لقاء آخر في لندن: "الحوار الفلسطيني - الاسرائيلي يستأنف بعد الانتخابات المقبلة"

على هامش المشهد

 

 

 

مستوطنة "عمونه" نموذج حيّ على أن الحكومة والمحكمة والمستوطنين - يد واحدة

 

 

كتب سليم سلامة:

 

 

 

 

في خطوة تكشف آخر ما تبقى "مستورا" في السياسة الإسرائيلية، الرسمية الحقيقية، فيما يتعلق بالاستيطان في الأراضي الفلسطينية، من جهة، وتشكل تحايلا على قرار قضائي صادر عن المحكمة العليا الإسرائيلية، بل خرقا واضحا ودوسا فظا له، من جهة أخرى، أصدر المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية يهودا فاينشتاين، يوم 18 تموز الجاري، "فتوى" قضائية تجيز للحكومة تطبيقا انتقائيا، مجتزأ ومنقوصا، لقرار "محكمة العدل العليا" الإسرائيلية (المنقوص، أصلا!) الصادر يوم 12 تموز وتضمن أمرا للحكومة بإخلاء "جميع الأبنية في مستوطنة عمونه التي لا يدعي المستوطنون بأنهم استملكوا الأرض التي أقيمت عليها"، في موعد أقصاه 24 تموز الحالي (أي يوم غد الأربعاء).

 

وكان قرار المحكمة العليا هذا منح الحكومة، عمليا، مهلة هي الخامسة على التوالي لإخلاء الأبنية في هذه المستوطنة، وهو ما كان مقررا، من قبل، أن يتم حتى موعد أقصاه 15 تموز الحالي ـ أي، مهلة إضافية قوامها تسعة أيام، وذلك استجابة لطلب المستوطنين الذين تذرعوا أمام المحكمة بأنه يصادف في ذلك اليوم "صوم التاسع من آب العبري ("تاسوعاء" - ذكرى خراب الهيكلين الأول والثاني!)، شهر رمضان والعطلة الصيفية"!

 

وتضمن قرار المحكمة الأخير قبولا بموقف الدولة (الحكومة) بشأن المباني القائمة على "أراض استملكها المستوطنون" (!) في انتظار ما ستسفر عنه المداولات القضائية التي تجرى بشأنها في محكمة الصلح في القدس، والتي ستقرر "ما إذا كان في الإمكان فض الشراكة وتحرير الأراضي لأصحابها الجدد"! والمقصود هنا خمس قسائم، تبلغ مساحة كل منها حتى نصف دونم، يدعي المستوطنون بأنهم اشتروها، خلال العام الماضي، بواسطة شركة أطلق عليها اسم "الوطن"، وهي ذراع تنفيذية أقامتها حركة "إمونه" الاستيطانية بغية "منع هدم المستوطنة"!

 

ويشكل قرار المحكمة العليا هذا، عمليا، رفضا للالتماس المقدم من الفلسطينيين أصحاب الأراضي بإخلاء البؤرة الاستيطانية بالكامل وإخلاء جميع الأبنية الاستيطانية التي أقيمت فيها، واقتصار الإخلاء فقط على المباني "التي لا يدعي المستوطنون بأنهم استملكوا الأراضي التي أقيمت عليها"!!

 

 

بؤرة عمونه الاستيطانية ...

 

تأجيل إثر تأجيل!

 

 

 

هذه هي المرة الخامسة التي تستجيب فيها المحكمة العليا الإسرائيلية لطلبات الحكومة (والمستوطنين) تأجيل تنفيذ القرار بإخلاء بؤرة عمونه الاستيطانية المقامة على أراضي قرية سلواد الفلسطينية، وذلك في إطار النظر في الالتماس الذي قدمه إليها أصحاب الأراضي الفلسطينيون منذ العام 2008، بواسطة منظمة "يش دين"، وكل مرة بذريعة جديدة ومختلفة.

 

وبؤرة عمونه الاستيطانية هذه أقيمت في العام 1995، على تلة تطل على مستوطنة "عوفرا"، على أراض تابعة لمواطنين فلسطينيين من قرية سلواد. وقد قام المستوطنون خلال السنوات بنصب "كرافانات" وإقامة "أبنية خفيفة" أخرى صدرت بحقها جميعا أوامر بالهدم في الأعوام 1997، 2003 و2004. وفي مطلع شباط من العام 2006، قامت الدولة بهدم تسعة مبان في هذه البؤرة، في أعقاب التماس إلى المحكمة العليا قدمته حركة "السلام الآن"، غير أن البؤرة الاستيطانية بقيت قائمة، بل تم توسيعها، حتى وصل عدد المباني السكنية فيها إلى نحو 50 مبنى، إضافة إلى "مدرسة دينية" ومبان "عامة" أخرى! وفي العام 2008، تقدم عشرة فلسطينيين من أصحاب الأراضي بالتماس إلى المحكمة العليا، بواسطة منظمة "يش دين". وكان رد الدولة (الحكومة) الأولي على هذا الالتماس إقرارا بأن "البناء في هذا الموقع غير قانوني" وبأن "البؤرة سيتم هدمها، ولكن طبقا لسلم أولويات"!

 

وخلال السنوات منذ 2008، حددت المحكمة مواعيد مختلفة لتنفيذ عملية الإخلاء، لكنها عادت في كل مرة واستجابت لطلب الحكومة والمستوطنين بتأجيل التنفيذ، بذرائع مختلفة. وفي شهر كانون الأول 2012، منحت المحكمة الحكومة مهلة أخرى حتى يوم 30 نيسان الماضي للإخلاء، بحجة أن "المستوطنين يحاولون التوصل إلى اتفاق مع أصحاب الأراضي"! لكن المصادر السياسية والقضائية العليمة في إسرائيل رجحت أن يكون تبكير موعد الانتخابات البرلمانية (التي جرت في كانون الأول 2013) هو "السبب الحقيقي وراء طلب التأجيل". وفي قرارها ذاك، أعلنت المحكمة أنه "في حال عدم التوصل إلى تفاهم بين الحكومة والمستوطنين بشأن عملية الإخلاء، فستصدر المحكمة أمرا يلزم الدولة بذلك".

 

وفي قرارها قبل الأخير في القضية، الذي أصدرته يوم 29 نيسان الفائت، حدّدت المحكمة يوم 15 تموز الجاري "موعدا نهائيا" لإخلاء هذه البؤرة الاستيطانية "غير المرخصة"! وتعقيبا على ذلك القرار، قال المحامي شلومي زخاريا، من الطاقم القانوني في منظمة "يش دين": "نحن نأمل بأن تحترم الدولة قرار المحكمة بلا تأجيل وبدون أية مبررات، كما حصل في الماضي. لقد توفي اثنان من الملتمسين خلال السنوات التي كان فيها الالتماس عالقا، بينما ينتظر الملتمسون الآخرون العودة إلى أراضيهم"، مضيفا أنه "من البيّن أن دولة إسرائيل تبحث عن الأعذار دائما للمماطلة ولتجنب إعادة الأراضي إلى أصحابها الفلسطينيين"!

 

 

فاينشتاين يستجيب لطلب يعلون

 

استجابة لطلب المستوطنين!

 

 

 

ويأتي قرار المستشار القانوني للحكومة، فاينشتاين، الأخير من يوم 18 الجاري، تأكيدا لما ذهب إليه محامي "يش دين" أعلاه، بما يشكل انتصارا جديدا للمستوطنين، على الحكومة والمحكمة معا!

 

فقد استجاب فاينشتاين لطلب وزير الدفاع، موشيه يعلون، وأصدر أمرا بعدم إخلاء المباني الـ 30 التي أمرت المحكمة بإخلائها في عمونه، بعد أن أقرت بأنها "أقيمت على أراض فلسطينية من دون تراخيص"(!)، بل إخلاء "قسيمة واحدة فقط ثبت ادعاء الملكية الفلسطينية عليها" حتى يوم غد الأربعاء (الموعد الذي حددته المحكمة)!

 

وكان مداولات قد جرت خلال الأسبوع قبل الأخير في مكتب المستشار القانوني للحكومة "لتفسير قرار المحكمة": هل يتطرق أمر الإخلاء لقسيمة واحدة فقط (رقم 110)، هي المقام عليها مبنى سكني واحد والتي التمس صاحبها إلى المحكمة العليا، أم يشمل المباني الـ 30 جميعها المقامة على قسائم بملكية فلسطينية، لكن ليست ملكية الملتمسين أنفسهم؟

 

ورشح عن تلك المداولات أن المشاركين فيها انقسموا إلى فريقين، مؤيد للموقف الأول ومؤيد للموقف الثاني. وفي ختام المداولات، رجحت كفة الفريق الأول الذي قال بأن قرار المحكمة يسري على قسيمة واحدة فقط، معللا ذلك بأنه "بما أن الدول بدأت تدعي مؤخرا بأنه ينبغي هدم المباني المقامة على أراض بملكية الملتمسين فقط، وبما أن قضاة المحكمة لم يتطرقوا إلى هذا الادعاء بشكل صريح ومباشر، فثمة مكان للافتراض بأنهم قبلوا بهذا الادعاء" (!!). وعليه، فإنه يتعين إخلاء الأرض التي تعود ملكيتها للملتمسين أنفسهم، فقط!! وهو الموقف الذي تبناه، في نهاية المطاف، المستشار القانوني للحكومة فأمر بالإبقاء على جميع الأبنية المقامة على أراض فلسطينية خاصة (لكن ليست بملكية الملتمسين!)، باستثناء مبنى واحد والشارع الموصل إلى البؤرة الاستيطانية!

 

 

تقرير مراقب الدولة

 

و... الخوف من المستوطنين!

 

 

 

ومما يثير العجب والاستغراب أن المستشار القانوني للحكومة، فاينشتاين، ارتأى أن يوجه نقدا إلى سلطات القانون في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) على "عدم تطبيق القانون" هناك، وذلك في اليوم نفسه الذي أصدر فيه قرار الاستجابة لطلب وزير الدفاع بشأن الإخلاء في عمونه، كما ذكرنا أعلاه.

 

فقد أشار فاينشتاين في رسالته إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع إلى "سلم الأولويات لدى السلطات المختصة في كل ما يتصل بالتطبيق الجنائي والإداري على مخالفات التنظيم والبناء في قطاع يهودا والسامرة"، منبها إلى "ضرورة تأكيد سلم الأولويات الداخلية بشأن البناء على أراض خصوصية والعمل الجدي لإزالة المباني المقامة على أراض خصوصية. وذلك بأن الوضع الراهن، كما هو مبين في التقرير، يشكل مساً بسلطة القانون، مساً بحقوق الإنسان وبالملكية الفردية، وهو ما لا يمكن القبول به"!!

 

لكن الحقيقة أن هذا النقد الذي وجهه فاينشتاين لم يأت صدفة ولم يكن وليد حرص حقيقي من طرفه على النصوص القانونية وتطبيقاتها الفعلية على أرض الواقع، بل جاء "اضطرارا" - كما هو واضح، تماما ـ غداة الانتقادات الحادة جدا التي تضمنها تقرير مراقب الدولة، القاضي المتقاعد يوسف شابيرا، في هذا الشأن. وهو "التقرير" الذي قصده فاينشتاين بقوله "كما هو مبين في التقرير"!

 

وكان مراقب الدولة قد قدم تقريره هذا يوم الأربعاء 17/7 (قبل رسالة فاينشتاين بيوم واحد!) وخصصه، بالكامل، لمجالات تخص "الأجهزة الأمنية" وعملها في إسرائيل. ومن بين تلك المجالات، بالطبع، المشروع الاستيطاني وما يتصل به.

 

وفي هذا الباب، وجد مراقب الدولة أن حالة من الفوضى العارمة تسود في كل ما يتصل بتطبيق القانون في المستوطنات وعليها، وعلى المستوطنين فيها كذلك. ومن ذلك، مثلا، أن المستوطنين في 83 مستوطنة لا يدفعون للدولة ما يفرضه عليهم القانون من "رسوم استئجار" عن الأراضي التي استولوا عليها و/ أو "حصلوا عليها من الدولة"!! إذ يصل المبلغ الإجمالي لهذه الرسوم المستحقة وغير المدفوعة للدولة إلى نحو 50 مليون شيكل في السنة، أي ما قيمته مئات ملايين الشواكل (وربما أكثر) خلال بضع سنوات – هي خسارة تتكبدها ميزانية الدولة.

 

أما السبب الذي يقف وراء حالة التسيب والفوضى هذه ـ كما يسجله المراقب في تقريره ـ فهو "تقصير وإهمال من جانب الإدارة المدنية ووزارة المالية" يعودان إلى "خوف المراقبين الميدانيين ورجال الشرطة من ردات فعل المستوطنين"، حسبما يؤكد المراقب من غير مواربة!!

 

ويبين تقرير المراقب أن ثمة في منطقة الضفة الغربية 4ر1 مليون دونم هي "أراضي دولة" يتولى إدارتها شخص واحد يدعى "يوسي سيغل". ويكشف التقرير عن أن "هذا الواقع معروف للأجهزة الأمنية المختصة ولكبار مسؤوليها". وفي العام 2010، حذر المستشار القانوني لجهاز الأمن، المحامي آحاز بن آري، من أن "عدم جباية رسوم الاستئجار في القطاع القروي (الاستيطاني ـ س. س.) في يهودا والسامرة هو نهج غير سليم... إنه يمنح المستوطنين، عمليا، أرضا من دون أي مقابل، ما يشكل تمييزا إيجابيا بحقهم قياسا بمستوطنين آخرين وبمواطنين في داخل إسرائيل، فضلا عن حرمان خزينة الدولة من مدخولات كبيرة"! وفي أعقاب ذلك، أجرى قسم الميزانيات في وزارة المالية مداولات أخرى حول هذا الموضوع، في نيسان 2011، تقرر في ختامها "إنشاء قسم خاص للجباية هناك". لكن هذا القسم لم يُقَم، حتى هذا اليوم!

 

وعلاوة على ذلك، ينبه مراقب الدولة في تقريره من تفشي واقع "كلٌّ يفعل ما يحلو له" ("حارة كل من إيدو إلو"!) في مجال التنظيم والبناء في المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، إذ "تتنصل الإدارة المدنية من مسؤوليتها وواجبها في تطبيق قوانين التنظيم والبناء"، نظرا إلى أن "المراقبين الميدانيين قد يواجهون مقاومة شديدة من طرف المستوطنين، إنْ هم طبقوا القانون في جانبه الجنائي"!!

 

ويؤكد التقرير، بصريح العبارة، أن "الشرطة ووحدة المراقبة الميدانية في الإدارة المدنية ترفضان العمل ضد مخالفي قوانين التنظيم والبناء في مستوطنات الضفة الغربية"! وتدعي الشرطة، لتبرير تقاعسها هذا، بأن مخالفات التنظيم والبناء ليست ضمن صلاحياتها، بل هي من صلاحية السلطات المحلية (البلديات والمجالس)، بينما تدعي سلطات الإدارة المدنية (المسؤولة عن السلطات المحلية) بأنها "لا تملك القوى البشرية الكافية لمعالجة هذا الأمر" وبأن "المراقبين العاملين ميدانيا يخشون ردة فعل المستوطنين"!!

 

 

عمونه ... من صنيع الحكومة!

 

 

 

قبل يوم من صدور قرار المحكمة العليا بشأن "الإخلاء" في عمونه (12/7)، بثت إذاعة الجيش الإسرائيلي ("غالي تساهل") "تحقيقا صحافيا" كشف عن "تورط حكومي عميق"، بدأ منذ أوساط التسعينيات من القرن الماضي واستمر سنوات طويلة جدا، في مساعي إقامة البؤرة الاستيطانية "عمونه" وتطويرها، من خلال "التجاهل التام لحقيقة أن جزءا من تلك الأراضي هو بملكية فلسطينية خاصة" وحقيقة أن "البؤرة غير قانونية"!!

 

وفي أعقاب بث هذا التحقيق (يوم 11/7)، شن المستوطنون وقادتهم، وبواسطة ممثليهم في الكنيست وفي الحكومة، حملة تحت عنوان "تأهيل، لا إخلاء"، أي: ترخيص البؤرة الاستيطانية وتأهيلها قانونيا، وليس العمل على إخلائها. وأعاد المستوطنون، في حملتهم هذه، التلويح بما ورد في "تقرير لجنة إدموند ليفي" الخاص بترخيص البؤر الاستيطانية "غير القانونية"، ولا سيما الاستنتاج الرئيس الذي خلصت إليه تلك اللجنة ومؤداه: "أينما كانت الحكومة شريكة في الإنشاء والبناء، لا يجوز تنفيذ أي هدم، إلا إذا لم تتوفر أية حلول أخرى بديلة. ولكن، من الممكن العثور على حلول بديلة دائما"!

 

وينسجم هذا الكلام، تماما، مع القرار الذي أصدره المستشار القانوني فاينشتاين بشأن "عدم الإخلاء"، بل يفسره ويكشف منطلقاته ودوافعه: فرئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) الذي عيّن، في عهد حكومته السابقة، "لجنة إدموند ليفي"، بضغط ومطالبة من المستوطنين، ممثليهم وقياداتهم، من أجل وضع تقرير "مواز ومضاد" لتقرير آخر عالج مسألة المستوطنات "غير القانونية" (هو "تقرير طاليا ساسون")، لا يبدو قادرا اليوم (حتى وإن أراد!!) على الإتيان إلا بما يرضي المستوطنين - وهم شركاؤه في الحكومة والائتلاف ـ ويلبي إرادتهم!