علمانيون محدودو الضمان.

على هامش المشهد

قام مركز عدالة- المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، مؤخرًا، باستمزاج آراء عدد من الحقوقيين بشأن السؤال التالي: هل يتعيّن على منظمات حقوق الإنسان الاستمرار في رفع الالتماسات للمحكمة العليا الإسرائيلية فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة أم لا؟.

 

 

وكما هو معروف للجميع، فإن المحكمة العليا الإسرائيلية قبلت جزءًا ضئيل من الالتماسات من بين آلاف الالتماسات التي قدّمت لها خلال أربعة عقود من الاحتلال، وبصورة جلية للعيان فقد صدّقت السياسة القضائية المتبعة على عمليات جيش الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يتعارض والقانون الدولي.

 

وقال مركز عدالة: قد يعتبر البعض أنّ استمرار اللجوء للمحكمة العليا الإسرائيلية هو شرعنة للاحتلال الإسرائيلي. إن الخطاب المعتمد في المحكمة العليا يتعارض بصورة بالغة مع النتائج الفعلية لقراراتها. فبينما يدعي الخطاب القضائي الإسرائيلي في قرارات المحكمة العليا أن العدالة تحققت، تعزز قرارات المحكمة، على أرض الواقع، من الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان التي يرتكبها جيش الاحتلال. فضلاً عن ذلك، فإن الاستمرار باللجوء إلى المحكمة العليا من شأنه أن يولّد الوهم بأن هناك احترامًا للإجراء العادل وأن هناك تقييدات فعلية تُفرض على الجيش. وقد يخلق الوهم أنّ المحكمة العليا الإسرائيلية هي المكان الذي يمكن النضال ضد انتهاكات الاحتلال من خلاله. ولذا من المفضل عدم التوجه للمحكمة العليا الإسرائيلية في جميع القضايا التي تخص الاحتلال.

وفي المقابل يدعي آخرون أن المحكمة الإسرائيلية العليا لن تنجح أبدًا في شرعنة الاحتلال بعيون الفلسطينيّين والمجتمع الدولي، مهما كانت طبيعة القرارات التي تصدرها. لقد كانت محاكم جنوب أفريقيا في فترة الابرتهايد تصدر أحيانًا قرارات لصالح الضحايا السود، خلافًا للمحكمة الإسرائيلية العليا، وعلى الرغم من ذلك فهي لم تشرعن نظام الفصل العنصري (الأبرتهايد)، فكيف يمكن للمحكمة الإسرائيلية العليا، التي تصدّق يوميًّا على عمليات الجيش الإسرائيلي التي تنتهك القانون الدولي، أن تشرعن الاحتلال؟ إضافة إلى ذلك، يمكن الادعاء أن المحكمة الإسرائيلية العليا ستكون أكثر ارتياحًا إن لم يكن عليها سماع قضايا حول الأراضي الفلسطينية المحتلّة، حيث يمكّنها ذلك من عدم إصدار قرارات تؤدي إلى أن يعتبر العالم المحكمة العليا الإسرائيلية غير ديمقراطية. إن الاستمرار باللجوء إلى المحكمة العليا الإسرائيلية يساهم، على أقل تقدير، في خلق سجل رسمي لانتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية، الأمر الذي من شأنه تعزيز النضال الدولي ضد الاحتلال. ولذا من المفضل الاستمرار في تقديم قضايا أمام المحكمة العليا بخصوص الاحتلال وبشكل مكثف لتوسيع هذا السجل.

 

وفيما يلي أجوبة ثلاثة من الحقوقيين الإسرائيليين:

 

 

غاد برزيلاي- بروفسور في العلوم السياسية، الحقوق والدراسات الدولية في كلية الدراسات الدولية والحقوق على اسم جاكسون، وفي برنامج القضاء، المجتمع والعدالة في جامعة واشنطن

 

 

لم يكن بسط صلاحية المحكمة العليا الإسرائيلية للبت في ملفات تتعلق بالمناطق المحتلة خطأ مطلقًا، لا من وجهة نظر إسرائيليين ولا من ناحية الفلسطينيين. فقد كان في مقدور الإسرائيليين استخدام المحكمة حينما كان الأمر مريحًا لهم، بغية فرض تقييدات على عمليات عسكرية في المناطق المحتلة، حتى لو كانت عديمة الأهمية. من ناحية الفلسطينيين، شكّل تقديم التماسات إلى المحكمة العليا في شؤون متعلقة بالمناطق المحتلة، وسيلة لتعريف الجمهور بعدد من أقسى حالات المساس بحقوق الإنسان التي نفذتها إسرائيل. مع ذلك، كان لقرارات المحكمة العليا في الملفات المتعلقة بالمناطق المحتلة، عمومًا، تأثير مضرّ يتمثل في منح ترخيص قانوني رسمي وتوفير شرعية فعلية للاحتلال العسكري الإسرائيلي. فليس فقط أن جميع الالتماسات تقريبًا قد رُفضت، بل سمحت لإسرائيل أيضًا بالادعاء أن السيطرة العسكرية في المناطق المحتلة خاضعة لـ "سلطة القانون". فأسطورة النقد القضائي ووهم "سلطة القانون" كانتا الوسيلتين اللتين أنجبتا التعبير المتناقض "احتلال مبرّر".

 

اليوم، في مطلع القرن الحادي والعشرين، بات الضرر الذي تتسبب به قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية في الالتماسات المتعلقة بالمناطق المحتلة أكبر فأكبر. ففي حين أن الالتماسات الفلسطينية إلى المحكمة العليا قد تثمر عن عدد من التسويات التي تُبرم خارج جدران المحكمة، فإن المحكمة العليا ستواصل دعم الوضع القائم. وكما يُستدلّ من التناقضات بين قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية ومواقف المحكمة الدولية بشأن قانونية "جدار الفصل"، فبدلا من إعطاء الفلسطينيين حماية لحقوق الإنسان، تقوم المحكمة بالدفاع عن الدولة أمام النقد القضائي الفعّال.

 

عمليًا، من شأن وقف الرقابة القضائية من قبل المحكمة العليا على المناطق المحتلة أن تحثّ فلسطينيين على تقديم التماسات وشكاوى أكثر إلى المحاكم الدولية. على نحو مشابه، فمن شأن خطوة كهذه أن تجبر الإسرائيليين على الاعتراف بشكل أكثر مباشرة بواقع الضرر القاسي الذي سببه الاحتلال لحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، سواء في إسرائيل أو في المناطق المحتلة.

 

ختامًا، إن من شأن وقف التوجه إلى المحكمة العليا أن يقوّي الجهاز القضائي الفلسطيني وبالتالي أن يدعم الطموح الفلسطيني لإقامة دولة مستقلة تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل في حدود الخط الأخضر.

 

رونين شامير- بروفسور في علم الاجتماع والقانون، وحاليًّا يشغل منصب رئيس دائرة علم الاجتماع والإنسان في جامعة تل أبيب

 

 

إن موضوع هذا النقاش ليس بجديد. ففي الثمانينيات، وفي أعقاب فشل محاولات الالتماس ضد هدم البيوت والتهجير القسري وإغلاق الصحف، دعت منظمة التحرير الفلسطينية الفلسطينيين إلى عدم تقديم الالتماسات للمحكمة الإسرائيلية العليا. وبالمجمل، لم يكترث الرأي العام الفلسطيني بهذه الدعوة. لقد قمت حينئذ ببحث هذه المسألة بهدف فهم نتائج بحث قمت به في الماضي - حول الفرص الضئيلة للفوز بقضية ما، من جانب واحد، والمساهمة الجلية للمحكمة العليا في شرعنة الاحتلال في عيون الرأي العام اليهودي الإسرائيلي والمجتمع الدولي، من جانب آخر- ولماذا لم يترك ذلك أثرًا على نسبة تقديم الالتماسات.

 

وقد وجدت أنه يتعيّن علينا أن نميّز بين "التماسات سياسية" وبين التماسات من طرف أناس عاديّين. فالالتماسات السياسية مقدمة من طرف أناس يشاركون بصورة مباشرة في النضال التحرري الفلسطيني وهم يتحلون بدرجة عالية من الحساسية للإسقاطات الرمزية التي ترافق رفع التماسات للمحكمة العليا. هنالك نزعة قوية سائدة بين أوساط هذه المجموعة ترفض رفع الالتماسات للمحكمة، بينما في أوساط أولئك الذين استمروا برفع الالتماسات سادت فكرة أنه في مقابل الشرعية التي تنتج عن هذه الالتماسات هناك إسهام لصالح بناء "سجل الاحتلال".

 

أما الملتمسون من الصنف الثاني، وبخاصة الأناس العاديين، فقد رفعوا التماساتهم لأسباب أخرى مختلفة. النسبة الأكبر للالتماسات جاءت من طرف مثل هؤلاء الأشخاص العاديين. لا يتسم هؤلاء الناس بالسذاجة وهم يدركون أن فرصهم ضئيلة للفوز، وعلى الرغم من ذلك، فهم يأملون بفرصة تأجيل عقاب معين أو إحراز مساومة ولو طفيفة، وربما وهو الأهم، يسعون إلى الحصول على الاعتراف، إلى إعلاء صوتهم، والشعور بأنهم يناضلون ولا يرضخون بصورة سلبية لمصيرهم. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص فإن هذا النقاش غير مهم إطلاقًا، وهو مجرّد نقاش أكاديمي ليس إلا.

 

 

دافنا غولان- كلية الحقوق، الجامعة العبرية، القدس

 

 

في أواخر فترة الأبرتهايد، سألني قاض من جنوب أفريقيا: لماذا يبذل المشاركون في المؤتمرات الأكاديمية الدولية في أوروبا أو في الولايات المتحدة جهدًا عظيمًا من أجل عدم الجلوس إلى جانبه أو إلى جانب زملائه من جنوب أفريقيا، بينما يُحاط القضاة الإسرائيليين بمزيد من الإعجاب والاحترام؟.

 

ترتبط مسألة التوجه للمحكمة العليا بمسألة مكانة القضاة الإسرائيليين في المجتمع القانوني الدولي، وفي السبل التي يمكن مواجهة هؤلاء القضاة مع المعاني التي تحملها قراراتهم. مع ذلك، أعتقد أنّه من الجدير توسيع النقاش على ثلاثة مستويات.

 

بدايةً، يجب التأكد من أنّ جميع البدائل للتوجه للمحكمة العليا قد فُحصت. في جنوب أفريقيا، توجهت مؤسسات حقوق الإنسان للمحكمة على مدار فترة الأبرتهايد لأنهم آمنوا أنه من الممكن إيجاد ثغرات حتى في قوانين الأبرتهايد والجهاز القضائي المميز.

 

ووفق الإستراتيجية التي أُطلق عليها اسم "الملف الخاسر"، قدّمت مؤسسات حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا آلاف الالتماسات باسم سود تم توقيفهم في "المدن البيضاء" بسبب عدم حيازتهم على تصريح انتقال مناسب. بعد سنوات من رفض هذه الالتماسات، صدر قرار ذو طابع "تقني"، اعترف بالتضارب بين قانونين يتعلقان في حق السود في السكن في "المدن البيضاء"، وانهارت مجموعة القوانين التي سيطرت على تنقل السود، وكانت أحد أسس الاضطهاد في الأبرتهايد.

 

هل يمكننا القول إن قرارات المحكمة الإسرائيلية العليا لن تؤدي إلى تغيير مهم بشكل مؤكد؟

 

ثانيًا، من الجدير أن يتم توسيع هذا النقاش ليشمل إستراتيجيات بديلة. في جنوب أفريقيا، كان التوجه للمحكمة إستراتيجية من مجموعة إستراتيجيات، أما في إسرائيل فالتوجه إلى المحكمة هو الإستراتيجية الأساسية لمؤسسات حقوق الإنسان. السؤال إذن هو: متى وفي أي ظروف يجب التوجه للعليا، وما هي الإستراتيجيات البديلة التي يجب تطويرها؟.

 

ثالثًا، يجب أن لا يتم تقييد النقاش في مسألة التوجه للعليا في قضايا الاحتلال فقط، لأن هذا ينطوي على افتراض مبطن بأن هناك فرقا بين الأراضي المحتلة وبين إسرائيل. إنّ هذا التمييز، حتى إن كان ظاهرًا في مئات القوانين والتعليمات العسكرية والقرارات، هو خيالي ويناقض أسس حقوق الإنسان.