على هامش المشهد

*"هناك أساس للافتراض بأن الناخب المصري لا يؤيد تحويل بلده إلى ثيوقراطية إسلامية على غرار النموذج الإيراني"*

توقعت د. ميرا تسوريف، وهي باحثة كبيرة في "مركز موشيه دايان للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية" في جامعة تل أبيب، أن تتبنى حركة الإخوان المسلمين في مصر سياسة براغماتية على الصعيدين الداخلي والخارجي.

 

وجاء ذلك في سياق تحليل نشره المركز في نهاية الأسبوع الفائت تحت العنوان "الانتخابات في مصر- تقويم مرحلي".

وكتبت فيه: مع انتهاء الجولة الثانية للانتخابات البرلمانية المصرية ونشر نتائجها غير الرسمية، اتضح أن حزب "الحرية والعدالة" التابع للإخوان المسلمين فاز بـ 40% من أصوات الناخبين، وأن حزب "النور" السلفي فاز بـ 35%، بينما جاء ترتيب حزب "الوفد" الليبرالي ثالثاً بعدهما.

وتابعت: لقد قال الناخبون المصريون كلمتهم بصورة واضحة. وللمرة الأولى في حياتهم عاش المواطنون المصريون تجربة انتخابية حقيقية وذات مغزى، وجسدت طوابير المقترعين الطويلة هذه اللحظة التاريخية في تاريخ مصر. وخلافاً لما سبق فقد كانت الانتخابات في هذه المرة شفافة ومراقبة من قبل قضاة مستقلين، وبالتالي فقد أعطي الناخبون أخيراً القدرة على أن يصوغوا ويشكلوا بأيديهم الخريطة السياسية في بلدهم.

وأضافت: لقد وجد حماس المصريين للمشاركة الفعالة في الانتخابات تعبيراً له في المقام الأول في نسب الاقتراع المرتفعة. ففي جولة الانتخابات الأولى وصلت نسبة المشاركة إلى 62%، وفي الجولة الثانية إلى 67%. وهذه الانتخابات وضعت على المحك أيضاً مسألة الهوية المصرية الجماعية.

وظاهرياً كان من المفروض لهذه الانتخابات الحسم بين الهوية العلمانية والأجندة الليبرالية وبين الهوية الإسلامية والأجندة المحافظة. غير أن نتائج الجولة الأولى، التي انتهت بفوز متوقع لحزب الإخوان "الحرية والعدالة"، تعكس تماماً رغبة الناخب المصري في جعل الإسلام مكوناً ملموساً أكثر في هويته. مع ذلك يبدو أن هذا الناخب لا يؤيد تحويل مصر إلى ثيوقراطية إسلامية، على غرار النموذج الإيراني، وأنه لا يرى في الإسلام الحل أو الملاذ السياسي الأخير لمشاكله، بل يفضل توجهاً إسلاميا أكثر اعتدالاً للسياسة، وذلك نظراً لأن العلمانية تقترن في وعيه بالأنظمة الاستبدادية البغيضة التي أسقطت للتو. فضلاً عن ذلك فإن جمهور الناخبين المصري لا يرى تناقضاً بين هويته القومية وهويته الدينية. على العكس، فهاتان الهويتان تشكلان من وجهة نظره ضدين يكمل أحدهما الآخر، وهويتين تتعايشان بسلام في سوق الأفكار السياسية، والدليل أن حزب "الحرية والعدالة" يعلن عن نفسه أنه حزب ذو توجه مصري- وطني، تقف المصلحة القومية على رأس أولوياته. كذلك فإن الفرضية القائلة إن مؤيدي الحزب ينتمون للطبقات الدنيا القاطنة في الأحياء المدينية الفقيرة أو من القرويين القاطنين في قرى الدلتا، هي فرضية خاطئة في أساسها، إذ يمكن العثور بين المصوتين للحزب على أبناء النخب الذين تقبلوا منذ وقت عملية أسلمة المجتمع المصري، وكذلك أيضاً أبناء الطبقة المتوسطة، من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل، والذين استفادوا من نشاطات حركة الإخوان المسلمين عندما كانت حركة معارضة تعاني من ملاحقة وبطش النظام السابق. والآن أيضاً، وبعد أن نال شرعية سياسية، لم يكتف حزب "الحرية والعدالة" الإسلامي المصري بحوار وهمي مع جمهور الناخبين، أو بإطلاق شعارات شعبية جوفاء. لقد كان الإخوان المسلمون في طليعة الذين وقفوا وراء الإطاحة بالرئيس مبارك، وسط تطوير وتحديث برنامجهم من العام 2007 بروح الرسائل الثورية، وعلى سبيل المثال فقد شطب من البرنامج البند الذي يدعو لإقامة مجلس كبار العلماء كهيئة يتعين على الرئيس والسلطة التشريعية على حد سواء قبول توصياتها في شؤون الشريعة الدينية.

إضافة لذلك، وبغية تبديد الخشية من إقامة دولة شريعة دينية، وصف برنامج حزب "الحرية والعدالة" الدولة الإسلامية على أنها دولة مدنية حكامها مواطنون يتم انتخابهم وفقاً لإرادة الشعب، حتى وإن كانوا يؤكدون مراراً على أن مصدر التشريع الرئيس سيكون الشريعة الإسلامية. وأوضح قادة الحزب في البرنامج المعدل أنهم يؤيدون ديمقراطية تعكس المصلحة العامة، وتتماشى في الوقت ذاته مع مبدأ الشورى. والغاية هنا من إضفاء الطابع الإسلامي على الديمقراطية هي التأكيد على أن فكرة الديمقراطية ليست استيراداً غربياً (بدعة) وإنما هي مبدأ أصيل في الإسلام ويلائم منظومة عقائد وقناعات المسلمين. وفي مجال المساواة المدنية تبنى الإخوان المسلمون خطاب الحقوق المتساوية، وشطبوا من برنامجهم البند الذي نص على أن واجبات رئيس الدولة ورئيس الحكومة لا تتلاءم مع عقيدة غير المسلم ومنافية لطبيعة المرأة ووظيفتها كزوجة وأم.

ولم يكتف حزب "الحرية والعدالة" بتغيير وتعديل برنامجه ليكون ملائماً لروح العصر والواقع المتغير، بل شخص نقطة ضعف الأحزاب الليبرالية القديمة والجديدة من حيث أنها ترفع شعارات عديمة المغزى أو القيمة بالنسبة لجمهور الناخبين المصري. ففي الوقت الذي كانت فيه الأحزاب القديمة والجديدة تتفاوض مع المجلس العسكري الأعلى حول تأجيل موعد الانتخابات، كي تحصل على مهلة إضافية تمكنها من الاستعداد للانتخابات بشكل أفضل، كان حزب "الحرية والعدالة" منشغلاً في مهرجان حاشد أقامه في أحد أحياء القاهرة عرض خلاله الأهداف الرئيسة الثلاثة للحزب: إيجاد أماكن عمل للعاطلين، توفير تأمين صحي للجميع، وتحسين مستوى التعليم.

ورأت الباحثة أن استعداد "الإخوان" السريع والناجع للانتخابات، ونشاطهم وعملهم من أجل المجتمع المحلي، وسلوكهم وأداءهم في أثناء معركة الانتخابات، هي من العوامل الرئيسة التي أدت إلى فوزهم الكاسح في الانتخابات. كذلك فإن تحالفات حزب "الحرية والعدالة" مع "المعسكر الديمقراطي" الذي يضم أحزاب "الغد الجديد" و"الوفد" و"الكرامة" و"الأحرار" و"الحزب الناصري" و"العمال المصري" وغيرها، استهدفت التأكيد على القاسم المشترك الذي يجمع بين حزب "الحرية والعدالة" وبين القيم العالمية التي تمثلها الأحزاب الليبرالية. علاوة على ذلك يحرص الإخوان المسلمون، منذ ظهور نتائج الانتخابات، على تأكيد الاختلاف الجوهري بينهم وبين حزب "النور" السلفي، الذي سجل إنجازاً لافتاً بعد انتهاء جولتي الانتخابات.

ويتحدر أنصار حزب "النور"، المؤيد لإقامة دولة شريعة في مصر وتطبيق الشريعة الإسلامية في كل مجالات الحياة، من الطبقات الشعبية، أو على الأدق من فقراء المدن والقرى ورجال الياقات الزرقاء. وفي دولة كمصر، يوصف 40% من سكانها بالفقراء، لا غرابة في أن يحظى حزب "النور"، الذي يقترح خدمات اجتماعية ودينية مجانية، بمثل هذه الشعبية الكبيرة، وفي المقابل فإن مؤيدي وأنصار الإخوان المسلمين يمثلون طبقات وفئات واسعة أكثر في صفوف السكان المصريين.

وختمت قائلة: ينشغل زعماء حزب "الحرية والعدالة"، منذ فوزه الساحق في جولة الانتخابات الثانية، في طمأنة وتهدئة روع الجمهور المصري الليبرالي، الذي يتوجس من عملية الأسلمة الحثيثة، وفي صد الانتقادات اللاذعة من جانب الشبان في حركة الإخوان، الذين انتقدوا الحركة بسبب توجهها المحافظ وانشقوا عنها ليقيموا حزباً خاصاً بهم. كما وينشغل قادة الحزب في إجراء اتصالات تعارف مكثفة مع الأميركيين، الذي يسعون لسبر غورهم والوقوف عن كثب على رؤيتهم وتوجهاتهم. ويمثل حزب "الحرية والعدالة" نموذجاً هجيناً يمزج بين الهوية القومية والهوية الإسلامية، وبين الدين والحداثة، ويساهم الحزب بشكل فعال في السجال النشط الدائر في مصر حول حقوق النساء والأقليات، ولا يعلن طلاقاً أبديا مع الغرب. وسواء أكان الحديث يدور على تبريرية لفظية، أو على تبني تكتيكات وإستراتيجيات اعتدال، فإن ثمة أساساً معقولاً للافتراض بأن عبء الحكم والخوف من الفشل سيجبران الإخوان المسلمين في مصر على تبني سياسة براغماتية. ومثل هذه السياسة يمكن أن تتعاون معها أيضاً الأحزاب الليبرالية، وأن تكون مطمئنة ومرضية للجمهور المصري الليبرالي الذي برز منذ الثورة كقوة يجب أخذ رغباتها وتطلعاتها بعين الاعتبار.