عرض ونقد لخطة "إسرائيل 2028"

ابحاث ودراسات

يهدف هذا المقال إلى إيضاح الأسباب التي تجعل من الصعب على دولة ديمقراطية، مثل دولة إسرائيل والتي تعمل في إطار قيود وكوابح يمليها طابع النظام القائم فيها، إضافة إلى اعتبارات سياسية ودولية واسعة، أن تحقق حسما كاملا وجليا للمواجهة بينها وبين "منظمات حرب عصابات إرهابية عسكرية" مثل منظمة "حزب الله" وحركة "حماس"، اللتين تعتمدان على أجهزة متعددة وعلى دعم وإسناد شبكة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، وتعملان في قلب الحيز المدني المأهول بكثافة، داخل دول أو كيانات فاشلة.

 

خاضت إسرائيل خلال العامين ونصف العام الأخيرين معركتين عسكريتين ضد منظمة "حزب الله" في لبنان وضد حركة "حماس" في غزة، وجرى في كلتا الحالتين توصيف هاتين المعركتين/ الحربين في الخطاب العام في إسرائيل وخارجها كـ "حرب ضد منظمات إرهابية".

إن استخدام هذا الاصطلاح بغية وصف الأعداء الذين حاربت إسرائيل ضدهم، وبغية وصف سمات هاتين الحربين، لا يعتبر فقط غير دقيق ومضللا، بل ويضفي أيضا غموضا على طابع الخصم والمواجهة، ويقزم أبعادهما المركبة، ويخلق توقعات غير واقعية لدى الجمهور (الإسرائيلي) بشأن إمكانية حسم المواجهة ضد هؤلاء الخصوم بانتصار واضح لا يقبل التأويل. في الحربين ضد "حزب الله" و"حماس" حاربت إسرائيل ضد خصوم يمكن وصفهم كمنظمات "إرهاب عصابات عسكرية"، وطدت في بداية طريقها مكانتها "العسكرية" بواسطة ممارسة الإرهاب، أي استناداً إلى نشاطات متفرقة وعنيفة ضد أهداف مدنية. بعد ذلك أضافت إلى طرق عملها عمليات حرب عصابات محدودة مثل عمليات "أضرب وأهرب"، وبمرور الأيام قامت ببناء قوة عسكرية منظمة وممأسسة تضم سرايا وكتائب وحتى ألوية (وإن كان ذلك في هذه المرحلة بمقاييس أصغر من الأطر العسكرية الموجودة في الجيوش النظامية التقليدية) واتبعت تكتيكات قتالية تدمج بين جميع هذه المكونات.

يهدف هذا المقال إلى إيضاح الأسباب التي تجعل من الصعب على دولة ديمقراطية، مثل دولة إسرائيل والتي تعمل في إطار قيود وكوابح يمليها طابع النظام القائم فيها، إضافة إلى اعتبارات سياسية ودولية واسعة، أن تحقق حسما كاملا وجليا للمواجهة بينها وبين "منظمات حرب عصابات إرهابية عسكرية" مثل منظمة "حزب الله" وحركة "حماس"، اللتين تعتمدان على أجهزة متعددة وعلى دعم وإسناد شبكة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، وتعملان في قلب الحيز المدني المأهول بكثافة، داخل دول أو كيانات فاشلة.

 

نموذج "حزب الله"

القتـاليّ

 

يذكر أن الحرب التي خاضتها إسرائيل ضد "حزب الله" في صيف العام 2006 نشبت في إثر قيام "حزب الله" بقصف مكثف بالصواريخ لعدد من المستوطنات الإسرائيلية، وذلك للتمويه على عملية اختطاف جنود إسرائيليين كانوا يقومون بأعمال الدورية على الجانب الإسرائيلي من الحدود مع لبنان. وفي أعقاب هذه العملية شنت إسرائيل بواسطة سلاحها الجوي هجوما واسعا على أهداف إستراتيجية لمنظمة "حزب الله" في عمق الأراضي اللبنانية، فرد "حزب الله" بقصف صاروخي مكثف للمدن والبلدات الإسرائيلية، ما أدى إلى اندلاع مواجهة عسكرية واسعة استمرت 33 يوماً، استخدمت المنظمة خلالها قدرات جهازها العسكري الممأسس الذي أمضت سنوات طوال في بنائه بمساعدة مباشرة من إيران (وكذلك ساهمت سورية أيضا بشكل كبير في تعاظمه خلال السنوات الأخيرة). فقد تولت إيران تدريب مقاتلي "حزب الله" وقامت بتسليحهم وتجهيزهم بمستوى مماثل لمستوى جيش نظامي. خلال حرب لبنان الثانية اتبع التنظيم العسكري لـ "حزب الله" أساليب حرب العصابات في عملياته ضد الجنود الإسرائيليين، وشن عمليات قصف مكثفة بالصواريخ على المدن والبلدات الإسرائيلية انطلاقا من مناطق مأهولة بالسكان اللبنانيين. كانت يد "حزب الله" طليقة في تنفيذ عمليات إطلاق الصواريخ باتجاه مدن إسرائيل نظرا لأن الدولة التي عمل من داخلها هي دولة ضعيفة، لا تملك قدرة فعالة على فرض سيادتها وممارسة أي تأثير على استخدام الوسائل العسكرية الموجودة في حوزة منظمة "حزب الله" أو على القرارات التي تتخذها المنظمة في هذا الشأن. من جهتها امتنعت إسرائيل من معاقبة لبنان كدولة جرى شن العدوان ضد إسرائيل من أراضيها، ولم تقم أيضاً بتوجيه ضربة قاسية للبنى التحتية في لبنان كوسيلة ضغط على منظمة "حزب الله" كي توقف إطلاق نيرانها وصواريخها. وقد تصرفت إسرائيل على هذا النحو استجابة أيضا لطلب حلفائها وأصدقائها الذين توجد لهم مصالح في لبنان وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا اللتين ناشدتا إسرائيل تجنب المس بحكومة عربية معتدلة وتُعدّ شريكا ممكنا في عملية سياسية قد تتم مستقبلا بين الدولتين.

وقد استغل حزب الله- كجزء من إستراتيجية عمله- ما لحق بلبنان من دمار وإصابات في صفوف المدنيين، في أعقاب رد إسرائيل على القصف الذي تعرضت له مدنها الشمالية انطلاقا من أماكن سكن هؤلاء المدنيين أو من مواقع قريبة جداً منها، وذلك بهدف المس بشرعية ما تقوم به إسرائيل من أعمال عسكرية ووصمها كدولة عدوانية وغير أخلاقية، مما أدى إلى صرف الأنظار عن الظروف والأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب. وقد قدمت إسرائيل بسلوكها المتردد وامتناع قادتها من اتخاذ قرار واضح بشن عملية برية واسعة مساعدة لـ "حزب الله" في بناء خدعة انتصاره في الحرب. فباستطالة أيام الحرب من دون خوض مواجهة حقيقية ضد الجزء الأكبر من القوة العسكرية لحزب الله وضد خلايا إطلاق الصواريخ التابعة له، سمحت إسرائيل لمقاتلي الحزب بمواصلة إطلاق هذه الصواريخ، مما ساهم في تمكين المتحدثين باسمه فيما بعد من توطيد الإدعاء حول ما وصفوه بـ " النصر الإلهي".

هل يمكن القضاء

على "حزب الله"؟

 

تعمل منظمة "حزب الله" في لبنان منذ 27 عاماً نجحت خلالها في بناء وتطوير شبكة تنظيمية اجتماعية واقتصادية متشعبة وقوية ممثلة في البرلمان والحكومة اللبنانيين وتحظى بتأييد جماهيري واسع في صفوف الطائفة الشيعية التي تعد أكبر الطوائف في لبنان. وعليه فإن إمكانية تقويض هذه المنظمة أو القضاء على قوتها العسكرية بواسطة عمل عسكري تبدو غير واردة وغير منطقية بتاتا.

من هنا فإن أكثر ما كان في إمكان إسرائيل عمله، في ظل الكوابح والقيود الزمنية التي عملت بها (أثناء حرب لبنان الثانية)، هو توجيه ضربات أشد إلى بنية المنظمة وقادتها بحيث يغدو من الصعب أكثر عليهم الإدعاء بالنصر، هذا الإدعاء الذي لاقى قبولا في صفوف مؤيدي وأنصار "حزب الله" بل ولدى كثيرين آخرين ممن توقعوا إنجازاً إسرائيليا يفوق بكثير الانجاز الذي تحقق.

بديهي أن الدعم المكثف- بالمال والسلاح والمعدات- الذي قدمته وتقدمه كل من إيران وسورية إلى حزب الله، ساعد في إعادة بناء القوة العسكرية لهذه المنظمة بعد الضربة التي تلقتها أثناء الحرب، ولعل هذه الحقيقة في حد ذاتها (أي مساعدة إيران وسورية لحزب الله) تشير بوضوح إلى صعوبة القضاء على منظمة إرهاب عسكرية تتبع حرب العصابات من طراز "حزب الله" في الظروف التي تعمل فيها وفي الظروف التي تحيط بعمل خصومها.

"حماس" وعملية

"الرصاص المصبوب"...

 

شنت إسرائيل عملية " الرصاص المصبوب" ضد حركة "حماس" في قطاع غزة (وكذلك ضد باقي المنظمات التي مارست "الإرهاب" ضد جنوب إسرائيل) بعدما قامت "حماس" في الأسابيع السابقة للعملية بتصعيد إطلاق الصواريخ.

هذا الوضع كان قائما أيضاً طوال السنوات السبع السابقة للعملية، حيث أطلقت خلالها باتجاه مدن ومستوطنات جنوبي إسرائيل قذائف هاون وصواريخ من مختلف الأنواع. وقد استعدت إسرائيل للعملية ("الرصاص المصبوب") بصورة شاملة ودقيقة وعلى مدى فترة طويلة، واختارت التوقيت من دون أن تدفع إلى ذلك تحت ضغط حدث أو هجوم أوقع عدداً كبيرا من الإصابات، كما حدث في لبنان في صيف 2006. ولذلك فقد نجحت في إدارة معركة مدروسة ومركزة ضد منظمة الإرهاب وحرب العصابات العسكرية التي بنتها حركة "حماس" بمساعدة دائمة من إيران. وعلى الرغم من الفوارق الكثيرة بين الحربين والمنظمتين، إلا أنه كان هناك قاسم مشترك بينهما. وقد عملت "حماس" بناء على نفس المنطق الذي عمل بموجبه "حزب الله"، أي استخدام وحداته العسكرية التي درب وأعد الكثيرون من عناصرها في إيران، كذلك فقد عملت هذه الوحدات بطريقة منظمة من القيادة والتحكم. وقد قاتلت وحدات "حماس" العسكرية ضد القوات الإسرائيلية بكل ما أوتيت من قوة، وحاولت في شكل أساس العمل بالطريقة التقليدية لحرب العصابات، حيث شنت هجمات على نمط "أضرب وأهرب" واستخدمت نيران القنص ضد الجنود الإسرائيليين وقصفت تجمعاتهم بواسطة قذائف الهاون وقامت بمحاولة لاختطاف جنود في أثناء القتال إدراكا منها للضرر المعنوي والعملي الذي سيلحق بإسرائيل وجنودها نتيجة لهذه المحاولات. كذلك كان المنطق الذي وجه إطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية (في أثناء الحرب على غزة) هو الإرهاب، أي محاولة إيقاع أقصى ما يمكن من خسائر بشرية ومادية- بصورة عشوائية- في المدن الإسرائيلية وتشويش روتين الحياة اليومية للإسرائيليين والمس بمعنوياتهم. وعلى الرغم من استمرار هذه المحاولات من جانب عناصر "حماس" طوال أيام العملية العسكرية الإسرائيلية (22 يوماً)، إلا أن نجاحاتها كانت محدودة نسبيا على هذا الصعيد، ويعود الفضل في ذلك بالأساس لإعداد وتهيئة الجيش الإسرائيلي لهذا النوع من الحرب، والذي وجد تعبيرا له في تجسيد التفوق الجوي والكثافة النارية ضد مصادر إطلاق النار على الجنود الإسرائيليين في ميدان القتال وعلى التجمعات السكانية في جنوب إسرائيل إضافة إلى الإعداد السليم للجبهة الداخلية. من جهة أخرى، وبالرغم عن النجاح النسبي في الحد من الأضرار التي تسببت بها حركة "حماس"، فقد امتنعت إسرائيل من الدخول إلى قلب مدينة غزة بغية توجيه ضربة أشد إلى بنية وقيادات الحركة. عدا عن ذلك، لم تنجح إسرائيل في إيقاف إطلاق الصواريخ كليا على مدنها وإنما تقليص إطلاقها فقط. ولهذا السبب أبقت إسرائيل في يد "حماس" إمكانية الإدعاء بالانتصار عليها، والذي تلقفته بثقة آذان أنصار ومؤيدي الحركة على الأقل. كذلك عمت لدى أوساط واسعة من الجمهور الإسرائيلي أجواء مؤداها أن إسرائيل أخفقت في اغتنام الفرصة (فرصة الحرب على غزة) وقد نبع ذلك من الشعور بأنه كان في إمكان الجيش الإسرائيلي إحراز حسم عسكري أكثر وضوحاً وأن يجسد الأمل بإمكانية الوقف التام لإطلاق الصواريخ على مدن إسرائيل. وكما هو معروف، فإن إطلاق صواريخ القسام وغراد- وإن كان قد خف بمرور الوقت- لم يتوقف كليا حتى بعد انتهاء عملية "الرصاص المصبوب"، وعلى ما يبدو فإن ذلك لن يتحقق سوى بتسوية للأمر بين إسرائيل وحركة "حماس" عبر وساطة مصرية، ولو لفترة محدودة من "تهدئة" مجددة.

خلاصة لا تبعث

على التفاؤل

 

تلخيصا لما ذكر، يمكن القول إن إسرائيل طالما استمرت بالعمل في إطار القيود التي تفرضها قوانينها وقيمها، وطالما ظلت تراعي القواعد والمعايير المتبعة في العالم الغربي (مثل الدول الديمقراطية الأخرى التي تواجه أعداء من هذا النوع) فسوف تواجه صعوبة في تحقيق حسم واضح وقاطع ضد منظمات إرهاب وحرب عصابات عسكرية من طراز "حزب الله" وحركة "حماس" لا سيما وأن هذه المنظمات المتعددة الأجهزة متغلغلة عميقا داخل الحيز المدني- الحضري للمجمعات التي تعمل بين ظهرانيها.

ونظرا لأن قتالا من هذا النوع يشبه بدرجة كبيرة القتال في حرب تقليدية اعتيادية، والذي نقلته منظمات الإرهاب وحرب العصابات العسكرية إلى قلب الحيز المدني، من دون أي قيود أو كوابح، فإنه لا يتيح لدولة ديمقراطية أن تتبع ضد هذه المنظمات- لفترة طويلة وفي أوضاع وظروف متغيرة تنشأ أثناء القتال- إستراتيجيا "الجراحة الموضعية" المفضلة غالبا في القتال ضد منظمات حرب عصابات صغيرة. وغياب الكوابح في عمل هذه المنظمات واستعدادها لاستغلال الإصابات في صفوف المدنيين لدى الجانبين لصالحها، يساعدها في الإدعاء، بعد انتهاء هذه المواجهات العسكرية، بتحقيق انتصار، حتى في الحالات التي يكون من الواضح فيها من ناحية عسكرية أن هذه المنظمات تلقت ضربات قاسية لا تتناسب مع الضرر والخسائر التي ألحقتها بالخصم. وتحظى هاتان الحركتان (حزب الله وحماس) بدعم مدني يستند إلى قاعدة رحبة، كما توجد تحت تصرفهما مساعدات دول راعية تهتم بإعدادهما وتسليحهما لخوض المعارك والحروب العسكرية، إضافة إلى تمويل إعادة بناء قوتهما بعد انتهاء القتال، وبذلك تحول دون هزيمتهما التامة. لذلك، وفيما عدا تطوير إستراتيجيا وأساليب قتال ناجعة تتلاءم مع طابع القتال وطبيعة "الإرهاب وحرب العصابات العسكريين" فإن إسرائيل تواجه تحديا سياسيا وإعلاميا من الدرجة الأولى. إذ يتعين عليها أن تستعد مسبقا، قبل اندلاع القتال، لخوض حملة إعلامية دعائية توجه إلى قادة الدول والرأي العام العالمي وتبين التعقيد الماثل في طراز الحرب الجديدة التي تواجهها، وما الذي يجب عمله إزاء أعداء من هذا النوع، وما هي الأثمان التي يمكن أن يتكبدها مواطنو الدول التي تستضيف منظمات إرهاب وحرب عصابات عسكرية.

وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة التي وجهت للأعمال التي قامت بها إسرائيل في أثناء الحربين الأخيرتين (لبنان 2006 وغزة 2009) من قبل الرأي العام العالمي، إلا أنه يمكن القول إن إسرائيل انتهجت، كسياسة، أقصى درجات الحذر الممكنة في استخدام القوة، ضمن ظروف القتال في الحربين، حيال السكان المدنيين، من دون أن تتخلى بشكل تام عن قواعد ضبط النفس المتوقعة من دولة ديمقراطية في هذا النوع من القتال.

إن من يعتقد أن في الإمكان خوض حرب ضد منظمات إرهاب عسكرية، تعمل بغطاء بيئة مدنية في دول فاشلة، من خلال إستراتيجيا "جراحة موضعية" فقط، ومن دون المس بالمدنيين، يوهم نفسه. في المقابل فإن من يتوقع أن تتمكن دولة ديمقراطية من هزيمة منظمات إرهاب وحرب عصابات عسكرية هزيمة تامة وجلية، قد يجد نفسه محبطا حين يتضح أن دعم الدول الراعية لهذه المنظمات، ودعم أجهزتها المدنية، سيمكنها من إعادة بناء قوتها وترميم قدرتها على العودة لاستئناف نشاطها الإرهابي والعسكري، وربما تجديد كامل قواها العسكرية.

 

_________________

 

(*) يورام شفايتسر- خبير في "شؤون الإرهاب" وباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. ترجمة خاصة.