تقرير "مركز طاوب": تآكل أجور المستخدمين الأكاديميين وارتفاع غلاء المعيشة يبعدان العائلات الشابة عن الطبقة الوسطى

تحليل أخباري

(*) رأت وسائل الإعلام الإسرائيلية في معرض تصديها لتشريح حملة تبادل البيانات بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، في إثر الخطاب الذي ألقاه هذا الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الفائت، أن هذه الحملة تعكس أول مواجهة علنية تقع بين الاثنين. لكن في الوقت نفسه فإن وسائل الإعلام هذه التزمت جانب التواضع في التعويل على مترتبات هذه المواجهة، ذلك بأن ردّة فعل رئيس الحكومة على "رؤية التسوية" التي طرحها وزير الخارجية لم تتجاوز سقف القول إن الخطاب في الأمم المتحدة لا ينسجم معه وإنه - أي نتنياهو - هو المفاوِض الأعلى سلطةً مع الفلسطينيين، الأمر الذي  اعتبره بضعة معلقين مجرّد "كلام معسول وغامض" لا ينم عن أي موقف سياسي جوهري. وكتب أحدهم (رون بن يشاي، المعلق العسكري في الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة يديعوت أحرونوت) يقول: "كان بإمكان رئيس الحكومة تخفيف أضرار الخطاب إلى حدٍ ما، لو أنه أقدم مباشرة بعد أن أنهى ليبرمان حديثه في الأمم المتحدة، على نشر بيان لاذع وواضح يصرّح فيه بأن كلمات وزير الخارجية لا تعكس موقف الحكومة الإسرائيلية وقراراتها فيما يتعلق بالمفاوضات مع الفلسطينيين، وأن في نيته توبيخ الوزير الذي أطلق العنان للسانه".

 

وأشار البعض إلى أن اللغط الذي أثير حول خطاب ليبرمان يعود إلى كونه قد عرض رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إيهود باراك بل الحكومة الإسرائيلية بأكملها على أنهم كاذبون، وعلى أنهم في الواقع لا يقولون الحقيقة عندما يصرحون بأنَّ ثمة فرصة حقيقية للتوصل إلى اتفاق سلام في غضون عام مع الفلسطينيين، وأنهم يبذلون جهداً لإحراز اتِّفاقٍ كهذا عبر مفاوضاتٍ مباشرة مع الرئيس محمود عباس. فقد أعلن ليبرمان على الملأ أنه على الأغلب يمكن إحراز اتفاق مرحلي طويل الأمد، أي أن ما يقوله نتنياهو وباراك إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما وإلى سائر زعماء العالم هو مجرّد كلام في كلام. فضلاً عن ذلك فإن وزير الخارجية مسّ صورة إسرائيل كدولةٍ ديمقراطيَّةٍ، حيث جهر أمام سامعيه بالاقتراح القاضي بالتخلص من جزء من مواطني الدولة العرب، عبر خطة "تبادل أراض وسكان". وعموما لا فرق إذا كان اقتراح كهذا يُدرس في الحقيقة بجدية من جانب رئيسه في القدس أو أنه كان ثمرة عقل ليبرمان المريض، ذلك بأن أصل القضية هو أن قيام وزير كبير في الحكومة الحالية في إسرائيل بإثارة فكرة كهذه في منتدى دوليّ مرموق يحوّل الفكرة إلى سلاحٍ في أيدي المعسكر غير الصغير الذي يسعى إلى نزع الشرعية عن دولة إسرائيل. في المقابل فإن مقربين من رئيس الحكومة أكدوا أن مواقف ليبرمان (التي وردت في خطابه) سبق أن طُرحت خلال مداولات مغلقة تتعلق بموضوع العملية السياسية (مع الفلسطينيين) لكن لم يتم اتخاذ أي قرار رسمي من طرف الحكومة الإسرائيلية بشأن هذه المواقف، في حين أن ليبرمان نفسه وفي سياق تصريحات خاصة أدلى بها إلى صحيفة يديعوت أحرونوت ادعـى أن ما ورد في خطابه لا يختلف كثيرًا عما ورد في الخطاب الذي ألقاه نتنياهو في جامعة بار إيلان (في 14 حزيران 2009). وهذا الأمر يحيل شرعًا إلى التساؤل في ما إذا كان أكثر ما جعل نتنياهو يستشيط غضبًا هو قيام وزير خارجيته بتسريب مداولات مغلقة من داخل الحكومة على مسامع الرأي العام العالمي؟. 

من ناحية أخرى كان هناك شبه إجماع على أنه من الصعب معرفة ما الذي دفع ليبرمان إلى القيام بفعلته هذه، لا سيما وأنه غير أحمق وبالتأكيد كان يدرك انعكاسات خطابه. ولذا، كما قال البعض، فإن ثمة انطباعًا بأن الدافع الأساس يبقى كامنًا في رغبته الأيديولوجية في نسف المفاوضات مع الفلسطينيين وفي طموحه السياسي لأن يصبح الزعيم الحقيقي لمعسكر اليمين في إسرائيل.

في واقع الأمر فإن جلّ التحليلات لخطاب ليبرمان تركزت في الفقرة التي تحدث فيها عن رؤيته المتعلقة بأفق المفاوضات المباشرة وخصوصًا قوله إن "التسوية النهائية بين إسرائيل والفلسطينيين يجب أن تكون مستندة إلى خطة تبادل الأراضي والسكان"، موضحًا أنه "لا يقصد نقل سكان بل رسم حدود (نهائية) تعكس الواقع الديمغرافي". وقال أيضًا إنه "نظرًا إلى أن احتمال إحراز اتفاق سلام شامل مع الفلسطينيين في غضون عشرات الأعوام المقبلة هو احتمال غير واقعي مطلقًا، فإن ما يجب السعي نحوه هو التوصل إلى اتفاق مرحلي طويل الأمد".

بيد أن هذه التحليلات لم تعر اهتمامًا شبيهًا بفقرة أخرى وردت في الخطاب ذاته وربما تشفّ عن وجود خلاف بين الاثنين يتعلق بجدول أولويات الحكومة الحالية. والمقصود الفقرة التي أشار فيها ليبرمان إلى أن المقاربة التي تقول إنه من أجل معالجة المشكلة الإيرانية يجب أولاً حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني هي مقاربة خطأ، وذلك لأن الوضع هو عكس ذلك تمامًا "إذ إن إيران يمكنها البقاء من دون حماس، لكن هذه الأخيرة لا يمكنها البقاء من دون إيران"، وبناء على هذا فإنه ما دامت هذه المشكلة من دون حل وما دامت إيران مستمرة في تقويض الاستقرار في الشرق الأوسط، وفي الاحتفاظ بوكلاء لها على حدود إسرائيل الشمالية والجنوبية في هيئة حزب الله و"حماس"، فإنه لا يمكن التوصل إلى تسوية نهائية بين إسرائيل والفلسطينيين. وأكد أنه "من أجل حل مشكلات كثيرة في الشرق الأوسط، لا النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني فقط، فإنه يجب معالجة المشكلة الإيرانية أولاً".

وقد كان نتنياهو يتبنى هذه المقاربة الأخيرة (التي اختزلت في شعار "إيران أولاً")، بل إنه جعل "الملف الإيراني" يتصدّر سلم أولويات حكومته في أول عهدها. وسبق لصحيفة "معاريف" أن كشفت أنه فور جلوس نتنياهو على كرسي رئيس الحكومة تسلم بناء على طلبه تقريرا مفصلا من رئيس هيئة الأركان العامة وقادة الأجهزة الأمنية تناول "الخطط الإسرائيلية لإزالة التهديد النووي الإيراني". وفي حينه تنبأت تحليلات سياسية أخرى بأن "صعود بنيامين نتنياهو إلى سدّة الحكم يزيد احتمالات الحرب مع إيران، لكن 'نقطة اللاعودة' لم يتم تجاوزها حتى الآن" (ألوف بن، هآرتس 1/4/2009). وأضافت أنه في الحلبة السياسية الإسرائيلية كان الاعتقاد السائد هو أن عودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة "تقرّب بالضرورة إسرائيل من حرب مع إيران" وأن "شخصيات سياسية، كانت على اتصال مع نتنياهو، تقول إنه قد قرر تدمير المنشآت النووية الإيرانية". لكن يبدو أن نتنياهو غيّر مقاربته في الآونة الأخيرة وبات يعتقد أنه يجب معالجة النزاع مع الفلسطينيين لأن ذلك من شأنه أن يدفع قدمًا حل المشكلة الإيرانية.

ويظهر أن هذا التغيير من جانب نتنياهو يعود أساسًا إلى بضعة عوامل يظل أهمها ما يلي:

أولاً- حقيقة أن إدارة أوباما قد استقر رأيها على أن تمنح أفضلية قصوى للسعي نحو التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين مفترضة أن تسوية هذا النزاع، أو على الأقل تحديد مسار واضح وملزم لتحقيق حل الدولتين، سيسهل تنفيذ جدول الأعمال الأميركي في الشرق الأوسط عموماً والذي تقف في صلبه الغايات التالية: تجنيد الدول العربية البراغماتية في الجبهة ضد إيران، واستقرار الوضع الأمني والحلبة السياسية في العراق، وكبح النفوذ الإسلامي الراديكالي في كل من أفغانستان وباكستان. وبناء عليه فإن الإدارة الأميركية بلورت سياسة تتضمن الضغط على الحكومة الإسرائيلية للتقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين بخطوات تجسد التزاماً أعلى بأمن إسرائيل واستعداداً لمنح ضمانات أمنية تسمح للإسرائيليين بالتقدم نحو الاتفاق. يضاف إلى ذلك أن الجمود في العملية السياسية ونقد دور إسرائيل في هذا الجمود، من جانب أصدقاء واضحين لها، يسرّعان ما يسمى بـ "خطوات نزع الشرعية عن إسرائيل في الحلبة الدولية".

ثانيًا- واقع أن هذه الإدارة ليست معنية مطلقًا بمواجهة عسكرية مع إيران بل معنية بحوار معها، ووفقًا لأحدث التقديرات الإستراتيجية الإسرائيلية التي قامت بتحليل دلالات آخر خطاب ألقاه أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن تمسك الرئيس الأميركي بمقترحاته المتعلقة بالحوار مع إيران يعني بالنسبة لإسرائيل تخلي البيت الأبيض عن "صفقة المشكلة الفلسطينية في مقابل المشكلة الإيرانية"، بمعنى أن إحراز أي تقدّم في المسار الفلسطيني من طرف إسرائيل لن يقابله مردود أميركي يتمثل في تصعيد الموقف إزاء إيران (الموقع الإلكتروني التابع لـ "المركز المقدسي لشؤون الجمهور والدولة").

ثالثًا- لا شك في أن قيام نتنياهو بمماشاة رؤية أوباما وإدارته تجاه المسألة الفلسطينية يفسح المجال أمام إمكان حصوله على تأييد واشنطن في حال إقدامه على اللجوء إلى الخيار العسكري إزاء إيران. وبحسب التقرير الإستراتيجي السنوي (2010) الصادر أخيرًا عن "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب فإن كل طرق العمل من أجل وقف المشروع النووي الإيراني التي تتم دراستها لدى صناع القرار في إسرائيل تتطلب تعاوناً مع الأسرة الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وإذا ما كانت الحاجة إلى التعاون الدولي بشأن العمل الدبلوماسي والممارسة الفعالة للعقوبات واضحة كالشمس، فإنها أضعاف ذلك في كل ما يتعلق بالخيارات العسكرية، كما يؤكد التقرير. فالولايات المتحدة، الغنية بالموارد، والتي تنتشر قواتها في دول تحيط بإيران، هي صاحبة القوة الواعدة لمعالجة عسكرية للمشروع النووي الإيراني. والواقع أن في وسع إسرائيل تنفيذ هجمات جوية في إيران حتى من دون تعاون مع الولايات المتحدة، كما فعلت في العراق العام 1981، غير أن إنجازات غارة كهذه ستكون محدودة بسبب المسافات الأبعد، والصعوبة في تنفيذ أكثر من موجة غارات واحدة، وتوزع المنشآت النووية الإيرانية. ولذا فإن ثمن هجوم كهذا، وفي الأساس بمعايير سياسية، سيكون أكبر. وعليه فإنه سيتعذر على إسرائيل أن تهاجم إيران من دون ضوء أخضر، أو على الأقل أصفر، أميركي، ومن دون التقدير بأن الأثمان السياسية لعملية كهذه ستكون محتملة. وإذا ما فشلت المساعي الرامية إلى وقف المشروع النووي الإيراني، فسوف تزداد الحاجة إلى التعاون الدولي من أجل احتواء الخطر الإيراني. ويمكن أن تحتاج إسرائيل إلى ضمانات نووية أميركية كنوع من تعزيز الردع تجاه إيران.

في ضوء ما تقدّم فإنه يمكن القول إن "الخلاف" الحقيقي بين نتنياهو وليبرمان ناجم عن الجدل بشأن سلم أولويات سياسة الحكومة الإسرائيلية إزاء المسائل الإقليمية لا عن اختلاف قطبي حول جوهر هذه السياسة إزاء مستحقات المسألة الفلسطينية.