سجالات واتهامات متبادلة ومصالح ذاتية في طريق تعيين الحاخامين الأكبرين لإسرائيل

وثائق وتقارير

 حول مشروع "قانون نئمان"

 بقلم: سليم سلامة (*)

 نشرت وزارة العدل الإسرائيلية، في أوائل شهر نيسان الجاري، مسودة مشروع "قانون أساس: التشريع" التي يستطيع الجمهور الواسع إبداء التعقيب وإبداء الآراء والملاحظات عليها، حتى نهاية الشهر القادم. وبعد ذلك، تقوم الوزارة بإعداد الصيغة النهائية لمشروع القانون لعرضها على اللجنة الوزارية لشؤون التشريع، ومن ثم - بعد إقرارها - على الكنيست. وتستند هذه المسودة، بشكل أساس، على التوصيات التي قدمتها لجنة خاصة بحثت هذا الموضوع في العام 2004، تولى رئاستها آنذاك المحامي يعقوب نئمان، الذي يشغل حاليا منصب وزير العدل في حكومة بنيامين نتنياهو. ولذلك، يطلق على مشروع القانون هذا اسم "قانون نئمان".

 

وكان نئمان قد تطرق إلى مشروع القانون هذا خلال نقاش جرى في الكنيست الإسرائيلي في كانون الأول الماضي، حين قال إن الكنيست "يحجم، طوال سنين، عن سن قانون أساس: التشريع. وإن كانت لدى الجمهور الواسع أية انتقادات أو ملاحظات على هذا فهي موجهة إلى السلطة التشريعية، التي هي الجسم المخول صلاحية سن قانون أساس يحدد المقاييس والحدود والمعايير: متى وفي أية ظروف يحق للكنيست، أو يتعين عليه، التدخل عندما تقرر المحكمة العليا اعتبار قانون ما غير متناسب أو غير دستوري. وأعتقد أنه قد حان الوقت للتوصل إلى توافق واسع لكي يكون واضحا تماما، ونهائيا، ماذا ينبغي أن يحصل عندما تتخذ المحكمة قرارا كهذا" (والمقصود: قرار تلغي فيه المحكمة قانونا سنّه الكنيست).

وقد ورد في معرض التسويغات والشروحات التي أرفقتها وزارة العدل بمشروع القانون أنه يأتي كـ "محاولة لوضع العلاقات بين السلطتين التشريعية (الكنيست) والقضائية (وعلى رأسها المحكمة العليا) في نصابها الصحيح وتنظيم حدودها".

لكن النقاش حول مشروع القانون يدور، في جوهره وحقيقته، حول موضوعة أساسية تحتل حيزا مركزيا وواسعا جدا في الصراعات السياسية، الاجتماعية والقانونية، الداخلية في إسرائيل منذ سنوات عديدة جدا: مدى وحدود الحماية التي تتمتع بها حقوق الإنسان بشكل عام، وحقوق الأقليات بشكل خاص، في إسرائيل أمام تشريعات قد تؤدي إلى (والأصح: تتقصّد) المس بها، تقليصها، تقييدها وتحجيمها.

 

الخلفية القانونية

 

من أجل فهم "الحاجة القانونية" إلى إعداد وسن "قانون أساس: التشريع"، التي يتحدث عنها نئمان، ينبغي أن نذكر أن الكنيست الإسرائيلي، وفي إطار التهرب المستمر (من جانبه ومن جانب المؤسسة الحاكمة بمجملها) من مهمة وضع وتشريع دستور لدولة إسرائيل (لأسباب سياسية وقومية، بالأساس، لا مجال للخوض في تفاصيلها هنا) قرر، في العام 1950، أن يعمد إلى سن "قوانين أساس"، طبقا للظروف والحاجات، بحيث تتجمع، في وقت لاحق غير محدد، في نص واحد يشكل "دستور دولة إسرائيل".

وحتى العام 1992، دأب الكنيست على سن "قوانين أساس" تعالج مسائل تتعلق بالسلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية والقضائية)، أجهزتها، أذرعها ومؤسساتها، بلغ مجموعها الكلي 12 "قانون أساس"، ليس بينها أي قانون أساس ينظم إجراءات التشريع، العلاقة التراتبية بين قوانين الأساس وبين القوانين العادية وصلاحية المحاكم في ممارسة الرقابة القضائية على القوانين.

ومع إنجاز هذه المركّبات، لم يتبق سوى فصلين اثنين ناقصين لإتمام "قوانين الأساس التي ستشكل دستورا": قانون أساس: حقوق الإنسان، وقانون أساس: التشريع، الذي يحدد وينظم البنية الهرمية في سفر القوانين الإسرائيلي، مكانة قوانين الأساس ومسألة الرقابة القضائية على أداء السلطتين الأخريين. لكن الإحجام المتعمد عن سن قانون أساس يشتمل على لائحة متكاملة لحقوق الإنسان أدى إلى تجزئة إضافية طالت، هذه المرة، قوانين الأساس في مجال حقوق الإنسان، إذ سن الكنيست، في العام 1992، "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" و"قانون أساس: حرية العمل".

وفي العام 1995، وقع الصدام الحتمي حين اتخذت المحكمة العليا، استنادا إلى قانوني الأساس: "كرامة الإنسان وحريته" و"حرية العمل"، اللذين اعتبرتهما المحكمة آنذاك "ثورة دستورية"، حُكمها القضائي المعروف باسم "حُكم بنك همزراحي" الذي أقرت فيه، للمرة الأولى، صلاحيتها هي (المحكمة العليا) في إلغاء قانون (أو بند منه) سنه الكنيست لاعتباره غير دستوري، إذا كان هذا القانون يتناقض مع نصوص أي من "قوانين الأساس"، وذلك ضمن شروط محددة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المحكمة العليا لم تمارس صلاحيتها هذه في اعتبار قوانين، أو بعض أو بنودها، غير دستورية ومن ثم إلغائها،، منذ المرة الأولى في العام 1992، سوى تسع مرات فقط، وبشكل محدود جدا، كان آخرها إلغاء "قانون طال" (الذي ينظم خدمة الحريديم في الجيش الإسرائيلي) وإلغاء بند في "قانون ضمان الدخل" (الذي يحرم من يمتلك سيارة من حقه في الحصول على "مخصصات ضمان الدخل"). وكلاهما صدرا في شهر شباط الأخير.

وفي المقابل، رفضت المحكمة العديد من الالتماسات التي قـُدمت إليها للطعن في دستورية عدد من القوانين وللمطالبة بإلغائها. وهذه القوانين في غالبيتها الساحقة تمس، بشكل حاد وسافر، بجوانب مختلفة من حقوق المواطنين الفلسطينيين، سواء في داخل إسرائيل أو في الضفة الغربية وقطاع غزة، بشكل أساس، وأبرزها بالطبع "قانون المواطنة"، الذي رفضت المحكمة العليا، للمرة الثانية، اعتباره غير دستوري وإلغاءه ، وذلك في شهر كانون الثاني الأخير.

 

فرصة ذهبية للانقضاض

وحسم المعركة

 

الحقيقة المشار إليها آنفا، والمتمثلة في أن المحكمة العليا لم تمارس صلاحيتها في إلغاء قوانين سوى مرات معدودة فقط، من جهة، وفي أنها رفضت، بشكل شبه كلي تقريبا، إلغاء قوانين تمس حقوق الفلسطينيين، من الجهة الأخرى، لم تحُل دون اندلاع الحرب الضروس التي تشنها الأحزاب اليمينية ومجموعات المستوطنين، وممثلوها في الكنيست والحكومة، على المحكمة العليا، منذ سنوات عديدة، إذ تتعرض إلى الهجوم الشرس والاتهام بأنها "يسارية" وبأن قضاتها ليسوا سوى "أداة وألعوبة بيد اليسار" ويقدمون الخدمة لأعداء إسرائيل!

وقد كان من الواضح أن المسألة ليست إلا مسألة وقت وأن هذه الأحزاب والمجموعات تتحين الفرصة الذهبية للانقضاض على المحكمة العليا، "بالوسائل القانونية والديمقراطية"(!)، سعيا منها إلى حسم هذه المعركة لصالحها، من خلال استغلال أغلبيتها السياسية، الرسمية والجماهيرية، وسيطرة ممثليها الأبرز والأشرس في الحكومة وفي الكنيست.

وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى مشروع القانون قيد البحث.

وهذا ما تبينّه قراءة فاحصة لأبرز بنوده، مقارنة بالوضع القائم حاليا، ونوجزها في ما يلي:

1. الكنيست هي السلطة التشريعية والتأسيسية وهي الجهة الوحيدة المخولة صلاحية سن القوانين في إسرائيل. الجديد الوحيد في هذا البند هو منح الكنيست، للمرة الأولى، صلاحية "مؤتمر تأسيسي" يستطيع وضع وإقرار دستور للبلاد، إلى جانب تشريع القوانين العادية وقوانين الأساس.

2. سن قانون عادي يتم بثلاث قراءات (جولات تصويت). كما هي الحال اليوم.

3. سن قانون أساس يتم بأربع قراءات، بحيث تكون الأغلبية المطلوبة في القراءات الثلاث الأولى 61 عضوا (في الكنيست)، بينما تحتاج القراءة الرابعة إلى "أغلبية خاصة" قوامها 65 عضوا. وهذا يعني زيادة قراءة رابعة في تشريع قوانين الأساس واشتراط إقرارها بأغلبية 65 عضوا.

4. من حق الحكومة، أو لجنة الدستور البرلمانية، وحدهما فقط، تقديم "مشروع قانون: أساس" إلى الكنيست. وهذا خلافا للوضع القائم اليوم والذي يمكن فيه لأي عضو كنيست أن يقدم مشروع قانون كهذا.

5. المحكمة العليا هي الجهة الوحيدة المخولة صلاحية إلغاء قانون سنّه الكنيست، إذا ما أقرت أنه يناقض أحد قوانين الأساس، وشريطة أن يتم ذلك بأغلبية من تركيبة قضائية مكونة من تسعة قضاة، على الأقل. ويشكل هذا البند، بما في ذلك الاشتراط بشأن التركيبة العددية لهيئة المحكمة عند النظر في دستورية قانون ما، تثبيتا قانونيا (دي يوري) للوضع القائم (دي فكتو) الذي خلقته المحكمة العليا نفسها منذ العام 1995، حين منحت نفسها هذه الصلاحية ومارستها تسع مرات، حتى الآن.

6. إذا اعتقدت محكمة بدرجة أدنى (محكمة صلح أو محكمة مركزية) بأن قانونا ما هو غير دستوري، فإن عليها أن تحيل المسألة إلى المحكمة العليا. هذا البند يأتي لمنع محاكم دون العليا من إلغاء قوانين، وهو ما لم يحصل سوى مرة واحدة فقط، على الرغم من توفر هذه الصلاحية، نظريا، حتى الآن.

7. منح الحصانة لجميع القوانين القائمة اليوم في إسرائيل من احتمال تقديم التماسات إلى المحكمة العليا للنظر في دستوريتها وإلغائها. ويحمل هذا البند تجديدا هاما جدا، بالنظر إلى أن مثل هذه الحصانة ممنوحة، اليوم، للقوانين التي تم سنها قبل العام 1992. فمن المعروف أن جملة من القوانين العنصرية والمعادية لحقوق الفلسطينيين، سواء مواطني إسرائيل أو المناطق الفلسطينية، قد تم سنها في الكنيست منذ العام 1992، بل في السنوات القليلة الأخيرة على وجه الخصوص.

8. على الرغم مما سبق، لا يحق للمحكمة العليا إلغاء قانون (غير دستوري) كان ساري المفعول لحظة بدء سريان مفعول قانون أساس: التشريع (مشروع القانون الحالي). ويعني هذا البند أنه في حال سن قانون الأساس هذا من قبل الكنيست، فإن جميع القوانين التي تم سنها حتى الآن، وجميع القوانين التي سوف يسنّها الكنيست خلال الفترة حتى الانتهاء من تشريع قانون الأساس هذا، ستحظى بالحصانة ولن يكون في مقدور المحكمة العليا اعتبارها غير دستورية وإلغائها.

9. من حق الكنيست وصلاحيته إعادة سن قانون أقرت المحكمة العليا إلغاءه، ويتوجب عليه الإشارة إلى أن هذا القانون يتم سنه، مجددا، على الرغم من تعارضه مع قانون أساس، وذلك بأغلبية 65 عضوا في كل واحدة من القراءات الثلاث. ويسري مفعول هذا القانون لمدة أقصاها 5 سنوات فقط، بيد أن الكنيست يستطيع تمديدها، مرارا وتكرار، لخمس سنوات إضافية أخرى في كل مرة، ودون تحديد عدد المرات التي يستطيع الكنيست تمديدها. ويشكل هذا البند، تحديدا، أهم وأخطر ما يتضمنه مشروع القانون الجديد لكونه يمنح الكنيست، للمرة الأولى، حقا يكاد يكون مطلقا (كما سنبين لاحقا) في إعادة سن أي قانون تلغيه المحكمة العليا جراء عدم دستوريته. ويعني هذا، بصورة عملية، إفراغ صلاحية المحكمة العليا إلغاء قوانين غير دستورية من أي مضمون أو فاعلية وجعلها صلاحية شكلية ليس إلا، وذلك بواسطة منح الكنيست الحق في تجاهل قرارات المحكمة العليا في هذا المجال ونزع صلاحيتها في ممارسة "الرقابة القضائية" على الكنيست، وهو ما يعني توجيه ضربة قاصمة لقدرة المحكمة العليا على حماية حقوق الإنسان والمواطن في إسرائيل في وجه طغيان الأغلبية الائتلافية، الحزبية - السياسية.

10. وعلى الرغم مما ذكر آنفا (في البند رقم 9 أعلاه)، يحق للكنيست، في الفترة الأولى بعد سن "قانون أساس: التشريع"، إعادة سن أي قانون ألغته المحكمة العليا، من جديد، حتى بأغلبية 61 عضوا في كل واحدة من القراءات الثلاث. ولا يحدد هذا البند ما هي "الفترة الأولى"، بل يكتفي بالإعلان أنها تبدأ فور الانتهاء من عملية تشريع قانون الأساس هذا وتنتهي في موعد يقرره الكنيست بأغلبية 65 عضوا وفي جلسة خاصة تعقد لهذا الغرض. ويعني هذا البند، عمليا، إلغاء الشرط السالف بشأن أغلبية الـ 65 عضوا المطلوبة في كل واحدة من القراءات الثلاث لدى إعادة سن أي قانون ألغته المحكمة. فطبقا لهذا البند، يستطيع الكنيست سن أي قانون كهذا بأغلبية الحد الأدنى العادية (61 عضو كنيست) طوال "الفترة الأولى" التي تلي بدء سريان "قانون أساس التشريع"، وهي الفترة التي لم يتم تحديدها ولا يمكن إنهاؤها إلا في جلسة خاصة يعقدها الكنيست وبأغلبية 65 عضوا من أعضائه! وإذا ما تذكرنا أن الأغلبية المطلوبة في الكنيست لتشكيل ائتلاف حكومي هي أغلبية الحد الأدنى العادية ذاتها (61 عضوا) فعندئذ يصبح من الواضح الهدف الحقيقي والجوهري من هذا النص، بل من مشروع القانون برمّته: مصادرة حق إلغاء القوانين غير الدستورية من يدي المحكمة العليا ومنح أحزاب الائتلاف الحكومي مطلق الحق في الدوس على قراراتها، وإعادة سن أي قانون ترى المحكمة أنه غير دستوري، وذلك بأغلبية الحد الأدنى!

إن الهدف الواضح من وراء مشروع القانون يكشف عن سعي محموم لدى الأحزاب اليمينية في إسرائيل إلى الإجهاز على مكانة المحكمة العليا، من جهة، ومن جهة أخرى إلى إزالة آخر ما تبقى من عوائق، رغم محدوديتها، من طريقها نحو تثبيت القوانين العنصرية والمعادية لحقوق الإنسان والمواطن، بشكل عام، وحقوق الأقلية الفلسطينية بشكل خاص، وهي القوانين التي لم تجد هذه الأحزاب أية صعوبة، سياسية أو برلمانية، تذكر (ولا نقول: لم تجد حرجا!)، في تمريرها وسنها، حتى الآن، ونحو تشريع المزيد من هذه القوانين.

وهذه الحقيقة هي ما تنبهت إليها شخصيات مختلفة في إسرائيل فحذرت من أن مشروع القانون هذا سيؤدي إلى مزيد من دوس حقوق الأقليات ومحاصرتها ومزيد من المس بحقوق الإنسان والمواطن الفردية، من خلال تصفية قدرة المحكمة العليا على التدخل في حماية هذه الحقوق والدفاع عنها، إضافة إلى قطع الطريق على أية إمكانية واقعية لصياغة ووضع دستور لدولة إسرائيل يضمن حقوق الإنسان الفرد، من جهة، ويثبت مركّب "الديمقراطية" في طابع الدولة "اليهودية الديمقراطية"، من جهة أخرى.

________________________________

(*) كاتب وحقوقي فلسطيني- المكر، الجليل. خاص.