المدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية: أغلبية الإسرائيليين ليست قلقة من الدولة ثنائية القومية

على هامش المشهد

 

 

 

الاستفتاء الشعبي العام: مخرج من مأزق أم طريق بلا مخرج

 

 

بقلم: دانا بلاندر (*)

 

 

 

أثيرت في تاريخ دولة إسرائيل مرارا وتكرارا فكرة إجراء استفتاء شعبي حول قرارات مصيرية، من قبيل إعادة مناطق (محتلة)، غير أن مثل هذا الاستفتاء لم يجر حتى الآن. وتتجسد في فكرة الاستفتاء ظاهريا، الأسطورة الديمقراطية بشأن السيادة المباشرة للشعب، بيد أن الاستفتاء يشكل أيضا أداة يمكن أن تتحول إلى سيف ذي حدين. ففي الدول ذات التقاليد الديمقراطية الراسخة، التي لا تكون فيها القضايا المطروحة للحسم قضايا مصيرية أو وجودية، والتي يثق مواطنوها بالمؤسسات المنتخبة، يمكن للاستفتاء الشعبي أن يشكل أداة لتدعيم شرعية السلطة، وقناة إضافية للمشاركة الجماهيرية. في المقابل، فإن فكرة تنظيم استفتاء شعبي حول قضايا تتعلق بالسياسة الخارجية والأمن في إسرائيل التي لا تمتلك ثقافة سياسية ديمقراطية، والتي يحتل الكنيست (البرلمان) فيها مكانة متدنية في أسفل سلم ثقة المواطنين، فضلا عن انقسام وتشرذم مجتمعها وكثرة أقلياتها، يمكن أن تؤدي إلى تقويض الديمقراطية وتعميق الشروخ والانقسام في صفوف المجتمع الإسرائيلي.

 

من هنا فإن مشروع القانون، الذي يقترح في ظاهره تغييراً فنيا يسهل تنفيذ الاستفتاء العام، يمكن أن تترتب عليه انعكاسات بعيدة الأثر على المؤسسة السياسية، وعلى المجتمع في إسرائيل.

 

 

 

الوضع القانوني القائم

 

من الناحية القانونية فقد حدد قانون أنظمة الحكم والقضاء من العام 1999، للمرة الأولى، الظروف التي تقتضي استخدام أسلوب الاستفتاء الشعبي. ووفقا للقانون فإن أي قرار حكومي ينص على إلغاء تطبيق قانون وقضاء وإدارة دولة إسرائيل في منطقة إسرائيلية، يحتاج إلى مصادقة من الكنيست (البرلمان) بأغلبية الأعضاء، ومصادقة أغلبية عادية في استفتاء شعبي.

 

 

 

مشروع القانون المقترح

 

يسعى مشروع القانون، الذي قدمه أعضاء كنيست من شتى الكتل البرلمانية، إلى تثبيت نص يقضي بعدم وجود حاجة أو ضرورة لسن قانون أساس: الاستفتاء الشعبي، والاكتفاء بمنح لجنة الانتخابات المركزية صلاحية وضع أنظمة بشأن طريقة إجراء الاستفتاء. وبعبارة أخرى فإن مشروع القانون يسعى إلى تبسيط عملية إجراء الاستفتاء الشعبي، وتحويله من مسألة دستورية إلى مسألة فنية منظمة بواسطة لوائح وأنظمة صادرة عن هيئة تنفيذية (لجنة الانتخابات المركزية).

 

كما يسعى مشروع القانون إلى نقل صلاحية تحديد مكانة الاستفتاء الشعبي وطرق تنظيمه من الكنيست إلى هيئة إدارية/ تنفيذية تمثل تركيبتها موازين القوى السياسية، وتتألف عضويتها من ممثلي الأحزاب فيما يترأس هذه الهيئة (أي لجنة الانتخابات المركزية) قاض على رأس عمله في المحكمة الإسرائيلية العليا.

 

 

مشروع القانون يهدد

استقرار الديمقراطية

 

بدون الخوض في مسألة إذا ما كان الاستفتاء الشعبي يعزز أو يقوض الديمقراطية الإسرائيلية، لا بد من إدراك أن الاستفتاء ليس فقط وسيلة لاتخاذ قرارات، وإنما هو أيضا إجراء له دلالات وانعكاسات بعيدة الأثر، ذلك لأنه يعيد تحديد العلاقات بين سلطات الحكم: فقرارات الحكومة وقرارات الكنيست في موضوع معين تخضع لمصادقة الجمهور. ويشكل ذلك من ناحية عملية تعبيرا عن إدخال عنصر من الديمقراطية المباشرة إلى نظام برلماني تمثيلي. إن تغييرا من هذا القبيل ينبغي له أن يتم بعد إجراء نقاش عام مستفيض لهذه المسألة، وأن يكرس- التغيير- في قانون أساس، وليس بصورة اعتباطية، ووسط تهرب الكنيست من واجباته ومهامه كسلطة تشريعية.

 

إلى ذلك فإن مشروع القانون يضع أنظمة وترتيبات إجراء الاستفتاء الشعبي في أسفل الترتيب أو السلم القانوني، وذلك من حيث أن الاستفتاء لن ينظم أو يكرس في قانون أساس، ولا حتى في تشريع اعتيادي أو ثانوي يسنه الكنيست. ويماثل هذا الأمر قراراً يتخذه الكنيست بمنح لجنة الانتخابات المركزية صلاحية تحديد ماهية طريقة الانتخابات في إسرائيل، عوضا عن تثبيت ذلك في قانون أساس الكنيست. وبذلك فإن مشروع القانون الحالي ينضم إلى الاتجاه الخاطئ الذي تتخذ في نطاقه قرارات حاسمة ومصيرية بناء على اعتبارات ومصالح قصيرة الأجل.

 

من الممكن أن يخضع الاستفتاء الشعبي للتلاعب من جانب جهات أو عناصر ذات مصلحة، ولذلك فإن تحديد مكانته ليس مجرد مسألة فنية فقط. فهناك مسائل مرتبطة بالاستفتاء (من الذين سيشاركون فيه، صياغة السؤال، التمويل والدعاية) حتى وإن كانت تخضع لإشراف جهة محايدة تعمل بمهنية ونزاهة، سيكون لها انعكاسات على نتائج الاستفتاء، فما بالكم إذا كانت الجهة المشرفة هي جسم سياسي بامتياز، مثل لجنة الانتخابات المركزية (؟!). وعلى سبيل المثال، فقد تعالت في إسرائيل، في غير مرة، أصوات تدعو إلى إقصاء المواطنين العرب في إسرائيل عن المشاركة في اتخاذ القرارات الحاسمة المتعلقة بقضايا الخارجية والأمن. وينص البند الثالث في قانون أنظمة الحكم والقضاء من العام 1999، على وجوب إقرار الاستفتاء الشعبي بأغلبية الأصوات الصحيحة للمشاركين في الاستفتاء، ولكنه (البند المذكور) لا ينص على أن المشاركة في الاستفتاء تقتصر على كل من يحق له الاقتراع في الانتخابات للكنيست. فماذا لو قررت لجنة الانتخابات المركزية بأنه لا يحق للمواطنين العرب في إسرائيل المشاركة في الاستفتاء الشعبي؟! هذا التخوف ليس تخوفا نظريا، ذلك لأن لجنة الانتخابات المركزية تعتبر إطارا ضيقا مقارنة مع الكنيست، وبالتالي من السهل أكثر ترجيح الحسم في هذا الاتجاه أو ذاك. إن قرارا من هذا القبيل يمكن أن يوجه ضربة قاصمة للديمقراطية الإسرائيلية.

 

 

 

لجنة الانتخابات

المركزية

 

أكدت المحكمة الإسرائيلية العليا في سلسلة من القرارات الصادرة عنها بأنه لا يصح منح لجنة الانتخابات المركزية صلاحيات واسعة، نظرا لأن الحديث يدور على هيئة ذات تركيبة سياسية (ما عدا رئيسها)، ولأن اعتباراتها في اتخاذ القرارات تتأثر بأيديولوجيا سياسية. فهل يعتقد أعضاء الكنيست حقا بأن لجنة الانتخابات المركزية هي التي ستحسم في قضية مهمة مثل الاستفتاء الشعبي في إسرائيل؟!

 

كما أشرنا، فإن مشروع القانون المقترح يسعى إلى منح لجنة الانتخابات المركزية صلاحيات تتجاوز حدود مهمتها، وبذلك فإنه يسئ استخدام هذه الهيئة. فالحسم في مسائل تتعلق بشكل وطريقة إجراء الاستفتاء، من شأنه أن يزج لجنة الانتخابات المركزية في لجة الجدل العام، الأمر الذي يمكن له أن يمس بشرعية هذه الهيئة في القيام بمهامها الأخرى، الموكلة إليها بموجب القانون.

 

 

 

تقويض مكانة الكنيست

 

إذا ما صادق الكنيست على مشروع القانون، فإنه يعلن بذلك جهارا نهارا، ليس فقط أن ثلثي الجمهور لا يثقون به (أي بالكنيست)، بل ويعلن أيضا أن أعضاء الكنيست لا يثقون بأنفسهم، وأنهم غير مستعدين لتحمل مسؤولياتهم والقيام بمهمتهم كمنتدبين من قبل الجمهور في المجلس التشريعي والتأسيسي.

 

إن السهولة غير المحتملة التي يتخلى بها أعضاء الكنيست عن وظيفتهم كمشرعين (وكذلك عن مهامهم كمشرفين ومراقبين)، وحقيقة أنهم يتحمسون لنقل مسؤوليتهم إلى هيئات أخرى، كاللجان المعينة والمحاكم والسلطة التنفيذية، إنما تضعف أكثر مكانة الكنيست في نظر نفسه أولا، وفي نظر السلطات الأخرى ثانيا، وأخيرا في نظر الجمهور. إن وجود كنيست ضعيف يشكل خطرا على استقرار الديمقراطية.

 

في الشروحات المرفقة بمشروع القانون ذكر أن القانون المقترح يعفي من الحاجة إلى سن قانون أساس.. ويمكن القول، إذا ما شئنا التبسيط، إن مشروع القانون سيعفي الكنيست من مهمته كهيئة تأسيسية.

 

 

 

الاستفتاء: دواء

أسوأ من الداء

 

إن الاستفتاء الشعبي هو أداة سياسية ينبغي تفحص مدى تلاؤمها مع المجتمع الإسرائيلي والثقافة الإسرائيلية، على غرار أدوات سياسية أخرى. صحيح أنه يمكن للاستفتاء الشعبي في ديمقراطية مستقرة، تسود فيها ثقة بالمؤسسات وثقافة سياسية ديمقراطية راسخة، ودولة لا تقف أمام قرارات مصيرية، أن تشكل أداة لتدعيم شرعية القرارات المتخذة في المؤسسات المنتخبة، مما يساهم بالتالي في توطيد استقرار الديمقراطية. لكن في إسرائيل، ثمة تخوف من أن الاستفتاء الشعبي سوف يقوض الديمقراطية ويضعف مكانة المؤسسات المنتخبة، ويفاقم الانقسامات في صفوف المجتمع. فالاستفتاء الشعبي يمكن أن يخلق أزمة شرعية خطرة، ذلك لأن الاستفتاء يمثل، بموجب القانون القائم، أداة فيتو على قرارات الحكومة والكنيست، بمعنى أنه يمكن للجمهور، بعد اتخاذ القرار في الحكومة والكنيست (بأغلبية أعضائه)، أن يقلب هذا القرار رأسا على عقب. ومن هنا فإن من شأن فرض فيتو على قرارات الحكومة والكنيست، أن يزعزع المؤسسة السياسية، وأن يتسبب بأزمة دستورية، ذلك لأن السيد يعمل في هذه الحالة ضد نفسه. فأي نفاذ يوجد لقرار الهيئات المنتخبة إذا كان في استطاعة جمهور الناخبين أن يقلب رأسا على عقب القرار المتخذ من قبلها؟! وهل سيوافق المواطنون، فيما بعد، على تجديد الثقة بالهيئات المنتخبة التي رفضوا قرارها؟!

 

فضلا عن ذلك، هناك خطر يتهدد الديمقراطية الإسرائيلية حتى في ظل سيناريو يعطي فيه الجمهور موافقة نهائية على قرار الهيئات المنتخبة. ففي مثل هذه الحالة يتحول الاستفتاء الشعبي إلى أداة في أيدي الحكومة، توفر موافقة عامة صورية على قراراتها، مما يضع حدا لإمكانية وجود معارضة مشروعة، ومن هنا فإن إقصاء المعارضين إلى الهامش غير الشرعي يمكن أن يشجع أعمال عنف من جانب عناصر متطرفة.

 

إلى ذلك فإن من شأن الاستفتاء الشعبي أن يضعف مكانة الهيئات المنتخبة. فالتوجه إلى الاستفتاء في إسرائيل يشكل وسيلة تعويض إزاء ضعف مراكز القوة السلطوية الأخرى، ويمثل خطوة إضافية على طريق إضعاف المؤسسة البرلمانية، إذا يزداد الميل نحو إحالة قضايا للحسم من قبل هيئات أخرى (وفي هذه الحالة إلى الجمهور) كلما واجه الكنيست صعوبة في التوصل إلى قرارات حاسمة. وفي ضوء الثقافة السياسية التي تبلورت في إسرائيل خلال العقود الأخيرة، يبدو أن التوجه إلى الجمهور من أجل الحسم، يمكن أن يتحول إلى عادة، إذ يمكن، بعد إجراء أول استفتاء، أن يبدأ مسلسل من الاستفتاءات الشعبية، على غرار مسلسل الالتماسات إلى المحكمة الإسرائيلية العليا. فالكنيست يحاول التشبث بأية جهة أو هيئة تستطيع اتخاذ القرار نيابة عنه، ولذلك من المحتمل أن يعبر عجز الكنيست عن نفسه في اللجوء الزائد وغير الحذر إلى الاستفتاء الشعبي، الأمر الذي يمكن له أن يقوض أسس ودعائم الديمقراطية التمثيلية.

 

فضلا عن ذلك، فإن الاستفتاء الشعبي يمكن أن يفاقم الانقسام والشروخ في صفوف المجتمع الإسرائيلي، وأن يمس بمكانة الأقليات في إسرائيل. فالاستفتاء في حد ذاته لا يشكل وسيلة ملائمة لمجتمعات تعاني من شروخ مثل إسرائيل، ذلك لأنه يضع حدا لسياسة التوافق المستندة على الحلول الوسط والمفاوضات والإجماع، بينما يكون الحسم في الاستفتاء الشعبي، أحادي البعد، قاطعا وغير قابل للاعتراض.

 

من هنا فإن الاستفتاء الشعبي يشكل خطرا على الديمقراطية، فهو في نهاية المطاف ينتقص منها، ويؤدي إلى إقصاء الأقليات عوضا عن تضمينها ودمجها، إذ إنه لا يبقي للأقلية قنوات شرعية للتعبير عن معارضتها لحسم الأكثرية. هذا الخطر يغدو ملموسا أكثر في إسرائيل، خاصة في ضوء ما يتردد كثيرا من إدعاءات تقول إن أصوات الأقلية العربية لا تعتبر شرعية للحسم في مسائل أساس، مثل الانسحابات من مناطق (محتلة في العام 1967)، واتفاقيات السلام، وشؤون "يهودية" كتجنيد طلاب المدارس الدينية للخدمة العسكرية على سبيل المثال. ويشار في هذا السياق إلى أن استطلاعات للرأي العام أجريت مؤخرا في إسرائيل أظهرت أن نصف الجمهور اليهودي يؤيد حرمان المواطنين العرب من حق التصويت في استفتاء شعبي، وأن الحسم في مسائل الخارجية والأمن يجب أن يتم فقط بأصوات أغلبية يهودية.

 

خلاصة القول، في ضوء غياب ثقافة سياسية ديمقراطية راسخة، ونظرا لوجود وجهات نظر ومفاهيم مناوئة للديمقراطية، فإن فكرة الاستفتاء الشعبي لن تساهم في تدعيم وتعزيز الديمقراطية الإسرائيلية، بل على العكس، يمكن أن تبعد إسرائيل عن أسرة الدول الديمقراطية.

 

_______________________

 

(*) باحثة في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية- القدس". ترجمة خاصة.