تحليل أخباري

 من نافلة القول وبديهياته أن إسرائيل كانت أول وأكبر المستفيدين- ولا داعي للتوكيد أيضاً أنها كانت وبالأساس أول وأكبر المتسببين بل والدافعين- في ما شهدته وتشهده الساحة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة أولاً وخصوصاً، من اقتتال وصراع دام على السلطة بين الأشقاء ورفاق السلاح حتى الأمس القريب، ومما آل إليه كل ذلك من نتائج وعواقب مأساوية خطيرة.

 

خلال الفترة الفاصلة بين صدور العددين السابق والحالي من هذا الملحق ("المشهد الإسرائيلي") حفلت وسائل الإعلام والصحف الإسرائيلية الإلكترونية والمقروءة بعشرات التقارير والتعليقات ومقالات التحليل والرأي التي تناولت الأوضاع الراهنة في الساحة الفلسطينية، معبرة عن مختلف الرؤى والمواقف واتجاهات التفكير المتداولة في سائر مستويات ودوائر صناع الرأي والقرار في إسرائيل حيال التعاطي مع الأوضاع والتطورات الحاصلة في دار الجوار الفلسطيني، وإذا توخينا الدقة والأمانة في نقل أحدث المصطلحات العبرية السائدة في رؤية ذات الأوضاع فلا بد من القول "في الكيانين السياسيين الناشئين في غزة ويهودا والسامرة"، أو في "دولة حماسستان" في غزة و"فتحسطين" في الضفة الغربية.

 

من خلال متابعتنا وقراءتنا لمجمل هذه التقارير والآراء والاتجاهات يمكننا أن نسجل عدداً من الملاحظات والتشخيصات التي نرى أن من الجدير التوقف عندها وتأملها بإمعان.

 

 

(*) أولاً:  تعكس معظم الآراء واتجاهات التفكير المعبر عنها رغبة واضحة وقوية، وهي بديهية بالطبع، لدى مختلف الأوساط والمحافل الإسرائيلية الصهيونية لجهة محاولة استغلال وتوظيف ما حصل في قطاع غزة ومن ثم في الضفة الغربية، بأفضل وحتى بأبشع طريقة وصورة ممكنة، وبما يصب في طاحونة المصالح والأهداف "القومية" الإسرائيلية والصهيونية الثابتة والمعروفة وفي أبسطها تفتيت وتجزئة قضية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني ومحاولة إعادتها إلى المربع الأول، كقضية صراع عربي- إسرائيلي. وليس أدل على ذلك من الارتفاع الملحوظ مؤخراً في وتيرة الحديث والأصوات الداعية في إسرائيل إلى العودة إلى الخيارات القديمة كـ "الخيار الأردني" مثلاً. وتتجوهر هذه الطروحات في الدعوة إلى "إعادة النظر" في صيغة الحل المبدئية الوحيدة المطروحة على بساط البحث، على الأقل منذ توقيع اتفاق أوسلو المرحلي في أيلول 1993، والقائمة على أساس "دولتين لشعبين".

 

واللافت أن هذه الطروحات وجدت تعبيراً ومنبراً لترويجها حتى في وسائل إعلام وصحف عبرية محسوبة على وسط ويسار الخريطة السياسية في إسرائيل.  ففي يوم الثلاثاء الماضي (3/7/2007) نشرت صحيفة "هآرتس" تقريراً مسهباً على صفحتها الأولى، ذكرت فيه على لسان مراسلها السياسي في واشنطن، شموئيل روزنر، أن "الخيار الأردني كحل للقضية الفلسطينية عاد ليحتل أخيراً مكانة مهمة على طاولة المباحثات السياسية".  وتابعت الصحيفة مؤكدة "إن المؤشرات حول هذا التوجه تتراكم ببطء ولم يعد من الممكن الخطأ في تشخيصها"، لكنها زادت في التوضيح بقولها إن الخيار الأردني "الجديد" ليس بالضرورة أن يكون بالصيغة القديمة المعروفة (صيغة معسكر اليمين الصهيوني) القائلة بأن "الأردن هو فلسطين" وإنما تنطلق من مبدأ "المساعدة الأردنية للفلسطينيين" أو "الكونفدرالية" أو "ترتيب العلاقات الأردنية الفلسطينية" أو "أي مسمى آخر".

 

وأردفت الصحيفة مؤكدة أن "هذا الطرح لم يعد مقتصراً على رجال اليمين المتطرف الذين يعارضون قيام دولة فلسطينية بل أصبحت المسألة الفلسطينية الأردنية على جدول أعمال أوساط أميركية مركزية ومؤثرة".  صحيفة "هآرتس" التي لم تستطع إسناد ما ورد في تقريرها هذا أو تأكيده على لسان مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، نشرت في اليوم التالي (الأربعاء 4/7/2007) مقالة بقلم وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه آرنس (محسوب على التيار المركزي في اليمين)، رفدت في مضمونها وفحواها هذه الطروحات ذاتها، حيث كتب آرنس في مقالته التي نشرت تحت عنوان "من يريد دولة كهذه؟!" (أي دولة فلسطينية مستقلة في حدود العام 67) قائلاً: لقد حان الوقت لإعادة النظر في نموذج الحل القائم على "دولتين لشعبين".

 

ودعا آرنس بشكل لا يقبل التأويل في تتمة مقالته إلى ضرورة تخلي صناع القرار في إسرائيل عن هذا "النموذج لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني" والبحث عن حلول وبدائل أخرى لم يستثنِ منها بشكل جازم تكريس "فصل" قطاع غزة (في ضوء سيطرة "حماس" على السلطة هناك) عن الضفة الغربية وتجزئة الحل حتى ولو كانت خيارات "إعادة المنطقتين إلى وضعهما السابق لحرب حزيران 1967" مطروحة في هذه الأثناء كـ "مسائل نظرية". وأكد قائلاً إن نموذج حل الدولتين الذي "بدا حتى الآن مسألة مفروغا منها أصبح محل علامة استفهام في أعقاب أعمال العنف الأخيرة في غزة".  وتساءل آرنس "هل من المتوقع حقاً أن ينجح (الرئيس) محمود عباس في فرض سلطته في يهودا السامرة وأن يجتاز التحدي الأصعب المتمثل في استعادة السلطة في غزة من أيدي حماس؟!"  وختم مقاله قائلاً "حسبما تبدو الأمور الآن، من الأفضل- لإسرائيل- الشروع بالبحث عن نموذج جديد للحل".

 

وبعد ثلاثة أيام (في 7/7/2007) نشرت الصحيفة ذاتها مقالاً أقرب إلى التقرير الإخباري، وفي هذه المرة للكاتب الصحافي (اليساري) المتابع فيها للشؤون الفلسطينية، داني روبنشتاين، أنبأ فيه تحت عنوان "هل يصبح الخيار الأردني مطلباً فلسطينياً؟" بما وصفه بـ"ميل متجدد" في الآونة الأخيرة بين الفلسطينيين في الضفة الغربية لإحياء "العلاقة مع الحكم الهاشمي في عمان" كما قال.  ومع أن روبنشتاين أورد أن "الملك عبد الله الثاني ورجاله لا يريدون ذلك"، إلا أنه لم يستبعد إمكانية إحياء "الخيار الأردني"، المطروح إسرائيلياً، بقوله: للوهلة الأولى يمكن للأردن أن يقول اليوم للفلسطينيين: "أنتم غير قادرين على التوصل إلى تسوية مع إسرائيل، اسمحوا لنا القيام بذلك نيابة عنكم".

 

وكانت شخصيات مهمة أخرى في إسرائيل قد دعت في الآونة الأخيرة إلى التفكير بالعودة إلى "الخيار الأردني"، ومن بينها زعيم المعارضة اليمينية (حزب الليكود) بنيامين نتنياهو (وهو المرشح المتصدر حتى الآن لمنصب رئيس حكومة إسرائيل المقبل في استطلاعات الرأي) الذي تحدث علانية عن الحاجة إلى "إدخال قوات أردنية" إلى الضفة الغربية "للمساعدة في فرض النظام"،  فيما اقترح الباحث في "مركز شاليم" المتماهي مع اليمين، ميخائيل أورن، الأسبوع الماضي، العودة إلى فكرة "الحكم الذاتي" على أن يبقى "الأمن خاضعاً لمسؤولية إسرائيلية- أردنية مشتركة".

 

ووفقاً لصحيفة "هآرتس" فإن هذا الحديث عن "العودة للخيار الأردني" لا يقتصر على شخصيات اليمين بل سبقها إليه رئيس إسرائيل الطازج شمعون بيريس، والذي نقلت عنه الصحيفة قوله في شهادته أمام لجنة فينوغراد لفحص إخفاقات حرب لبنان الثانية "علينا أن نبحث عن مبنى جديد للعلاقة مع الفلسطينيين.  أنا في قلبي عدت إلى الاستنتاج الذي آمنت به دوما وهو أننا ملزمون بجلب الأردنيين... لا يمكننا أن نصنع السلام مع الفلسطينيين فقط".

 

(*) ثانياً: من خلال استعراض ما كتب ونشر في السياق ذاته يظهر جلياً أن تحقيق تلك الرغبة الإسرائيلية- الصهيونية الجامحة باستغلال وتوظيف الوضع الناشئ في الأراضي الفلسطينية في خدمة الأهداف والمخططات الإسرائيلية القديمة- الجديدة، يصطدم حتى الآن على الأقل، بمعيقات موضوعية (أسباب وعوامل خارجية لها علاقة بمواقف أطراف دولية وإقليمية فاعلة) وبالأساس معيقات ذاتية متعلقة بأسباب وعوامل داخلية إسرائيلية ليس أقلها حالة الاضطراب والوهن الشديد الذي يصل حد العجز أحياناً، التي تسم المؤسسة السياسية الحاكمة ولا سيما ضعف ورعونة أداء قمة هرم السلطة الممثلة برئيس الحكومة الإسرائيلية وكبار المعاونين في "مطبخه" السياسي المصغر، فضلاً عن ائتلافه المضطرب والمنقسم على نفسه حيال معظم القضايا المطروحة على الأجندة الراهنة للدولة العبرية.  كل ذلك، مضافاً إليه التباين الواضح في مواقف المستويين السياسي والأمني، وأكثر من ذلك حالة التردد و"الحيرة" التي تعتري المؤسسة العسكرية الإسرائيلية "حيال مسألة كيفية التعاطي مع الوضع غير الواضح والضبابي الناشئ- في أعقاب ما حدث في غزة- في الضفة الغربية" حسبما ذكر خبير أمني (يوعز هندل) في مقال منشور بشكل منفصل في هذا العدد من ملحق "المشهد الإسرائيلي".. كل ذلك يحيل إلى الاستنتاج، الذي أكده العديد من الخبراء الأمنيين والمراقبين الإسرائيليين وهو أن قدرة إسرائيل على استغلال وتوظيف "الشرخ" الراهن في السياسة والجغرافيا الفلسطينيين (في الضفة والقطاع) ستبقى محدودة للغاية وعلى المدى القصير وحسب، وأن "خيار العمل الواقعي" المتاح والمرجح إسرائيلياً هو الخيار الذي سبق أن رجحه الباحث البارز في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، شلومو بروم، ومؤداه أن "إسرائيل ستفضل- في الوقت الراهن على الأقل- عدم اتخاذ قرارات ما عدا الضرورية، والتعاطي مع الوقائع وفقاً لتطوراتها في الساحة الفلسطينية".

 

(*) ثالثاً: على الرغم من أن إسرائيل، وفي مقدمها المستوى السياسي والأمني النافذ في صنع القرارات، لا تدعي، ولا تستطيع الإدعاء، وهي التي شجعت وساهمت ودفعت بقوة إلى هذه الأوضاع المستجدة في الساحة الفلسطينية، بأن ما حصل في قطاع غزة خاصةً جاء مباغتاً لها، أو متجاوزاً  لحسابات وتقديرات أجهزتها الاستخبارية المتعددة، التي حذرت مراراً منذ الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة قبل نحو عامين، من احتمال سيطرة حركة "حماس" على السلطة في القطاع واستخدمت تحديداً ومنذ عدة أشهر اصطلاح تحول غزة إلى دولة "حماسستان"، إلا أنه يبدو حتى الآن كما لو أن ما حدث في غزة قد وقع على قادة إسرائيل وجنرالاتها على حين غرة دون أن يكونوا مستعدين عملياً ومجهزين بالحلول والأجوبة الملائمة للتعامل مع الوضع الناشئ، وهو ما تدل عليه كما أسلفنا حالة التخبط والتردد الشديدة التي تعتري الخطى والتحركات الرسمية الإسرائيلية في سياق التعاطي مع هذا الوضع بمكوناته وعناصره الراهنة.  وقد برز ذلك على سبيل المثال لا الحصر في الانقسام والتباين الذي ظهر بوضوح بين رأس المستوى السياسي (الحكومي) وبين المستوى العسكري والمخابراتي، حين عبر الجيش وجهاز المخابرات (الشاباك)، علناً عن معارضتهما لأية خطوات أو ما وصف بـ "بادرات حسن نية" قيل إن إسرائيل ستقوم بها لدعم وتعزيز السلطة الشرعية الفلسطينية ممثلة برئيسها المنتخب محمود عباس "أبو مازن".

 

(*) رابعاً: لوحظ أن اتجاهات الرأي والتفكير المتباينة، والتي يمكن القول أيضاً إنها تندرج في باب "الاجتهاد" إن جاز التعبير، في البحث عن أفضل وسيلة وطريقة لاستثمار وتوظيف "الشرخ الراهن في الساحة الفلسطينية" في خدمة الأهداف والمخططات الإسرائيلية، لم تظهر منقسمة حسب الانتماءات السياسية والحزبية في إسرائيل بل تقاطعت فيها حيناً وجهات نظر ينتمي أصحابها إلى تيارات وأحزاب متنازعة، وتنافرت حولها حيناً آخر وجهات نظر ينتمي أصحابها إلى ذات التيار أو الحزب السياسي، وهو ما يعكس في تقديرنا ما أشرنا إليه من تخبط وانعدام وضوح في الرؤيا لدى دوائر صنع القرار في المؤسستين السياسية والأمنية، وأقله في ضوء المقولات التي سارت عليها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة والتي تجوهرت في محاولات الهروب إلى الأمام والادعاء بـ "عدم وجود شريك فلسطيني" والتي تجسد في حقيقتها عدم جدية ورغبة الإسرائيليين وقادتهم المتنفذين في التوصل إلى تسوية سلمية عادلة ودائمة مع الشعب الفلسطيني.