبثه بأيديولوجيته العنصرية (إلى جانب أشياء أخرى) دور رئيس في تحويل حياة الفلسطينيين الى جحيم في وطنهم.

 

تذكرت هذه القصة بينما كنت أقرأ مقالا لجسيكا مونتيل، المديرة التنفيذية لمنظمة بتسيلم، حول خلق صدى محلي لما تسميه عالمية حقوق الإنسان، وتفترض فيه أن هذه الحقوق هي عالمية ويجب أن تظل فوق أي صراعات سياسية او اختلافات ثقافية، وهي مسألة لا جدال حولها (فيما عدا حركات متطرفة جدا)، اذ يتفق أغلبنا حول حق الإنسان الأساس في الحياة الكريمة، تماما كما نتفق على حق القاتل في نيل محاكمة عادلة.. بمعنى أن مقولة مونتيل تنتمي إلى ذلك النوع من المقولات التي "لا تقول شيئا"، بغية التهرب من إبداء رأي أو موقف أخلاقي حاسم، والاكتفاء بتسويق حقوق الإنسان كسلعة "مستقلة" او قائمة بذاتها وفوق سياسية! وفي الواقع، فإن ما تفعله مونتيل لا يعدو كونه فصلا اعتباطيا، وهميا، لحقوق الإنسان عن علاقات القوة التي تعيد انتاج المس بحقوق الإنسان. وفي حالة الفلسطينيين فإن التمترس وراء خطاب العالمية لإقناع الإسرائيلي بضرورة احترام حق الفلسطيني في حياة كريمة هو هروب من ادانه "الاحتلال" الذي يشكل الحاضنة الأم لكل انتهاكات حقوق الإنسان التي يعيشونها على جلدتهم في واقع حياتهم اليومية، وسوف يبقى هذا الوضع ما دام الاحتلال باقياً.

مما لا شك فيه أن توثيق الانتهاكات والممارسات القمعية التي يعاني منها الفلسطينيون هو أمر في غاية الأهمية، غير أن فصل هذا التوثيق عن النضال ضد الاحتلال، يحول منظمات حقوق الإنسان (دون قصد منها) إلى أداة لتطهير الدولة التي تدير أجهزة الاحتلال، ولتبديد وامتصاص طاقة النشطاء السياسيين الذين فقدوا شيئا فشيئا أملهم في قدرة الأحزاب اليسارية على أحداث التغيير المنشود، وتحولوا إلى موظفين مخلصين في صفوف المنظمات الحقوقية الإسرائيلية.

إلى ذلك، فإن الإدعاء بشأن عالمية حقوق الإنسان، يشنف آذان المستوطن اليميني، المحتل والمستعمر، ليس أقل من آذان اليسار، ولعل الفارق الوحيد هنا يتمثل في أن هذا الأخير (اليسار الإسرائيلي) يحاول التستر على ميوله الأيديولوجية، في حين يتباهى الأول بآرائه ومواقفه ويرفض اعتبار حقوق الإنسان ملكا حصريا لليسار.

من هنا لا غرابة إذن في أن النائبة في الكنيست من طرف حزب "البيت اليهودي" أوريت ستروك، وهي من زعماء المستوطنين اليهود في الخليل، بادرت في العام 2006 إلى إقامة منظمة لحقوق الإنسان في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) هدفها الدفاع عن حقوق المستوطنين الإسرائيليين في المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد أصدرت هذه المنظمة في تشرين الأول 2009 تقريراً تحت عنوان "من يحمي أشجار زيتوني: تعديات العرب ونشطاء اليسار على المزارعين اليهود في يهودا والسامرة ومعالجة أجهزة تطبيق القانون لهذه الظاهرة". ونظراً لـ "أهمية" هذا التقرير، الذي وثق (في 16 صفحة) ما وصفه بالتعديات على المزارعين اليهود وممتلكاتهم وإتلاف مزروعاتهم، فقد أفرد له حيز محترم على صفحة منشورات الموقع الالكتروني للكنيست الإسرائيلي. فتحت غطاء عالمية حقوق الإنسان والحياد السياسي يغدو كل شيء ممكنا، بما في ذلك حماية الحقوق الإنسانية للمستعمر المستوطن في أراضي الفلسطينيين، تماما مثلما تكفل هذه العالمية حق الفلسطيني في العيش في خيمة ألقيت إليه بعدما استولى ذلك المستوطن على أرضه وبيته. وهكذا يتم إنتاج مشهد سريالي بامتياز: إذ بينما يقوم موظف حقوق الإنسان المرسل من قبل منظمة مثل بتسيلم بتوثيق انتهاكات أوريت ستروك وتعدياتها على حقوق الفلسطينيين في الخليل، تقوم ستروك بإنشاء منظمة هدفها الدفاع عن حقها في العيش بكرامة في الخليل، التي تستوطن فيها بغطاء قوة الاحتلال.

إن الدينامية القائمة بين الحياد السياسي من جهة، وبين خطاب"العالمية" من جهة أخرى، تؤدي بالضرورة، في سياق الاحتلال الكولونيالي الاستيطاني، ليس فقط إلى وضع السالب والمسلوب، المحتل والخاضع للاحتلال، في نفس الدائرة الإنسانية الأخلاقية، وإنما تؤدي أيضا إلى استملاك المستعمر المحتل لخطاب "العالمية" وإلى تجنده لمهمة الدفاع عن حقوق الإنسان.

وهذا التجند اللامعقول في الظاهر، يمثل وبشكل ساخر ذروة نجاح "منظمات حقوق الإنسان" التي تصر على الفصل بين السياسي وبين حقوق الإنسان.

في أواسط شهر آذار من هذا العام (2013) نشرت صحيفة "هآرتس" إعلانا ملفتا للانتباه، يعكس نجاح "خطاب العالمية". ويتحدث هذا الإعلان عن إقامة منظمة يمينية جديدة مهمتها توثيق انتهاكات حقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية، وذكر أن هذه المنظمة، التي سميت "حقوق إنسان أزرق - أبيض"، ستعمل برعاية "معهد الاستراتيجيا الصهيونية"، وأن المبادر إلى إقامتها هو يوعاز هندل، الذي عمل سابقا رئيسا لجهاز الدعاية في مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وبحسب ما ورد في نفس الإعلان، فإن المنظمة الحقوقية اليمينية ستعتمد في عملها بشكل رئيس على متطوعين مهمتهم "مراقبة انتهاك الحقوق الإنسانية للفلسطينيين في حواجز التفتيش في الضفة الغربية، وجمع شهادات حول جرائم حرب يرتكبها جنود اسرائيليون في المناطق، وتقديم مساعدات طبية للفلسطينيين". وعلى ما يبدو فإن الفرضية الأساسية التي انطلق منها المبادرون إلى إقامة هذه المنظمة، لا ترى بأن هناك علاقة بين الأيديولوجيا السياسية وبين المحافظة على حقوق الإنسان، أما الهدف الذي يسعون إليه فهو هدف مزدوج: تخليص "حقوق" الإنسان من وصمة العار اليسارية التي لحقت بها زورا وبهتانا (عالمية بإمتياز)، والسماح من جهة أخرى بوجود نظام احتلال نقي، غايته الحقيقية نهب الفلسطيني دون انتهاك حقوقه الإنسانية، وبكلمات أخرى التخلص منه دون إراقة دماء ودون ترك آثار تعذيب.

في ضوء ما تقدم، يمكن القول إجمالا بأن الإدعاء بشأن "عالمية" حقوق الإنسان يعتبر (على الرغم من صحته) طرحا ساذجا تماما، وذلك من نوع السذاجة غير المحتملة وغير المعقولة في واقع الاحتلال الحالي، والتي تفضي في سياق موضوع النقاش هنا إلى تكريس علاقات القوة التي تنتج سائر المظالم والانتهاكات لحقوق الإنسان بدلا من تقويض هذه العلاقات.