استطلاع آخر... يؤكد تفشي الجهل في صفوف الشبان الإسرائيليين

أحزاب وحركات سياسية

* ما يميز بيرتس أنه انطلق من أحياء الفقر ووصل إلى "مجد" لم يحلم به ولم يكن على مقاسه ووصل إلى القمة بسرعة، لكنه انهار منها بشكل أسرع * لم تلدغه العناكب وحدها بل كان ضحية نهجه وتقلباته *

 

مع ظهور النتائج النهائية لانتخابات الرئيس الجديد لحزب "العمل" الإسرائيلي صباح الأربعاء، بعد غد، سيبدأ الرئيس الحالي، وزير الدفاع عمير بيرتس، مسيرة جديدة، وستكون على الأغلب نحو خط النهاية في رأس الهرم الحزبي والسلطوي، وشبه استحالة العودة المستقبلية لأي منصب قيادي من الدرجة الأولى في دائرة الحكم في إسرائيل.

فهو يترك منصبه في رئاسة الحزب، وعلى الأغلب أيضا في وزارة الدفاع، دون أن يُسجل لصالحه ولو نقطة إيجابية واحدة من منظور حزبه، وأيضا من منظور الشارع الإسرائيلي، ولهذا فإنه لن يكون من ذلك النوع من القيادات، الذين تم "خلعهم" ثم فُسح المجال أمامهم لعودة جديدة.

 

لكن من ناحية أخرى فإن عمير بيرتس يبقى تجربة فريدة من نوعها في الحلبة السياسية الإسرائيلية. فهذا الشاب اليهودي الشرقي، إبن عائلة محدودة الإمكانيات وابن أحياء الفقر الإسرائيلية، الذي عانى مع بيئته الشرقية من تمييز الأشكناز ضدهم، يظهر فجأة على الحلبة السياسية ويحطم رموزاً أشكنازية في السلطة الإسرائيلية، وخاصة عجوز السياسة الإسرائيلية، شمعون بيريس.

 

سياسي منذ سنواته الأولى

 

في شهادته أمام لجنة فحص مجريات الحرب على لبنان، "لجنة فينوغراد"، فاجأ رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، مستمعيه، ومن ثم الأوساط الإسرائيلية بعد نشر شهادته، حين تحدث بحرارة شديدة عن وزير الدفاع في حكومته، عمير بيرتس، نظرا لبرودة العلاقات بينهما.

وحين سُئل أولمرت عن سبب تعيينه لبيرتس في وزارة الدفاع "الكبيرة على مقاسات" الأخير، وبعد أن شرح أن هذا نتيجة اتفاق ائتلافي، راح يتحدث عن ذلك الشاب الشرقي الذي خرج من أحياء الفقر، واستطاع أن يثبت نفسه حين كان في مقتبل العمر، وأن يصل إلى مستويات سياسية واجتماعية عليا.

من الصعب الاقتناع بأن أولمرت، الذي "ولد" سياسيا في حركة "حيروت" اليمينية المتطرفة، يتطوع لمديح خصم له "ولد" في المعسكر الآخر، في حزب "المباي" ("العمل" لاحقا)، وكان من أوائل المنتسبين لحركة "السلام الآن"، وأولمرت أراد من حديثه هذا أن يصد بعض الضغط عنه، في مسألة قبوله لتولي بيرتس حقيبة الدفاع.

 

لكن في حقيقة الأمر فإن ما قاله أولمرت ليس بعيدا عن الواقع، لأن "الشاب" اليهودي الشرقي، ابن أحياء الفقر، عمير بيرتس، استطاع أن يخط طريقه في حزب اشكنازي متعال، وضع أسس سياسة التمييز ضد اليهود الشرقيين، واستطاع أن يصبح لاحقا زعيما لهذا الحزب.

ولد عمير بيرتس في التاسع من شهر آذار/ مارس من العام 1952، في بلدة بوجعد في المغرب، وهاجر مع عائلته إلى إسرائيل في العام 1956، ولم يتقدم بيرتس كثيراُ في التعليم العالي وقد درس في كلية تربية في النقب.

في العام 1973 شارك في حرب أكتوبر على الجبهة الشمالية أمام سورية وأصيب بقدمه، ما أدى إلى تشوه في رجله حتى اليوم.

حين كان إبن 31 عاما، أي في العام 1983، نجح في الوصول إلى رئاسة السلطة المحلية في بلدته سديروت، على رأس قائمة حزب "المعراخ" (إحدى التسميات السابقة لحزب "العمل" الحالي)، ونجح لأول مرة في خلع حزبي الليكود والمفدال اليمينيين عن رئاسة هذه البلدة، التي كانت من أبرز بلدات الفقر في إسرائيل وتسكنها أغلبية يهودية شرقية.

وكان هذا المنصب رافعة لوصوله الأول إلى البرلمان الإسرائيلي (الكنيست)، في خريف العام 1988. وسطع اسمه على الصعيد القطري في مطلع سنوات التسعين، حين بادر إلى مسيرة الاحتجاج على تفشي البطالة من الجنوب إلى الشمال، وبطول عشرات الكيلومترات، ولكن هذا لم يسعفه كثيرا، وقد بقي في مقعده البرلماني ضمن قائمة حزب "العمل" بصعوبة، وبفضل حصول الحزب على 44 مقعدا، وكان بيرتس يحتل أحد المقاعد الأخيرة.

ولم يتوقف بيرتس هنا، بل قرر أن يغزو بيت العناكب الأكبر في الحزب، قيادة اتحاد النقابات العامة، "الهستدروت"، الذي احتله حزب "العمل" منذ ظهوره وحتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وتحول عمليا إلى الساحة الخلفية للحزب، وتحولت كل مقرات الهستدروت إلى نواد للحزب.

وكان الهستدروت مصدر قوة للحزب، كونه كان يسيطر على 30% من الاقتصاد الإسرائيلي، حتى مطلع سنوات التسعين، والغالبية الساحقة من العاملين في الهستدروت والمؤسسات والشركات الاقتصادية كانت خاضعة مرغمة لحزب "العمل".

ونافس بيرتس على رئاسة الهستدروت في داخل الحزب، حاييم هابرفيلد، الذي كان يرأس الهستدروت، وهو استمرار للفئة التي سيطرت على مجريات الأمور في هذا الاتحاد النقابي، وقد خسر بيرتس المنافسة.

ولم يرض بيرتس بالنتيجة، وبشكل خاص لم يرض بها الشخص الذي وقف من خلفه، وهو الوزير في حينه حاييم رامون، لكن بيرتس لم يستطع الإقدام على خطوة "جريئة" بمفرده، وكان بحاجة إلى الأشكنازي رامون، الذي قاد انشقاقا في كتلة "العمل" في الهستدروت، وشكل قائمة منفصلة، استطاعت لأول مرة أن تخلع الحرس القديم في الهستدروت، في ربيع العام 1994.

وكان رامون زعيما لهذا الاتحاد فيما كان بيرتس الرجل الثاني في الهستدروت، وسرعان ما عاد رامون إلى حكومة شمعون بيريس، في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة إسحق رابين في خريف العام 1995، ليحتل بيرتس منصب "السكرتير العام" للهستدروت، وهو التسمية السابقة لمنصب رئيس الهستدروت.

وأقدم رامون ومن بعده بيرتس على جملة تغييرات في الهستدروت الغارق بالديون، أفقدته قوته الاقتصادية، وبالتالي تراجعت مكانته النقابية.

في الانتخابات البرلمانية في العام 1996 خاض بيرتس الانتخابات كرئيس قائمة مستقلة، ولكن ضمن قائمة حزب "العمل"، وفي العام 1999 خاض الانتخابات بقائمة مستقلة ("عام إيحاد"- شعب واحد) حصلت على مقعدين، وفي العام 2003 لم تنجح قائمته في الحصول على أكثر من ثلاثة مقاعد، وقبل أن تنتهي الولاية البرلمانية عاد بيرتس على رأس قائمته، إلى الحزب "الأم" (العمل) بمبادرة شمعون بيريس، رئيس الحزب في حينه.

إلا أن شمعون بيريس لم يكن يتخيل أن هذه الخطوة، التي عارضها كثيرون في حزب "العمل"، ستكون بداية نهايته في رئاسة الحزب. وفي الانتخابات الداخلية لرئاسة الحزب التي جرت في خريف العام 2005، تغلب عمير بيرتس بشكل مفاجئ على شمعون بيريس، وكان هذا بمثابة فتح الأبواب أمام بيريس ليهجر حزبا كان في قيادته بمستويات مختلفة على مدى خمسين عاما.

 

ارتقاء سريع وانهيار أسرع

 

 

في عودة للماضي، نرى أن فوز عمير بيرتس برئاسة حزب "العمل" لم يكن نتيجة طبيعية، بل لسلسلة عوامل، من أبرزها أنه في حينه كانت عملية انتساب واسعة النطاق لحزب "العمل" وتم الكشف فيها عن عمليات تزوير ضخمة، وكان بيرتس من أكثر المتهمين بها، لكن لأسباب غير واضحة فإن ملف التحقيق لم يكتمل ولم يتم إغلاقه.

كذلك فإن بيرتس استفاد في حينه من أمرين، وهما تجنيد الجهاز البيروقراطي في الهستدروت الذي كان يرأسه، وأيضا نظام حزب "العمل" الذي يمنح الفوز لمن حصل على أكثر من 40% في حال وجود أكثر من مرشحين اثنين لرئاسة الحزب. ولذا لم يكن مطلوبًا من بيرتس الحصول على أكثر من 40%.

هذا كله يقود إلى حقيقة أن فوز بيرتس لم يكن مقنعا لكوادر الحزب، وهنا أيضا أقدم بيرتس على عدة أخطاء مصيرية في داخل الحزب، ولم يأخذ بعين الاعتبار الحرس القديم، الذي لا يزال في الواجهة السياسية، وركض لاستحضار نجوم من خارج الحزب، مثل الصحافية شيلي يحيموفيتش، ورئيس جامعة بئر السبع، أفيشاي برافرمان، واستبعد إلى الخلف النجوم الأساسيين في الحزب، خاصة من ذوي النفوذ وأصحاب مراكز القوى في الهيئات الحزبية.

وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت بعد خمسة أشهر من توليه رئاسة الحزب، تبين أن امتزاج حزب بيرتس بحزب "العمل" لم يثمر كما كان متوقعا، بل بقي الحزب محتفظًا بنفس المقاعد التي كانت لديه في الولاية السابقة، وهذا ضوء أحمر وقف أمام بيرتس.

لكن بيرتس الذي اعتقد أن الحزب في قبضته واصل سلسلة أخطائه، وخاصة في التركيبة الوزارية لحزبه في حكومة إيهود أولمرت، حيث استبعد النجوم الذين أتى بهم إلى الحزب، مثل برافرمان، ولكن استبعد بشكل خاص الجنرالات مثل عامي أيالون وداني ياتوم.

وهذه أخطاء على مستوى الحزب. أما على المستوى الشخصي فقد ورط بيرتس نفسه بحصوله على حقيبة الدفاع، رغم الهجوم العنيف عليه في وسائل الإعلام سواء قبيل توليه المنصب أو بعد أن بدأ مهامه.

في خطاباته الأخيرة يقول بيرتس، محاولا رثاء حالته "إنه خلال توليه واجه صعوبات، حتى أكثر الخصوم لم يحلموا في وضعها أمامه"، ويقصد بذلك الحروب التي شنتها إسرائيل في العام الأخير على الشعبين اللبناني والفلسطيني، والأوضاع الأمنية وغيرها.

ولكن بيرتس هنا أيضا لم يقنع أحدا بما يقول، فقبوله بحقيبة الدفاع كان عمليا نقضا لطابعه الشخصي الذي اقترن بالقضايا الاقتصادية الاجتماعية، ونقضا لوعوده الانتخابية، خاصة بعد أن تبين أن حزبه لم يحصل على أية حقيبة ذات طابع اجتماعي.

ومنذ الأيام الأولى لتوليه مهامه في تلك الوزارة ظهر بيرتس أسيرا للجهاز العسكري ومنفذا لسياسته، فهو لم يوقف القصف المتواصل على قطاع غزة. وفي نهاية شهر حزيران/ يونيو 2006 شن حربا واسعة النطاق على قطاع غزة، بحجة أسر جندي، لم يتم إطلاق سراحه حتى اليوم، وبعد ثلاثة أسابيع شن حربا مدمرة على لبنان، أيضا بحجة أسر جنديين. وكانت هاتان الحربان بمثابة القشة التي قصمت ظهر الجمل.

ومنذ أن هدأت الحرب على لبنان في منتصف آب/ أغسطس العام الماضي 2006، يقبع بيرتس في حضيض لم يشهده من قبل أي قائد سياسي في مستوى مناصبه، كأن نقرأ في استطلاعات الرأي أن 1% فقط من الجمهور في إسرائيل يؤيدون بقاءه وزيرا للدفاع، فيما لا يرى أكثر من 3% من الإسرائيليين أنه مؤهل لتولي رئاسة الحكومة.

 

وجهة بيرتس مجهولة

 

 

حتى الآن ليس من الواضح ما هي الطريق التي سيختارها عمير بيرتس بعد أن ينهي ولايته في رئاسة الحزب، فهناك احتمالات كثيرة للمرحلة الحالية. السياق الطبيعي هو أن يستقيل أيضا من منصبه الوزاري في وزارة الدفاع، ليخلي المكان لرئيس الحزب الجديد، وفي هذه الحالة سيكون السؤال ما إذا سيبقى بيرتس وزيرا أم سيختار بنفسه أو مرغما ترك الحكومة كليا، وأن يبقى نائبا في الكنيست في انتظار قفزة جديدة، إن وجدت أصلا.

وهناك احتمال أن يبقى بيرتس لفترة محدودة في منصبه، إلى حين يتضح مصير رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، الذي أصبح مرهونا بقدر كبير بحيثيات التقرير النهائي للجنة فينوغراد، ولكن أيضا بملف الفساد، الذي تراجع الحديث عنه في الأسابيع القليلة الأخيرة وقد يظهر من جديد في أي لحظة، وهذا لأن المرشحين لرئاسة "العمل"، عامي أيالون وإيهود باراك، يتحفظان من الجلوس في حكومة يرأسها إيهود أولمرت.

ولكن هذه كلها تحركات وتوقعات للمدى القصير. أما على المدى البعيد فإن بيرتس لم يبد حتى الآن معالم تعب أو إحباط تقوده إلى خارج الحلبة السياسية، وإن فعل هذا فسيكون لفترة قصيرة.

صحيح أن التكهنات في السياسة هي أمر شائك، ولكن حقيقة وضعية عمير بيرتس لا تبقي أي مجال للشك بأنه سيكون من الصعب جدا على عمير بيرتس أن يحلم بالعودة إلى منصب قيادي من الدرجة الأولى، وهذا لعدة أسباب. بداية في حزبه، فهو لم يبق أثرا ايجابيا يجعل أعضاء الحزب يتمنون عودته، وحتى النسبة الكبيرة جدا التي حصل عليها في الجولة الأولى من الانتخابات لرئاسة الحزب، 4ر22%، حصل عليها نتيجة تحالفات ليست ذات وزن في الهيئات القيادية للحزب، وخاصة تحالفه مع الوزير العربي غالب مجادلة، الذي حصد ثلث الأصوات التي حصل عليها بيرتس. وعمليا فإن نصف أصوات بيرتس جاءت من "القطاع العربي" في الحزب، لأن هذا الحزب يجعل من منتسبي أبناء الطائفة العربية الدرزية قطاعا منفصلا عن "القطاع العربي".

كذلك فإن بيرتس لن يجد مستقبلا أيا من أعضاء القيادة البارزة في الحزب يمد له يد المساعدة للعودة، كونه لم يسجل أي إنجاز يمنحه أفضلية على آخرين في قيادة الحزب.

وحتى إن قرر بيرتس هجرة حزبه، والتوجه إلى حزب آخر، فبلغة الحلبة السياسية الإسرائيلية بيرتس هو بضاعة خاسرة ومُخسرة جداً، وهذا بسبب الحضيض الذي وصلت إليه شعبيته في الشارع الإسرائيلي.

إذا اختار بيرتس البقاء في المشهد السياسي الإسرائيلي فعلى الأغلب سيبقى مجرد سياسي آخر في الحلبة السياسية من دون أي وزن، وإذا ما قرر بيرتس العودة إلى أجندته الاقتصادية الاجتماعية، وكنجم لها، فإنه سيحتاج لسنوات "يساعد" فيها الجمهور على نسيان تجربته على مدى 20 شهرا، منذ توليه رئاسة حزب "العمل" وحتى اليوم.

 

لم يكن مقعد رئيس حزب "العمل"، خاصة في السنوات الأخيرة، مخمليا، إلى درجة الشعور بالارتياح عليه، كونه يتوسط واحدًا من أكبر بيوت العناكب التي عرفتها الخارطة السياسية الإسرائيلية، التي لم تترك لأي من رؤساء الحزب فرصة للعمل، وهذا أكبر تعبير عن أزمة القيادة في الحزب، إلا أن بيرتس قرر في يوم ما أن يقتحم بيت العناكب، وسرعان ما مني بفشل انعكس على مصيره السياسي.