المحكمة العليا تبقي "أمر الساعة" القاضي بمنع توثيق التحقيقات التي يجريها الشاباك

وثائق وتقارير

 وذلك على الرغم توصية رئيس "الشاباك" السابق و"لجنة تيركل"

 بقلم: سليم سلامة

 قررت محكمة العدل العليا الإسرائيلية، يوم 6 شباط الجاري، شطب التماس يطالب بإصدار قرار يُلزم "جهاز الأمن العام" الإسرائيلي (الشاباك) بتوثيق "التحقيقات الأمنية" التي يجريها مع أشخاص (فلسطينيين، غالبا) بشبهات "أمنية"، توثيقا مصورا (فيديو)، منوهةً إلى أنها (المحكمة) "لا تعبر عن موقف، أيا كان، في هذه المسألة، بل كل ما نقوله هنا هو أنه حيال المتوقع، لم يحن الوقت بعد للنظر في ادعاءات الملتمسين، عينيا وموضوعيا".

 

وكانت أربع منظمات حقوقية هي: "عدالة ـ المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل"، و"اللجنة الشعبية ضد التعذيب في إسرائيل"، و"جمعية أطباء لحقوق الإنسان في إسرائيل" و"مركز الميزان لحقوق الإنسان"، قد تقدمت بهذا الالتماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية في العام 2010، وطالبتها فيه بإصدار قرار يلزم جهاز "الشاباك" بتوثيق التحقيقات التي يجريها مع مشتبهين بارتكاب مخالفات "أمنية" توثيقا مصورا (بالفيديو)، وذلك من خلال إصدار أمر يُلغي المادة رقم 17 في "قانون الإجراءات الجنائية - التحقيق مع مشتبه بهم"، والتي تعفي "الشاباك" من هذا الواجب.

والمادة المذكورة (17) أُدخلت إلى نص القانون الأصلي في العام 2002 بوصفها "أمر ساعة" (أي: تدبير مؤقت) ونصت على أن "واجب توثيق التحقيق مع مشتبه به، توثيقا مصورا أو صوتيا، وفقا للمادتين 7 و 11 (اللتين تلزمان الشرطة بهذا التوثيق)، لا يسري على التحقيق مع مشتبه بارتكاب مخالفة أمنية".

وقد نص القانون آنذاك على أن "أمر الساعة" يبقى ساري المفعول لمدة خمس سنوات. ولكن، في العام 2008، جرى تمديد سريان مفعولها أربع سنوات إضافية أخرى، أي حتى 4/7/2012. لكن الكنيست استبق ذلك الموعد النهائي وأقرّ، قبله بيوم واحد (في 3/7/2012)، تمديد مفعول "أمر الساعة" نفسه بثلاث سنوات أخرى - حتى 5/7/2015.

وأوردت المحكمة، في قرارها من يوم 6 الجاري، "التعهد" الذي قطعته ممثلة وزارة العدل أمام "لجنة القانون، الدستور والقضاء" التابعة للكنيست في جلستها يوم 3/7/2012، بأن "يتم النظر في ترتيبات بديلة وفي تعريف "المخالفة الأمنية" بما ينهي الحاجة إلى أمر الساعة وإلى تمديده مجددا". واستندت المحكمة على هذا فقالت: "في هذه الظروف، فيما يخضع الترتيب الحالي للفحص، وبينما لم يمض سوى نصف سنة منذ يوم التمديد الأخير، سوية مع انتخاب كنيست جديد مؤخرا، يبدو لنا أنه من الحريّ الانتظار حتى يتم تعديل القانون، في أعقاب الفحص الذي تعهدت به مندوبة الحكومة (ممثلة وزارة العدل)، وهو ما نؤمن بأنه سيتم تنفيذه فعليا، بما في ذلك مسألة توثيق التحقيقات من قبل جهاز الأمن العام".

وكانت المنظمات الأربع الملتمسة أكدت، في التماسها إلى المحكمة، أن إلزام جهاز "الشاباك" بتوثيق التحقيقات "الأمنية" التي يجريها، بالصوت والصورة، من شأنه أن يمنع استخدام وسائل وطرق تحقيق محظورة، وأن يحول دون انتزاع اعترافات بالقوة من المعتقلين، وهو ما حدث ويحدث باستمرار وبصورة "روتينية" في أقبية "الشاباك"، وشكّل موضوعا لالتماسات سابقة قُدمت إلى المحكمة العليا للمطالبة بوقفها (راجع مقالنا حول قرار المحكمة العليا يوم 6/8/2012 رفض التماسين طالبا بإلزام المستشار القانوني للحكومة بإصدار أوامره بإجراء تحقيق جنائي في الحالات التي يتم فيها تقديم شكاوى عن أعمال تعذيب أو تنكيل يقترفها محققو "الشاباك" ـ "المشهد الإسرائيلي"، العدد 288 - 28/8/2012).

من جهتها، ادعت الحكومة في ردها إلى المحكمة على الالتماس بأن تمديد "أمر الساعة" حتى العام 2015 جاء لإتاحة المجال أمام الوزارات الحكومية المعنية "من أجل تعريف ماهية "المخالفات الأمنية" التي يجدر إعفاء المحققين من توثيقها، ومن أجل فحص الترتيبات المنتهجة في دول مختلفة في العالم في التحقيقات من هذا النوع"! وهو ما تبنته هيئة المحكمة (رئيس المحكمة، آشير غرونيس، والقاضيان حنان ملتسر ونوعم سولبرغ) فامتنعت عن إصدار قرار ملزِم كما طالب الملتمسون، تاركةً الأمر، مرة أخرى، في يديّ الحكومة وجهاز "الشاباك" نفسه، يمددان "أمر الساعة" كما يشاءان.

وهذا ما أكدته المحامية عبير بكر (من "عدالة")، التي مثّلت الملتمسين، إذ قالت إن "المحكمة وقعت في فخ الوعود الكاذبة التي أطلقتها الحكومة. فالمحكمة لم تتطرق إلى حقيقة أن الدولة (الحكومة) تعود إلى تمديد مفعول هذه المادة، مرة تلو أخرى، بل منحتها الشرعية لذلك، من دون أن يبدو في الأفق أي أمل جدي بحصول تغيير جذري".

"لجنة تيركل"

واللافت في الأمر، هنا، تزامن قرار المحكمة هذا وصدوره في اليوم نفسه الذي أوصت فيه "لجنة تيركل"، التي حققت في مجزرة "أسطول الحرية" إلى قطاع غزة (أو ما يُعرف، إسرائيليا، بـ "قضية مرمرة") في 13 أيار 2010، بضرورة توثيق التحقيقات التي يجريها "الشاباك"، توثيقا مصورا وصوتيا.

فقد قدمت "لجنة تيركل"، في اليوم نفسه (6 شباط الجاري)، إلى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الجزء الثاني من تقريرها وخصصته لـ "آليات الفحص والتحقيق في إسرائيل لشكاوى وادعاءات بشأن خرق قوانين الحرب طبقا للقانون الدولي"، وذلك بعد أن كانت قدمت الجزء الأول (من التقرير) في آب 2010، وتمحور حول "قانونية الحصار البحري على قطاع غزة من منظور القانون الدولي وقانونية الإجراءات التي اعتمدت لتطبيق الحصار - الاستيلاء على أسطول السفن المتجه إلى قطاع غزة - من منظور القانون الدولي".

وقد خصصت اللجنة الجزء الثاني من تقريرها للإجابة على السؤال المركزي التالي: "هل تتناسب آليات الفحص والتحقيق في الشكاوى والادعاءات بشأن خرق قوانين الحرب، والمنتهجة في إسرائيل بوجه عام وكما تم تطبيقها في أحداث الأسطول - هل تتناسب مع واجبات دولة إسرائيل وفقا لقواعد القانون الدولي؟".

ونوهت اللجنة، في مقدمة تقريرها، إلى أنها "في كل ما يتصل بالآليات الإسرائيلية للفحص والتحقيق في الادعاءات بشأن خرق قوانين المواجهات المسلحة، لم نحصر أنفسنا في المنظومة العسكرية فحسب، بل فحصنا أيضا جميع المنظومات الأخرى (الشاباك، الشرطة، مصلحة السجون والمستوى السياسي)".

ولم تخف اللجنة مرادها من هذا التقرير، إذ أكدت ـ في مقدمته، كما على لسان رئيسها ـ أنها تطمح لأن يشكل (التقرير) "قبّة حديدية" تحمي إسرائيل في الحلبة القضائية الدولية، وخاصة حيال التوجهات السابقة واللاحقة، المحتملة، إلى المحكمة الجنائية الدولية. وقال رئيس اللجنة، قاضي المحكمة العليا السابق يعقوب تيركل، لدى تقديم التقرير إلى رئيس الحكومة، إن "اللجنة قد أقرت، في نهاية المطاف، أن آليات الفحص والتحقيق في الشكاوى والادعاءات بشأن خرق قوانين الحرب المعتمدة في دولة إسرائيل تنسجم، بوجه عام، مع واجباتها طبقا للقانون الدولي. ومع ذلك، فقد رأت اللجنة أن ثمة مجالا لإدخال تحسينات في مجالات معينة، بينما هناك مجالات أخرى تحتاج إلى إجراء تغييرات في السياسة المتبعة، ليس بسبب وقوع أخطاء في الماضي، بل بغية تحسين الآليات القائمة".

وخلصت اللجنة في ختام تقريرها إلى وضع 18 توصية، أبرزها: إن التحقيق العملياتي الذي يجريه الجيش الإسرائيلي، عادة، ومهما كان جيدا، ليس كافيا لتوفير الحماية أمام دعاوى جنائية، ولذا توصي اللجنة بأن يقيم الجيش، في كل حالة يتوفى فيها فلسطيني خارج نطاق "المواجهات العسكرية"، إطارا خاصا تناط به مهمة تقويم الحالة طبقا لقوانين الحرب وتقديم توصية إلى النائب العسكري العام بشأن إجراء تحقيق في القضية.

كما أوصت اللجنة، أيضا، بسن قانون إسرائيلي خاص يحظر "جرائم الحرب" وفقا للقانون الدولي، الذي يُلزم بإجراء تحقيق جنائي في أية حالة يشتبه بانطوائها على جريمة حرب.

وأوصت، أيضا، بالنظر في إمكانية سن قانون إسرائيلي خاص يوقع مسؤولية جنائية على المستوى السياسي جراء جرائم اقترفها جنود، في حالات استثنائية، فضلا عن إلقاء مسؤولية جنائية مباشرة على القادة العسكريين والمسؤولين المدنيين إذا لم يتخذوا الإجراءات المعقولة اللازمة لمنع تلك الجرائم أو إذا لم يعملوا على تقديم المسؤولين المباشرين عنها إلى المحاكمة، حال معرفتهم بوقوعها.

وأوصت اللجنة بتشكيل قسم خاص في شرطة التحقيقات العسكرية يكون المحققون فيه ممن يجيدون اللغة العربية. كما أوصت بنقل مسؤولية مفوض شكاوى الخاضعين للتحقيق لدى "الشاباك" إلى "وحدة التحقيق مع رجال الشرطة" (ماحاش) في وزارة العدل. وحذرت اللجنة من أن المسؤول عن فحص شكاوى الذين يجري التحقيق معهم في أقبية "الشاباك"، وهو موظف في جهاز "الشاباك" نفسه (برتبة توازي رتبة عميد في الجيش)، غير مؤهل لفحص مثل هذه الشكاوى بصورة جذرية وناجعة تؤدي إلى إجراء تحقيق جنائي وتقديم لوائح اتهام. وذكّرت اللجنة بالقرار الذي صدر في العام 2010 وقضى بفصل مسؤولية مفوض الشكاوى هذا عن جهاز "الشاباك" ونقلها إلى وزارة العدل، سعيا إلى إتاحة المجال أمام إجراء تحقيق أكثر استقلالية وبعيدا عن تضارب المصالح، لكن القرار لا يزال حبرا على ورق. "إن القصورات والنواقص التي جئنا على ذكرها تثير شكوكا خطيرة حول القدرة على إجراء تحقيق جدي وناجع في شكاوى الذين يخضعون للتحقيقات لدى الشاباك".

يذكر أن لجنة خاصة في وزارة العدل الإسرائيلية كانت قد أقرت، في العام 2007، بأن مفوض شكاوى التحقيقات في "الشاباك" لا يمتلك حدا أدنى من الخبرة في التحقيق يمكّنه من القيام بمهمته، سيما وأنه يفترض أن يجري "التحقيق" مع محققين ذوي خبرة واسعة وطويلة، ممن تقدم شكاوى ضدهم. وليس أدلّ على ذلك من حقيقة أنه من بين 700 شكوى قُدمت ضد محققي "الشاباك" منذ العام 1992، لم تؤد ولو واحدة منها، فقط، إلى إجراء تحقيق جنائي أو تقديم لائحة اتهام، كما يسجل التقرير نقلا عن ممثلي "اللجنة الشعبية ضد التعذيب في إسرائيل" الذين أدلوا بشهادات أمام اللجنة.

أما في مسألة توثيق التحقيقات التي يجريها "الشاباك"، فقد أوصت "لجنة تيركل"، كما أسلفنا، بتعزيز الرقابة على هذه التحقيقات بوسائل وطرق مختلفة، أولها ضرورة "توثيق هذه التحقيقات توثيقا كاملا، بالصوت والصورة، طبقا لقواعد يحددها المستشار القانوني للحكومة، بالتنسيق مع رئيس الشاباك". وقد اعتمدت اللجنة في توصيتها هذه، بصورة أساسية، على الشهادة التي أدلى بها أمامها رئيس جهاز "الشاباك" السابق، يوفال ديسكين، إذ أعلن أنه يؤيد "توثيق جميع التحقيقات التي تجرى لدى الشاباك بواسطة الفيديو، بغية تحسين مستوى الرقابة عليها"!

وكان ديسكين أدلى بشهادته أمام اللجنة يوم 2 نيسان 2011، قبل نحو شهر من إنهاء مهام منصبه. وتورد اللجنة في تقريرها، نقلا عن لسان ديسكين قوله: "رغم أن هذا لن يعجب الجميع، إلا أنني أعتقد بأنه من الصحيح إجراؤه"!

ويبدو أن موقف ديسكين هذا لم يكن مفاجئا لأعضاء "لجنة تيركل" وحدهم، فقط، بل ـ وربما، بالأساس ـ للعاملين في جهاز "الشاباك"، ومحققيه ورئيسه الجديد، يورام كوهين، الذين حرصوا على إيصال امتعاضهم الشديد من هذه التوصية ورفضهم القاطع لها إلى بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، متكئين على أن "القانون لا يلزمهم بذلك" وبذريعة أن معارضتهم "تنبع من دواعٍ أمنية بالغة التعقيد". وذكّر مسؤولو "الشاباك" بأن الكنيست قد أقر، مؤخرا، تمديد "أمر الساعة" الذي يعفيهم من هذا الواجب. ونقلت صحيفة "هآرتس" عن جهاز "الشاباك" تعقيبا رسميا جاء فيه: "موقفنا كان ولا يزال بأن التوثيق المصور للتحقيقات مع معتقلين بشبهات أمنية ينطوي على مخاطرة أمنية جدية، في كل ما يتصل بقدرة الشاباك على تحقيق أهدافه في مجال مقاومة الإرهاب ومنعه"!