تقرير "مركز طاوب": تآكل أجور المستخدمين الأكاديميين وارتفاع غلاء المعيشة يبعدان العائلات الشابة عن الطبقة الوسطى

ابحاث ودراسات

بقلم: د. هنيدة غانم (*)

 شهدت الساحة الفلسطينية في إسرائيل خاصة والساحة الإسرائيلية عامة خلال الشهرين المنصرمين عقد مجموعة من الندوات والمؤتمرات التي رافقتها نقاشات حامية في الذكرى العاشرة الأولى لأحداث (هبة) أكتوبر 2000 التي راح ضحيتها 13 فلسطينيا وتسببت بإصابة العشرات واعتقال المئات. ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مؤتمر مركز عدالة ومؤتمر المركز العربي- اليهودي للأبحاث في جامعة تل أبيب وندوة في مسجاف بمشاركة رئيس مجلسها الإقليمي ورئيس بلدية سخنين.

 

وفيما عمد الإسرائيليون إلى التساؤل حول إمكانيات اندلاع انتفاضة جديدة والسبل الكفيلة بمنع تكرار ما حدث، فإن الفلسطينيين انشغلوا بحكم كونهم الضحايا في استعراض أوضاعهم والتأكيد على أن الواقع الذي أدى إلى اندلاع أحداث 2000 لم يتغير، بل إنه زاد سوءا، ناهيك بالطبع عن أن الدولة لم تقدم أية لائحة اتهام بحق أحد ممن ثبت تورطهم في أعمال القتل غير المبررة (للحقيقة وللسخرية- كما أشارت المحامية أورنا كوهين- فإن لائحتي اتهام قدمتا بالفعل وبالذات ضد اثنين من أهالي الشهداء وانتهتا بإدانتهما!)

كان ملفتا للانتباه من بين الندوات والمؤتمرات التي عقدت في الجانب الفلسطيني عنوان مؤتمر عدالة بالذات والذي كان "الذاكرة الجماعية" وقد طلب مني المشاركة فيه. وهدف المؤتمر كما أعلن منظموه هو الحفاظ على ذاكرة الأحداث حية، خاصة لدى الجيل الشاب الذي كان عشية الأحداث أو في أثنائها طفلاً وصار اليوم على أبواب الجامعات أو في مراحل تعليمية متقدمة أكثر. هذا الجيل لم يعش الأحداث ولكنه يعرف عنها بالتأكيد من خلال ما يصله من أبناء مجتمعه أو من خلال الإعلام، ولكنه أيضا يشكل تصوره عن الأحداث من خلال الصورة التي تعرض أمامه، ومن خلال لغة الوسيط (أيًا كان) الذي يعمل على إيصالها.

لكن ما الذي يعنيه الحديث عن ضرورة الحفاظ على ذاكرة جماعية لحدث ما زال صداه قويا وشكل موضوعا دائما للحديث السياسي فضلاً عن أن صوره ما زالت حاضرة أمامنا، واقصد بالذات الجيل الذي عايش الحدث؟.

يشير بعض المنظرين إلى أن السعي نحو التذكر يحمل في طياته أيضا قلقًا من النسيان، ولا يقصد هنا نسيان تفاصيل الحدث "الكمي"، إذ إن الأحداث الكبرى لا يتم نسيان تفاصيلها بسهولة، ناهيك عن أن الشعوب تعمد إلى كتابة تاريخها الوطني دائما حتى لو كانت تحت سلطة غريبة، إذ تعمد في هذه الحالات إلى التسجيل الشفهي مثلا، وهي تسجل في كتب التاريخ مثلا تاريخ عدد شهدائها وتنوعهم الديني والجغرافي وكيفية سقوطهم وساعتها، ويعني هذا عمليا أن لا خوف من نسيان "التفاصيل"، ونشير هنا إلى الدور الحاسم الذي يلعبه الإعلام والانترنت والفضائيات في حفظ الأحداث (أو تشويهها في أحيان أخرى). إن الخوف إذن يتعلق إلى حد بعيد بالقلق من عدم النجاح في إيصال المشاعر التي رافقت الحدث أو في إيصال حميمية اللحظة وزخمها ومعناها، ما يعني إحالتها لاحقا إلى موضوع لنقاش المؤرخين والمحللين الاجتماعيين والسياسيين الذين سيحاول كل واحد منهم "إعطاء المعنى" المناسب للحدث: هل كان مفصليا أم لا؟ هل شكل تعبيرا عن غضب على واقع اجتماعي أم عن نزعة قومية؟ هل سيتكرر ما حدث إن حسنا وضع العرب أم لا؟.. وما إلى ذلك من الأسئلة التحليلية التي ترتبط بشكل واع أو غير واع بأيديولوجيات سياسية مختلفة ومتضاربة.

إن الحديث عن "الحاجة إلى الحفاظ على الذاكرة" يعني أن الذي يُخشى إذن هو عدم النجاح في إيصال حميمية اللحظة الجماعية وبالذات الأداء السياسي في مكان الحدث للجماعة، وهو أمر مختلف وأحيانا مناقض للتصريح السياسي للقادة، لأنه لا يرتبك ولا يوارى بل يؤدى من خلال الفعل لا اللغة "السياسية". فقد كشفت أحداث أكتوبر حدود المناورة السياسية التي يستطيع العربي في إسرائيل العمل فيها في إطار الدولة التي تأسس التمييز بين مواطنيها على أساس مواطن مرغوب (يهودي) ومواطن مارق (عربي). خلالها وبعدها لم يعد النقاش حول إمكانية التوليف بين دولة يهودية تكون أيضا ديمقراطية مجرد نقاش نظري وإنشائي يتنافس فيه المثقف الفلسطيني والمثقف الليبرالي اليهودي الإسرائيلي على تفسير معنى الدولة اليهودية والديمقراطية وأهميتها وشروطها والأهم طبعا قدرتها على المساواة بين العرب واليهود، إذ أعطى استشهاد 13 فلسطينيا مواطنا إجابة عملية أو بالأحرى كان الأداء العملي والتنفيذي لفكرة سياسية تميز بين مواطنيها ليس على أساس ميزانيات بل على أساس الحسم من هو حقا الصديق ومن هو العدو. ولو تخيلنا أن فكرة الدولة اليهودية الديمقراطية هي سيناريو لفيلم أو لمسرحية وأن ما حملته سنوات التسعين من نقاش حامي الوطيس بين المثقفين والساسة الليبراليين المنتصرين لفكرة معادلة الدولة اليهودية والديمقراطية من أمثال روت غابيزون وأليكس يعقوبسون وأمنون روبشتاين على سبيل المثال لا الحصر من جهة، وبين قيادات فكرية أخرى معارضة بالذات من مثقفي ونشطاء المجتمع المدني الفلسطيني في إسرائيل من جهة أخرى، لو تخيلنا أن كل هذا كان نقاشا وعصفا ذهنيا حول السيناريو فإن ما حدث في 2000 كان الممارسة التنفيذية للفكرة، أو بالأحرى لحظة الحقيقة التي تم فيها إخلاء المسرح من جمهور المعلقين والمتنافسين وإفساح المجال لتطبيق فكرة الدولة "اليهودية والديمقراطية"، وسيتضح أن هناك لاعبين مركزيين على المسرح تم صياغتهما من منظور استعماري قومي فيه الأنا مقابل الآخر، وأن الاشتباك بينها لا بد من أن يكون على هذا الأساس وأن المصالحة بينهما ستكون أيضا على هذا الأساس، وهي على أية حال فكرة ليست سيئة إذا ما تمت على أساس الندية والمساواة.

مجموعة من التساؤلات

 

بعد هذه الملاحظات العابرة وبعد مرور عقد على الأحداث لا بد من الإجابة عن مجموعة من التساؤلات التي ترتبط بالحفاظ على ذاكرة 2000 وتحيل إلى حد بعيد لما يريده الفلسطيني في المستقبل.

وبادئ ذي بدء، ما الذي حدث أصلا في أكتوبر 2000، بالطبع ليس من حيث أن الدولة قتلت وقمعت بل هل ما حدث هو هبة كما تسمى حينا أم هي أحداث كما تسمى أحيانا أم أن الذي حدث كان انتفاضة؟ إن كثرة التسميات تدل على أننا أمام شيء يورط حتى في تسميته، لأن تسميته تتطلب موقفا من الذي حدث يتعدى تكرار تفاصيله. أم أن الورطة هي الإصرار على العودة إلى الاشتباك في نقاشات المعلقين والجماهير المشجعة لفكرة الدولة اليهودية والديمقراطية ومعارضتهم؟ هل هذا الارتباك في التسمية هو جزء من عدم القدرة أو ربما عدم الرغبة في الحسم السياسي.

لو أن ما حدث هو هبة كما يقول الكثيرون فإن ما صار كان بالفعل نزوة انفعال وغضب على واقع معين تماما مثلما كانت هبة المهمشين الأفارقة في أحياء مرسيليا الفقيرة، وهي أزمة من الممكن حلها من خلال سياسة الجزرة والعصا مثلما طرح ساركوزي.

هل ما صار كان أحداث أكتوبر أو أحداث ألـ 2000؟ إن كانت كذلك فهي لا تختلف كثيرا عن الذي حدث مع اليهود الشرقيين الذين ثاروا ضد أوضاعهم في أحداث وادي صليب.

ويبقى أن نتساءل هل كان ما صار انتفاضة؟ وهنا الورطة الحقيقية لأنها تعني موضعة رام الله وغزة والناصرة في جبهة واحدة ضد شيء ما، بمعنى آخر القول إن نموذج المواطنة للعربي في الدولة اليهودية انهار وأن الضرورة تقتضي البحث عن بديل من نوع آخر.

ولو أردت أن ألخص على أساس ما توصلت إليه من نتائج، على الأقل في البحث حول المثقفين الفلسطينيين في إسرائيل وبناء الهوية منذ 1948 حتى 2000، أقول إنه ما بين النكبة والنكسة كان الفلسطينيون في إسرائيل يتعاملون مع إسرائيل كدولة عابرة مثل سحابة صيف وآمنوا بكل جدية أنها ستنتهي لا بد بمساعدة القوات العربية وهو ما لم يحدث بالطبع، إذ إن حرب 1967 خيبت آمالهم ونقلتهم من القناعة بنهاية الدولة إلى التفتيش عن وسائل للاندماج فيها، وقد تبنى جزء غير بسيط فكرة إمكانية الاندماج فيها كدولة يهودية وديمقراطية، ورغم ما حمله يوم الأرض من مرارة إلا إن الأمر لم يصل إلى مطالبة جماعية بتحويل الدولة إلى دولة مساواة على أساس المواطنة المدنية المشتركة بل على أساس المساواة في دولة يهودية. وقد تغيرت مجريات الأمور في التسعينيات وصعدت فكرة دولة المواطنين وكثر الحديث عن المواطنة، وبالفعل بدا في الظاهر أن إسرائيل تحاول حقا دمج العربي فيها لكنها تصر على كونها دولة يهودية. ثم جاءت انتفاضة ألـ 2000 لتؤسس لمرحلة جديدة، تنهي تماما فكرة إمكانية التوفيق بين الدولة اليهودية والديمقراطية، وتفتح مرحلة من القمع من قبل الدولة من أجل محاصرة العرب والأهم تربيتهم من جديد، وهو ما يعني تصعيد اللهجة القومية- الصهيونية والتشديد على الاعتراف بيهودية الدولة وتحويل التشكيك في إمكانية التوليف بين دولة يهودية وديمقراطية إلى تشكيك غير شرعي.

وللتلخيص أكرر القول إن الحديث عن الذاكرة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أولا الإجابة عن أسئلة سياسية بالدرجة الأولى، وهي ماذا نتذكر بالضبط؟ ما الذي حدث العام 2000؟ والأهم هل أسس هذا الشيء لمرحلة جديدة؟.

_____________________

(*) المدير العام للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار.