شلومو ساند: "الصهاينة الجدد" اخترعوا "أرض إسرائيل" كمصطلح جيو - سياسي عصري

وثائق وتقارير

 من المقرر أن تستمع المحكمة المركزية في القدس، في الخامس من أيلول القادم، إلى الطعون بشأن العقوبة التي ستفرضها على رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، إيهود أولمرت، بعد أن كانت أدانته، في العاشر من تموز الماضي، بتهمة "خيانة الأمانة" في القضية المعروفة باسم "مركز الاستثمارات".

 

وكانت لائحة الاتهام قد قدمت قبل ثلاث سنوات، بعد تحقيقات مستفيضة ومطولة شرعت الشرطة في إجرائها في أعقاب ما أشار إليه تقرير مراقب الدولة السابق، ميخا لندنشتراوس، عن "أبعاد جنائية" في ممارسات قام بها أولمرت إبان توليه منصب وزير الصناعة والتجارة والقائم بأعمال رئيس الحكومة ثم منصب رئيس بلدية القدس، بين الأعوام 2002 و 2006. وقد تعرضت لائحة الاتهام إلى ثلاث قضايا هي المعروفة، إعلاميا، بـ: "قضية ريشون تورز"، و"قضية تالانسكي"، و"قضية مركز الاستثمارات".

لكن ما يشد الانتباه ويثير الذهول أن وسائل الإعلام، بشكل عام، وشرائح واسعة من الأوساط القضائية والسياسية في إسرائيل بدت غير آبهة بهذه الإدانة، حتى ليكاد يتولد الانطباع وكأن إدانة رئيس حكومة بارتكاب مخالفة جنائية - وهو حدث غير مسبوق في إسرائيل - وما يمكن أن يستتبع ذلك من عقوبة ستفرضها المحكمة هو "أمر تافه" لا يستأهل كثير بحث وتداول.

أما ما جرى، ولا يزال يجري، التركيز عليه والاسترسال الموسع في تداوله، بصورة لافتة، فهو الجانب الآخر من قرارات الحكم التي صدرت عن المحكمة في اليوم نفسه (12/7) بكل ما تحمله هذه من معان ودلالات وبكل ما توفره من أسلحة يتضح، الآن، أن قطاعات غير قليلة في إسرائيل كانت تنتظرها بفارغ الصبر وتتحيّنها لتحقيق غايات أبعد بكثير من شخص أولمرت وقضيته. والمقصود بـ " الجانب الآخر" هنا، بطبيعة الحال، تبرئة أولمرت قضائياً من غالبية التهم التي تضمنتها لائحة الاتهام التي قدمتها النيابة العامة للدولة ضده إلى المحكمة.

وفيما أعلنت النيابة العامة للدولة أنها تنظر في إمكانية تقديم استئناف إلى المحكمة العليا على قرار التبرئة في قضيتي "ريشون تورز" و"تالانسكي"، بعد أن تصدر المحكمة المركزية قرارها بشأن العقوبة كما ذكر، ثارت عاصفة هوجاء ضد النيابة العامة كمؤسسة، بوجه عام، وضد رئيسها، النائب العام موشي لادور، وذهب بعض المراقبين والقضائيين إلى حد اعتبارها "حربا مبيتة" ضد النيابة العامة بوصفها ذراعا سلطوية مؤتمنة على تطبيق القانون، وخاصة في مجال محاربة الفساد السلطوي.

فقد اعتبر السواد الأعظم من العاملين في حقول القضاء والسياسة والإعلام أن قرار المحكمة المركزية تبرئة أولمرت يشكل "صفعة مدوية" للنيابة العامة التي اتهموها بأنها "سعت، بصورة استحواذية، إلى تقديم لائحة اتهام ضد رئيس حكومة يخدم، ما شكّل انقلابا سياسيا تمت، من خلاله، الإطاحة بأولمرت من رئاسة الحكومة"!

وذهب أحد أبرز المحامين الجنائيين في إسرائيل، رام كاسبي (الذي شغل في الماضي مستشارا لدافيد بن غوريون، ثم مستشارا قضائيا خاصا لرئيس الحكومة إسحق شامير وكان صاحب فكرة منح العفو لرجال جهاز الأمن العام - الشاباك - الذين تورطوا في فضيحة قتل الفدائيين بعد القبض عليهم وهم على قيد الحياة، في القضية المعروفة باسم "الباص رقم 300" في نيسان 1984) إلى وصف قرار المحكمة تبرئة أولمرت بأنه يمثل "صدمة".

وبالرغم عن تشدق مهاجمي النيابة العامة بمبدأ "المساواة أمام القانون" وبأهمية الحرص على "أن يكون الجميع متساوين أمام القانون"، إلا أن ادعاءاتهم المركزية ضد نهج النيابة العامة نسفت مصداقية هذا التشدق، إذ تمحورت في محصلتها حول "ضرورة فرض قيود صارمة جدا على إمكانيات فتح تحقيقات جنائية ضد رئيس حكومة يخدم". وكان من اليسير ملاحظة أن هؤلاء إنما يعودون إلى تكرار اتهامات وجهها أولمرت نفسه ومحاموه قبل بدء المحاكمة، بل منذ بدء التحقيق الجنائي معه، ومؤداها أن "الشرطة والنيابة العامة تطاردان أولمرت" وأنه "ليس ثمة أساس قانوني لتقديم لائحة اتهام" وأن النائب العام للدولة، موشي لادور، شخصيا "يسيء استخدام صلاحيته ومنصبه من أجل الإطاحة برئيس حكومة يخدم"! ومن هذه النقطة، أصبحت الطريق - بعد صدور قرارات المحكمة - قصيرة جدا للمطالبة باستقالة لادور شخصيا (بل ذهب الصحفي أمنون دانكنر، صديق أولمرت الشخصي، إلى أبعد من هذا بكثير حينما "نصح" لادور بالانتحار!!)، وللمطالبة بتشكيل لجنة خارجية خاصة "لفحص أساليب عمل النيابة العامة" سعيا إلى تقليص قدرتها على التحرك والعمل ضد منتخبي الجمهور!

ولم يجد هؤلاء أي حرج في القول، صراحة، إن "التجربة تثبت" (!) أنه لا يجوز، ومن غير المنطقي أو الصحي، ترك القرار النهائي بشأن تقديم وزراء أو رؤساء حكومة إلى محاكمات جنائية في يدي النيابة العامة، وإنه لن يضير سلطة القانون في شيء نقل صلاحية فتح تحقيق جنائي مع منتخبي الجمهور هؤلاء، أو تقديمهم إلى المحاكمات، إلى هيئة خارجية من الخبراء، سواء من قضاة متقاعدين أو من أكاديميين مختصين في القانون الجنائي!

ولأن ضراوة هذه الحملة على النيابة العامة لم تتناسب مع مضمون قرار الحكم الذي صدر عن المحكمة، بل جاءت على نقيض منها، فقد كان من شأنها الكشف عن الأهداف الحقيقية - أو بعضها، على الأقل - التي تتوخى تحقيقها على المديين القريب والبعيد. فالمحكمة لم تبرئ أولمرت تماما ونهائيا من جميع بنود الاتهام التي نسبت إليه، بل أدانته بارتكاب مخالفة جنائية ذات وزن ومعنى ("خيانة الأمانة")، كما وجهت إليه العديد من الانتقادات الصريحة والواضحة بأن بعض مسلكياته اتسمت بخرق الأصول والأعراف الإدارية والجماهيرية، رغم عدم اكتمال شروط السلوك الجنائي فيها.

وبدا واضحا أن الغاية من هذه الحرب الضروس على النيابة العامة، على المدى البعيد هي: إضعاف النيابة العامة، وضرب هيبتها والطعن في مصداقيتها، سعيا إلى تقليص صلاحياتها وترهيبها من مغبة إجراء تحقيقات جنائية مستقبلية مع وزراء ورؤساء حكومة، ناهيك عن تقديم لوائح اتهام جنائية ضد أي منهم.

أما على المدى القريب، فإن ما تبغي هذه الحرب تحقيقه يتمثل في محاولة ردع النيابة العامة عن تقديم استئناف إلى المحكمة العليا ضد قرار التبرئة بحق أولمرت في اثنتين من القضايا المركزية، ردعها عن الطلب من المحكمة المركزية، في إطار طعون العقوبة، دمغ أولمرت بـ "وصمة عار" حتى لا تُسَدّ الطريق أمامه، ولو مؤقتا، نحو العودة إلى النشاط السياسي - الحزبي بما يفتح الباب أمامه للترشح ثانية لرئاسة الحكومة. وإذا ما تذكرنا أن أولمرت نفسه لا يزال يواجه احتمال الاتهام الجنائي في قضيتين كبيرتين أخريين، هما القضية المعروفة باسم "هولي لاند"، وقضية التعيينات السياسية، فإن هذه الحرب الشعواء على النيابة العامة تبغي دفعها إلى الحدّ من قائمة الاتهامات في هاتين القضيتين، بل ربما إلى الامتناع عن تقديمها، إطلاقا.

وهذا، فضلا عن القرار النهائي الذي يتوقع أن يصدر عن النيابة العامة، في غضون الأسابيع القادمة، بشأن مآل التحقيقات الجنائية الطويلة التي أجريت مع وزير الخارجية، أفيغدور ليبرمان، في قضايا فساد مالي. وهو ما أشار إليه نائب المستشار القضائي للحكومة، راز نزري، حين قال: "وجدنا نقاط تقاطع بين ملف أولمرت وملف ليبرمان وسنفحص موقفنا في هذا الصدد".

 

وقد بات جليا تماما أن مسألة الفساد السلطوي ومدى قدرة النيابة العامة على مكافحته، مستقبلا، هي المسألة المركزية التي تنصب عليها هذه الحرب المعلنة على النيابة العامة ورئيسها. وهو الخطر الذي حذر منه عدد من المسؤولين في النيابة العامة ومن الخبراء القانونيين المهتمين بالشأن.

وهذا ما عبرت عنه، صراحة، نائبة النائب العام في لواء المركز، المحامية عناتا سفيدور، التي قالت إن "نتائج هذه المحاكمة قد تردع السلطات المسؤولة عن تقديم لوائح اتهام جنائية ضد شخصيات جماهيرية في المستقبل". بينما عبر المفتش العام للشرطة، يوحنان دانينو، عن ثقته بأن "سلطات تطبيق القانون ستواصل قيادة حرب لا هوادة فيها ضد الفساد السلطوي في جميع مستوياته، دون مواربة أو مراءاة.... فهي القضية الأكثر أهمية بالنسبة لدولة إسرائيل".

من جهته، عبر د. دورون نفوت، المحاضر في كلية العلوم السياسية في جامعة حيفا والباحث في شؤون الفساد السلطوي في إسرائيل منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، عن قلق بالغ جدا من إسقاطات هذه القضية على النيابة العامة التي تمثل "خط الدفاع الأخير في الحرب ضد الفساد السلطوي"، مشيرا إلى "ظاهرة متفاقمة تتمثل في السعي إلى تغيير منظومة العلاقات بين المال والسلطة، بحيث تصبح الممارسات المرفوضة المبنية على علاقة المال بالسلطة، العلاقة غير السليمة بين أصحاب الرساميل ومنتخبي الجمهور، تضارب المصالح وتفضيل المقربين، هي الممارسات الطبيعية السائدة".

وعبر نفوت، أيضا، عن "الذهول إزاء العدد الضخم جدا من الأشخاص الذين يعرضون مواقف رافضة ومناوئة لأصول الإدارة الجماهيرية السليمة"، إذ أن كثيرين ممن يدعمون أولمرت ويهاجمون لادور يبتغون إضعاف وتمييع واجب حفظ الثقة والأمانة الملقى على منتخبي ومستخدمي الجمهور تجاه الجمهور الواسع. إنهم يسعون إلى تمكين منتخبي الجمهور من القيام بكل ما يحلو لهم، إلى منحهم ثقة مطلقة لا مبرر لها، وخاصة إذا ما انتبهنا إلى حقيقة أننا نتحدث عن أشخاص يتمتعون بقوة مفرطة وصلاحيات واسعة، وهو ما سيصب في خدمة أصحاب الرساميل المقربين من هؤلاء السياسيين. إنه أمر خطير للغاية".

وحذر نفوت من أنه إذا ما نجح مهاجمو النيابة العامة في مسعاهم الحالي هذا، "فسيتكرس واقع التشابك بين السلطة والمال وسنعود إلى الأيام العصيبة التي كانت فيها السلطة ورؤوس الأموال متورطة في الفساد الجنائي". وأوضح: "في الفترة التي لم تقم أجهزة حفظ القانون بواجبها كما ينبغي ولم تؤد مهامها على نحو كاف، غرقنا في سيل جارف من قضايا الفساد. فقد حصل ارتفاع جدي في حجم قضايا الفساد في بداية سنوات الألفين، بينما كانت هذه الأجهزة ضعيفة، رؤوفة، خوّافة ولا تؤدي واجبها. أما نقطة التحول فكانت في نهاية العام 2004، حينما غيّرت المؤسسات المعنية - مراقب الدولة، المستشار القانوني للحكومة والمحكمة العليا ـ من سياستها وتوجهها إزاء هذه الظواهر. لكن جميع الأشخاص الجديين الذين عملوا في تلك الفترة قد أنهوا مهام مناصبهم. وهذا ما ينذر بأننا قد نعود القهقرى إلى تلك الأيام".