وثائق وتقارير

 *350 حارسا يعملون لصالح شركات خاصة، لكن بتمويل حكومي، في مهمة "حراسة" البؤر الاستيطانية ومستوطنيها في قلب القدس العربية، يتجولون بين أحيائها وبيوتها، مسلحين بالمسدسات، يعتدون على المواطنين الفلسطينيين وينكّلون بهم، دونما رقيب أو حسيب* المحكمة، في أول جلسة للنظر في التماس قدمته "جمعية حقوق المواطن" حول الموضوع، تطالب الحكومة بتقديم "إجابات كافية ومقنعة"!*

 

 يتعرض المواطنون الفلسطينيون في الأحياء المختلفة من القدس العربية، منذ سنوات طويلة، إلى سلسلة من الاعتداءات والممارسات التنكيلية اليومية المختلفة التي تنفذها فرق "الحراسة" الخاصة، التي تعدّ نحو 350 "حارسا"، وتنتشر هناك بدعوى حراسة البؤر الاستيطانية في قلب مدينة القدس العربية وحولها وحراسة مستوطنيها الذين يبلغ عددهم نحو ألفيّ مستوطن.

 

وتواصل دولة إسرائيل تمويل فرق الحراسة الخاصة هذه، من دون أن تحدد مهامها وصلاحياتها بصورة واضحة وقانونية، ومن دون إخضاعها لأية رقابة، ناهيك عن أن تشغيل هذه الفرق يقع ضمن مسؤوليات وزارة البناء والإسكان وبتمويل منها، ويتم بموجب مناقصات خاصة، بالرغم عن أن هذه الوزارة لا علاقة قانونية لها، إطلاقا، بقضايا الأمن التي يُفترَض أن تكون ضمن صلاحيات ومسؤوليات وزارة "الأمن الداخلي"، بما يترتب على ذلك من ضوابط قانونية وإجرائية.

 

وحيال ما تراكم من شكاوى وإفادات عديدة قدمها مواطنون فلسطينيون عن أعمال التنكيل والاعتداء اليومية التي يتعرضون لها في القدس العربية، في أحيائها وفي داخل بيوتها، بادرت "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل" وتسعة من المواطنين الفلسطينيين المقدسيين، قبل عام ونيف (في 31/10/2011)، إلى تقديم التماس إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية بهذا الخصوص للمطالبة بإصدار أمر إلى الحكومة يُلزمها بوضع حد لتشغيل هؤلاء الحراس بواسطة وزارة البناء والإسكان وبتمويل منها.

 

"الدولة تقدم إجابات جزئية وغير مقنعة"!

 وقد عقدت المحكمة العليا يوم 12 كانون الأول الجاري جلسة النظر الأولى في هذا الالتماس وأصدرت، في ختامها، أمرا احترازيا يُلزم الحكومة الإسرائيلية بشرح أسباب ومسوغات تشغيل فرق الحراسة هذه بواسطة وزارة البناء والإسكان، لا وزارة "الأمن الداخلي". وجاء قرار المحكمة إصدار الأمر الاحترازي هذا بعد تأكيد قضاتها (رئيس المحكمة العليا، آشير غرونيس، والقاضيان نيل هندل وعوزي فوغلمان)، خلال الجلسة، أن "الإجابات التي قدمها ممثل الدولة إلى المحكمة ومفادها أن الحكومة ارتأت أن تتولى وزارة البناء والإسكان هذه المسؤولية غير كافية وغير مقنعة".

وكان الالتماس تضمن نماذج عديدة عن ممارسات الحراس الخصوصيين في الأحياء الفلسطينية في القدس العربية، والتي هي بمثابة أعمال شَرَطيّة، مثل توقيف المواطنين الفلسطينيين وإلزامهم بإبراز بطاقات هوية، على الرغم من إن هذه الممارسات تشكل خرقا فظا للصلاحيات المخولة لهؤلاء الحراس، ومع ذلك فهي تجرى من دون أية رقابة أو تنبيه من أية جهة حكومية رسمية.

 

ويتبين من محضر جلسة المحكمة أن ممثل الدولة (النيابة العامة) حاول إقناع المحكمة بأن "صلاحيات الحراس محدودة لمناطق سكن السكان اليهود فقط، بينما لا يتمتعون خارجها، في الحيز العام، سوى بصلاحيات عادية كأي مواطن عادي"، لكن القضاة ألحوا في استجوابه حول "رقعة الصلاحيات وطرق تجسيدها ميدانيا"، ولم يحصلوا إلا على "إجابات جزئية وغير مقنعة"، كما أوضح أحد القضاة، صراحة، متسائلا: "عند الحديث عن ثلاثمئة وخمسين حارسا يسيرون في دوريات وهم يحملون السلاح، فمن الواضح إن انطباع المواطن العادي في الشارع هو أن هؤلاء مخولون صلاحيات رسمية وقانونية"، فضلا عن أنهم متواجدون على مدار الساعة، سبعة أيام في الأسبوع، في داخل البيوت والأحياء، وهم مزودون بآلات تصوير ثابتة موزعة في المنطقة، ويستقلون سيارات "جيب" مصفّحة وينقلون فيها المستوطنين اليهود ويسيّرون بواسطتها دوريات، كما يتولون، أيضا، حراسة زوار المقابر في جبل الزيتون".

ومن جهتها، قالت ممثلة "جمعية حقوق المواطن"، المحامية كيرن تسفرير، خلال جلسة المحكمة، إن هؤلاء الحراس يشكلون ذراع الدولة الشرطيّة الطويلة، وأن تشغيلهم يشكل خصخصة غير قانونية لصلاحيات الشرطة، التي هي الجسم المسؤول عن المحافظة على النظام العام وعلى أمن المواطنين. وزادت أن تخصيص حراس لليهود فقط، انطلاقا من النظر إلى المواطنين الفلسطينيين بمجملهم كتهديد أمني، يعني تحلل الدولة من مسؤولياتها عن سلامة جميع المواطنين في المنطقة والحرص على مصالح مجموعة سكانية واحدة مفضلة، هي المستوطنون، مقابل المس الخطير بحقوق المواطنين الآخرين، الفلسطينيين، إلى درجة تهديد حياتهم.

 

وأوضحت تسفرير أن صلاحيات الحراس المسلحين غير مفهومة وغير واضحة، إطلاقا، للمواطنين وما إذا كانت مماثلة لصلاحيات رجال الشرطة أم تختلف عنها. وخلافا لمنظومات الرقابة التي يمكن تفعيلها على عمل رجال الشرطة، من حيث آليات الشكاوى والعقوبة المنصوص عليها في القانون، فإن مثل هذه المنظومات معدومة، أو خفية، فيما يتعلق بعمل هؤلاء الحراس، مما يبقي المواطنين المتضررين من جرائه دون عنوان يلجأون إليه. وأوردت تسفرير مثالا على ذلك مقتل المواطن سامر سرحان في بلدة سلوان برصاص أحد هؤلاء الحراس قبل أكثر من سنتين، إذ لا تزال هذه الجريمة "قيد التحقيق" لدى الشرطة ولم يتم تقديم أية لائحة اتهام ضد الحارس المتورط، حتى الآن.

 

وخلصت إلى القول: "نحن نأمل في أن تكون الإجابات الجزئية جدا التي قدمتها الدولة اليوم قد أوضحت لهيئة المحكمة مدى إشكالية وخطورة تشغيل جهاز حراسة خصوصي، بدلا من شرطة إسرائيل، بينما يلف الغموض صلاحياته وآليات مراقبة عمله. ولذا، يتعين على المحكمة وضع حد لهذه الحالة التي تقوم على أساس تعريف قانوني يعتبر عشرات آلاف المواطنين القاطنين في هذه الأحياء، رجالا ونساء وأطفالا، تهديدا أمنيا، لمجرد كونهم عربا، من جهة، وتختزل مسؤولية الدولة في حماية مجموعة سكانية واحدة فقط، هم اليهود، من جهة أخرى".


الدولة تبنت "ترتيبا شخصيا" وضعه شارون!

 

طريقة "الحراسة الخاصة" هذه بدأت في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بمبادرة فردية من أريئيل شارون، الذي أشغل منصب وزير البناء والإسكان آنذاك (بين العامين 1990 - 1992، في حكومة إسحق شامير). فقد "اشترى" الوزير شارون، آنذاك، بيتا في أحد أحياء القدس العربية واستأجر خدمات شركة خاصة لحراسة ذلك البيت، لكنه ضمن أن تتكفل الدولة بدفع التكاليف! ومنذ ذلك الحين، بقي هذا الترتيب قائما، لكن بازدياد كبير في عدد البؤر الاستيطانية ومستوطنيها المستفيدين من الحراسة وفي عدد الحراس المثبتين هناك، حتى بلغ أكثر من 350 حارسا، بلغت تكلفتهم في العام 2010 نحو 76 مليون شيكل تُدفع من الميزانية العامة للدولة (ميزانية وزارة البناء والإسكان)!

ومع تزايد وتراكم شكاوى المواطنين الفلسطينيين المقدسيين وشهاداتهم عن الاعتداءات، الجسدية والكلامية، وممارسات التنكيل المتنوعة التي يتعرضون لها، وخاصة الأطفال من بينهم، من جانب هؤلاء الحراس، توجهت "جمعية حقوق المواطن"، للمرة الأولى في شهر تشرين الأول 2010، إلى كل من رئيس الحكومة ووزير البناء والإسكان ووزير الأمن الداخلي وطابيتهم بنقل المسؤولية عن هؤلاء الحراس من وزارة البناء والإسكان إلى وزارة الأمن الداخلي.

ولفتت الجمعية، في توجهها ذاك، إلى أن "اللجنة الشعبية لتقصي موضوع الحراسة في شرقي القدس"، برئاسة الجنرال أوري أور، التي شكلها وزير البناء والإسكان في العام 2005، إسحق هيرتسوغ، كانت قد أوصت في العام 2006 بالتوقف عن توفير خدمات الحراسة بواسطة شركات خاصة ونقلها إلى أيدي الشرطة. وقد قبلت الحكومة تلك التوصية وتبنتها، في تشرين الأول 2006، لكنها سرعان ما عادت وتراجعت فاتخذت، في كانون الثاني 2007، قرارا يلغي قرارها السابق ويعيد الوضع إلى سابق عهده، وهو الوضع القائم حتى اليوم.

وكانت الجمعية أصدرت، في أيلول 2010، تقريرا خاصا بعنوان "مكان غير آمن ـ إخفاق السلطات في حماية السكان في محيط البؤر الاستيطانية في القدس الشرقية" ضمنته نماذج عديدة عن الاعتداءات وأعمال العنف والتنكيل التي يمارسها هؤلاء الحراس ضد المواطنين الفلسطينيين المقدسيين، تثبت أن "أصابع حراس المستوطنين أصبحت خفيفة على الزناد"، مما أوقع بين المواطنين العديد من الأضرار، الجسدية والنفسية والمادية، خاصة وأن هؤلاء الحراس "لا يخضعون لأية قوانين أو تعليمات رسمية كتلك التي تسري على رجال الشرطة، وهم مسلحون بمسدسات فقط، بينما يستطيع رجال الشرطة استخدام الغاز المسيل للدموع، مثلا، في حالات الضرورة. وهذا، علاوة على أن الحراس مطالَبون بحراسة وتأمين طرف واحد فقط، هو السكان اليهود، بينما يُلزم القانون رجال الشرطة بالعمل على حماية وتأمين الجميع من دون تمييز، في حالات الاحتكاك والمناوشات".

وفي هذا السياق، قالت الجمعية في الالتماس إلى المحكمة العليا إنه من البدء بتشغيل خدمات الحراسة الخاصة هذه، قبل 20عاما، ومرورا بعدد من القرارات الحكومية المتصلة بالشأن، لم تأخذ السلطات الإسرائيلية بالاعتبار، مطلقا، مصلحة المواطنين الفلسطينيين ولم تعقد توازنا بين حقوقهم وبين حقوق المستوطنين اليهود، "فالتعامل مع المواطنين الفلسطينيين، الذي يحملون جميعا بطاقات الهوية الإسرائيلية، كان ولا يزال، ينطلق من النظر إليهم باعتبارهم خطرا أمنيا، لا غير. وتتجسد هذه الحقيقة، أيضا، في أساليب تنفيذ مهمات الحراس الذين لا يتعاملون مع المواطنين الفلسطينيين بوصفهم سكانا مدنيين، بل بوصفهم منفذي عمليات عدائية محتملين"!

وزادت أن "التواجد المكثف لهؤلاء الحراس في المناطق الأكثر حساسية في القدس يؤثر على مسرى الحياة اليومية للمواطنين الفلسطينيين، بطرق عديدة ومختلفة، بما في ذلك تشكيل خطر على حياتهم وعلى أجسادهم، كما حصل في قتل المواطن سامر سرحان برصاص أحد الحراس في أيلول 2010 وإصابة فلسطينيين آخرين بجراح مختلفة من جراء إطلاق الرصاص الحي واستخدام العنف من جانب الحراس، وتقييد حريتهم في الحركة والتنقل، وانتهاك خصوصياتهم من خلال نصب آلات التصوير الموجهة، مباشرة، إلى حرماتهم الخاصة".

وأشارت الجمعية، أيضا، إلى موقف وزير البناء والإسكان في الحكومة الحالية، أريئيل أتياس (شاس)، المعارض لاستمرار تولي وزارته المسؤولية عن هؤلاء الحراس (لاعتبارات مالية تتعلق بما تتكبده ميزانية الوزارة من تكاليف تمويل!)، وهو ما أوضحه في رسالة خاصة بهذا الشأن وجهها إلى رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، معتبرا أن "الخطر المحدق بحياة البشر الذي ينطوي عليه الوضع الحالي" هو بمثابة "عنوان مكتوب على الجدار".

ويبقى السؤال، إذن: هل ستجد المحكمة العليا ما يكفي من الجرأة، القضائية، السياسية والأخلاقية، لوضع حد لحالة الانفلات "الرسمي" هذه، المستمرة منذ ما يزيد عن 20 عاما؟