على هامش المشهد

بقلم: دانا بلاندر *

 

 

 

هل إسرائيل ناضجة لسياسة خضراء؟

 

 

تعتبر مسألة جودة البيئة أحد المواضيع التي تسم أجندة "السياسة الجديدة"، أي السياسة التي طرأ عليها تغيير في سلم قيم المواطنين، من قيم مادية إلى قيم ما بعد مادية. إن هذه "السياسة الجديدة" تنمو على أرضية جملة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ومن بينها ارتفاع مستوى المعيشة، تمدين الريف، الحراك الاجتماعي، ازدياد عدد المنظمات التطوعية، اتساع نطاق التعليم بشكل عام والتعليم العالي/ الأكاديمي بشكل خاص، إضافة إلى تنامي واتساع الاتصالات ومصادر المعلومات.

 

 

في دولة إسرائيل بدأت مثل هذه السيرورات في تسعينيات القرن الماضي، مشجعة على تنامي خطاب سياسي كانت مسائل المساواة في الحقوق وجودة البيئة من المواضيع البارزة فيه. والجدير بالإشارة هنا، أنه وخلافاً لدول أوروبا التي تعززت فيها السياسة الخضراء، فإن الخطاب السياسي في إسرائيل ما زال يتمحور حول مسائل الخارجية والأمن والمجتمع والاقتصاد، أما مواضيع جودة البيئة فما زالت مُهمَّشة. مع ذلك فإن مكانة مسائل جودة البيئة والاعتبارات البيئية آخذت تتعزز بشكل مطرد خلال العقدين الأخيرين، سواء في عملية اتخاذ القرارات أو على صعيد وعي الجمهور. وقد دلت استطلاعات أجريت في سنوات التسعينيات على أن الإسرائيليين يبدون اهتماماً بجودة وسلامة البيئة، وأن الكثيرين يرون فيها مسألة مهمة ينبغي أن تخصص لها ميزانيات حتى لو تطلب الأمر فرض رسوم ضريبية بغية دفعها قدماً.

 

يستعرض هذا المقال ميادين عمل مختلفة للسياسة الخضراء في إسرائيل، وهي المجتمع المدني، الأحزاب، الكنيست والحكومة.

 

المجتمع المدني

 

 

في العام 2002 نشطت في إسرائيل نحو 160 منظمة تطوعية، ليست حكومية وليست خاصة (منظمات قطاع ثالث)، تعُنى بموضوع جودة البيئة، وذلك في مقابل نحو 80 منظمة مشابهة في العام 1996. أي أن عدد هذه المنظمات تضاعف خلال ثماني سنوات.

 

على الرغم من هذه الزيادة الحادة فإن نسبة المنظمات الخضراء بين مجموع منظمات القطاع الثالث ما زالت أقل من 1%.

 

معظم مصادر تمويل هذه المنظمات هي مصادر مستقلة، أي رسوم العضوية، وهناك اتجاه تراجعي في مشاركة الدولة في تمويلها، هذا بالإضافة إلى أن جزءاً من هذه المنظمات لا ترغب في تلقي مساعدة حكومية وذلك حتى تتمكن من المحافظة على استقلاليتها وحرية عملها.

 

في إسرائيل، وعلى غرار باقي دول الغرب، ينتمي الناشطون في هذه المنظمات إلى الطبقة المتوسطة العليا، وهم غالبا من ذوي التعليم العالي. فضلاً عن ذلك فقد وجد أن هناك صلة بين المواقف الليبرالية، في مواضيع مثل المساواة بين الجنسين، وبين الوعي البيئي والاهتمام بالشؤون البيئية والاستعداد لدفع رسوم ضريبية وزيادة الاستثمارات العامة في المجال البيئي.

 

على صعيد المجتمع المدني يمكن إرجاع بداية النضال من أجل سلامة البيئة في إسرائيل، إلى تاريخ تأسيس "الهيئة العامة لمنع الضجة والتلوث"، وذلك في أعقاب سن قانون منع الإزعاجات سنة 1961 والمعروف باسم "قانون كنوفيتس". ويشار إلى هذا القانون في التاريخ السياسي باعتباره نموذجاً للقوانين والتشريعات الجوفاء، وذلك نظرا لعدم وضع الأنظمة واللوائح اللازمة من أجل تطبيقه. وقد قرر أعضاء "الهيئة العامة لمنع الضجة والتلوث" تطبيق القانون الذي حظر الضجة والروائح الكريهة وتلويث الجو. كما وقفت "الهيئة" في طليعة المعارضين لتوسيع محطة توليد الطاقة التابعة لشركة الكهرباء القطرية في العام 1965، وخلال السبعينيات أصبحت "الهيئة" ذاتها عنواناً للشكاوى في موضوع مصادر الإزعاج والمكارة البيئية.

 

تعمل المنظمات الخضراء في المجتمع المدني بطرق عديدة ومتنوعة يمكن تصنيفها على النحو الآتي:

· طرق عمل معتدلة وتشمل لقاءات مع ممثلي السلطة، نشر إعلانات ومقالات...الخ في وسائل الإعلام، توجيه رسائل خطية لصانعي القرارات، تنظيم مظاهرات مرخصة، إضافة خطوات قانونية والتدخل أو المشاركة في عمل لجان التخطيط. ويسعى أصحاب هذا التوجه المعتدل إجمالاً إلى إقامة قنوات حوار مع السلطات ومحاولة التوصل إلى تسويات حلول وسط.

· طرق عمل راديكالية وتعني القيام بنشاطات سياسية خارجة عن المألوف (كالقيام بمظاهرة استفزازية أو اعتراض طريق الجرافات لمنع شق شارع مثلا) ورفض التسويات والحلول الوسط.

 

معظم المنظمات الخضراء في إسرائيل لا تطرح تحدياً لسياسة الحكومة ولا تتبع وسائل راديكالية كفاحية في نشاطها وإنما تنتهج طرق عمل معتدلة.

 

طابع المنظمات: مؤسسية أو مستقلة

 

 

يمكن تفحص مسألة ما إذا كانت المنظمة مؤسسية أو مستقلة ضمن مستويين:

أولاً- طابع نشاطها: هل المنظمة ونشاطها هما فرع أو رافد للسلطة أم متحديان لسياسة الحكومة؟

ثانيا- مصادر التمويل: هل تعتمد المنظمة في نشاطها على دعم حكومي أم على تمويل من مصادر خيرية ومستقلة؟ في الماضي كانت "الشركة لحماية الطبيعة" منظمة مؤسسية مدعومة بميزانيات حكومية واعتبرت نفسها جزءاً لا يتجزأ من مؤسسات الدولة. ولكن في أعقاب تنامي قوة المجتمع المدني في الثمانينيات تغير طابع نشاطها، فتحولت من التعاون مع المؤسسة إلى لعب دور مُتَحدٍّ وضاغط على الحكومة. وكانت "الشركة لحماية الطبيعة" قد أخذت على عاتقها منذ إقامتها في العام 1954 ولغاية أواسط الثمانينيات، دوراً قومياً تعبوياً بحب البلاد والطبيعة، كما تعاونت مع الحكومة في إقامة محميات طبيعية وإنشاء هيئة المراقبة والإشراف المعروفة باسم "سلطة المحميات الطبيعية والحدائق" وذلك في العام 1963.

 

ابتداء من منتصف الثمانينيات تعزز الوعي البيئي لدى المنظمة (شركة حماية الطبيعة) وبدلاً من التركيز على دفع وخدمة مصالح وطنية في هذا المجال، أخذ اهتمامها ينصب على حماية البيئة، مع الإشارة إلى أن هذا التغيير ترافق مع نضالات ضد قرارات حكومية، واحتجاج شعبي والتماسات للمحاكم وتقديم اعتراضات إلى لجان التخطيط. وبالرغم عن ذلك فإن "شركة حماية الطبيعة" ما زالت تنتهج توجهاً معتدلاً يقوم على التعاون مع المؤسسة الرسمية، كما أنها تتمتع بمكانة استشارية في اتخاذ القرارات ذات الصلة.

 

مثال على هيئة أخرى تتمتع باستقلالية من ناحية مصادر التمويل، وتلعب دوراً متحدياً للمؤسسة لكنها تنتهج في الوقت ذاته طرق عمل معتدلة وتشارك في اتخاذ القرارات، نجده في "الجمعية الإسرائيلية للمحافظة على البيئة- الإنسان والطبيعة والقانون". تأسست هذه الجمعية، التي تعمل في شكل أساس عن طريق التوجه ورفع الشكاوي للمحاكم، في العام 1990 على يد مجموعة من المهنيين والمختصين في مجال العلوم والقانون مستغلة قوننة السياسة والمجتمع واتساع التشريعات البيئية من أجل خوض نضالات قانونية تهدف إلى المحافظة على سلامة البيئة. وتعمل الجمعية بالتعاون مع منظمات محلية وتوفر لها الاستشارة والتمثيل القانوني. وعلى غرار منظمات أخرى تُعنى بسلامة وجودة البيئة، تحافظ الجمعية أيضاً على استقلاليتها وتعتمد في تمويلها على التبرعات ورسوم العضوية. وتصدر الجمعية سنويا تقرير "فقر بيئي" وتدير خط اتصالات مفتوح ("خط أخضر") لتلقي شكاوي الجمهور حول الإزعاجات والمكاره البيئية. وقد حققت الجمعية خلال سنوات نشاطها العديد من الإنجازات والنجاحات مثلاً في معالجة نفايات التجمعات الحضرية وفي الالتماس ضد معامل الصناعات الكيماوية في حيفا بسبب إلقاء النفايات التي تحتوي نسبة عالية من المواد الحامضية في وادي "كيشون" والتماسات في موضوع بناء مرافئ على الشواطئ. كما وتقف الجمعية خلف عدد من المبادرات التشريعية المتعلقة بشؤون سلامة البيئة، مثل صياغة المسودة الأولية لـ "مشروع قانون هواء نقي في إسرائيل" المقدم في العام 2006، وبالإضافة إلى تقديم الاستشارة لصانعي القرارات يشارك ممثلو الجمعية في لجان التخطيط واللجان العامة المختصة بشؤون سلامة البيئة.

 

منظمات محلية

 

 

هناك منظمات كثيرة تقام لمهمة واحدة في ضوء تهديد بيئي محلي. على سبيل المثال مجموعة "مواطنون ضد تلوث الجو" والتي عملت في حيفا احتجاجا على التلوث الناتج عن مصافي تكرير البترول ومحطة توليد الطاقة التابعة لشركة الكهرباء في حيفا، ومجموعة "مواطنون من أجل البيئة في الجليل"، وهي تنظيم محلي أقيم من أجل إغلاق معمل للصناعات البتروكيماوية في عكا بسبب التلوث والمواد الخطرة.

 

بصورة عامة فإن المجموعات التي تنجح في تنظيم صفوفها تعتمد على مواطنين ينتمون إلى طبقات اجتماعية اقتصادية عليا. وهكذا نشأ وضع أضحت فيه القرارات المتعلقة بإقامة مواقع خطيرة على البيئة لا تتخذ بناء على اعتبارات بيئية وإنما استنادا لاعتبارات سياسية تتعلق بحجم وتأثير المعارضة المتوقع أن يثيرها قرار إنشاء مثل هذه المواقع التي تقام في الغالب الأعم- في ضوء ما ذكر- في مناطق وتجمعات سكانية ضعيفة من النواحي الاقتصادية والسياسية، وتواجه صعوبة في العمل والاحتجاج بشكل منظم، وحتى إذا ما عبرت عن الاحتجاج فإنها لا تمتلك القوة والنفوذ السياسي بحكم هامشيتها في المجتمع.

 

العمل ضمن ائتلاف

 

أحيانا تعمل بعض المنظمات الخضراء بشكل مشترك بغية تعظيم قوتها. وعلى سبيل المثال فقد خاض ائتلاف منظمات "القدس قابلة للحياة" نضالاً للمحافظة على غابة القدس وضد إقرار "خطة صفدية" للبناء في غربي المدينة، وبالفعل فقد رُفضت الخطة من قبل المجلس القطري للتنظيم والبناء في نيسان 2007.

 

______________________

 

* الكاتبة باحثة في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"- القدس. هذه المقالة هي جزء من دراسة أوسع ستشكل أحد فصول عدد جديد من سلسلة "أوراق إسرائيلية" حول قضايا البيئة في إسرائيل، سيصدر في وقت لاحق.