هل ستضمن إسرائيل بقاءها؟

وثائق وتقارير

قرر المجلس البلدي لمدينة تل أبيب إثارة واحدة من أكثر القضايا الحساسة بين جمهوريْ العلمانيين والأصوليين اليهود، "الحريديم"، وهي مسألة المواصلات العامة في أيام السبت، التي تكون شبه محظورة في إسرائيل، بفعل ما يسمى "قدسية السبت"، وهناك استثناءات قليلة جدا ومحدودة، إذ تُشل حركة المواصلات العامة في جميع أرجاء البلاد، في الوقت الذي لا تتوقف فيه حركة السير الخاصة، ولكن هذه تبقى محصورة في من لديه سيارة.

 

 

وقد قرر المجلس البلدي لمدينة تل أبيب، كبرى المدن الإسرائيلية، في الأيام الأخيرة، توجيه طلب إلى وزارة المواصلات لتشغيل مواصلات عامة في داخل المدينة في أيام السبت، ويظهر من سلسلة التقارير التي نشرت غداة القرار في بلدية تل أبيب أنه لا يوجد قانون رسمي يحظر المواصلات العامة أيام السبت، لكن يوجد اتفاق غير مكتوب بين الحكومة والتيارات الدينية المتشددة، ومنها الأصولية، منذ العام 1948، بعدم تسيير المواصلات العامة.

 

وهناك سلسلة من القوانين الإسرائيلية التي تستند إلى "الشرائع اليهودية"، مثل قوانين الحلال والحرام في كل ما يتعلق بالأغذية والطعام، وتشغيل حوانيت بيعها والمطاعم وأكشاك الطعام وغيرها. وفي بعض الأحياء والمدن هناك حظر كلي لفتح حوانيت لا تلتزم بأوامر الحلال، وحيث يُسمح بفتح حوانيت ومطاعم كهذه فإن هذه المحال تكون قد قررت الاستغناء عن جمهور المتدينين أو المحافظين.

 

كذلك هناك أيضا قوانين الزواج، إذ يحظر القانون الإسرائيلي إبرام عقود زواج مدنية خارج المؤسسات الدينية، اليهودية وغيرها (إسلامية ومسيحية)، ولكن القانون يعترف بعقود زواج مدنية أبرمت في الخارج.

 

أما بالنسبة للمواصلات العامة، وكما ذكر هنا، فإن حظرها أيام السبت قائم بموجب أنظمة أقرتها الشركات الحكومية التي تشغل الحافلات والقطارات والطائرات، منذ 64 عاما، ولا يوجد قانون عيني يحظر كليا تشغيلها، ولكن حظرها يُعتبر اتفاقا غير مكتوب بين الحكومة والتيارات الدينية، كذلك فإن هذا الحظر يستند إلى قانون منع العمل أيام السبت، وهو يسري على اليهود في إسرائيل، مع استثناءات محدودة.

 

وأمام هذا الحظر، تنتعش مواصلات "السوق السوداء"، إن صح التعبير، إذ أن هناك سيارات تاكسي بين المدن تعمل كخطوط أيام السبت، ولكن أجرتها تكون مضاعفة، وفي أماكن معينة تصل الكلفة إلى ثلاثة أضعاف سعرها في اليوم العادي.

 

كما أن الشوارع والطرقات مفتوحة بشكل عام في جميع المدن والبلدات اليهودية، باستثناء شوارع قليلة جدا في المدن الكبرى، إما أنها تمر في حي كله من الأصوليين، أو يقع فيه الكنيس الأكبر في تلك البلدة، ويمكن مشاهدة حظر كلي للمواصلات، حتى الخاصة، في مستوطنات يسكنها الأصوليون فقط، مثل موديعين عيليت وبيتار عيليت وإلعاد، وبعض أحياء القدس الغربية، ومدينة بني براك.

 

وهذا من المواضيع الساخنة الدائمة بين العلمانيين والمتدينين، ولهيب هذه القضية يعلو وينخفض بحسب الأجواء، فقبل ثمانية أشهر جرت محاولة في الكنيست من كتلة ميرتس العلمانية لسن قانون يلزم شركات المواصلات العامة بتشغيل هذه المواصلات أيام السبت، إلا أن القانون سقط بمعارضة نواب من الائتلاف والمعارضة على حد سواء.

 

ولأن بلدية تل أبيب تعرف مسبقا أن وزارة المواصلات، خاصة في ظل حكومة يمينية متشددة تستند إلى المتدينين والأصوليين، سترفض هذا الطلب، فإنها قررت أنه في حال رفض الوزارة الطلب، فإن البلدية ستشجع على إقامة شركة خاصة تابعة للبلدية لتشغيل حافلات أيام السبت، وحسب الديانة اليهودية فإن يوم السبت يبدأ من مغيب شمس يوم الجمعة إلى مغيب شمس يوم السبت.

 

وقال رئيس بلدية تل أبيب رون خولدائي: "ماذا يفعل من ليس لديه القدرة على شراء سيارة خاصة، ويريد زيارة أقاربه وأصدقائه أو أن يخرج إلى نزهة في أيام السبت؟. إن غياب شبكة مواصلات منتظمة في أيام السبت تضر بعملية تطور الدولة بشكل سليم"

 

ويدافع العلمانيون عن موقفهم في مسألة المواصلات العامة، بقولهم إنه لا توجد دولة في العالم لا تسير فيها مواصلات عامة في نحو 25% من أيام السنة، أي في أيام السبت والأعياد، وأن هذه الأنظمة هي ضربة موجهة للشرائح الفقيرة، إذ حسب معطيات بحثية يظهر أن 90% من عائلات الشرائح الميسورة والوسطى لديها سيارة عائلية واحدة على الأقل، بينما هذه النسبة تهبط إلى 20% لدى الشرائح الفقيرة، بمعنى أن الشرائح الفقيرة هي المحرومة أساسا من حق التنقل والحركة أيام السبت.

 

ويقول مسؤول في "حركة إسرائيل حرّة"، التي تخوض حملة من أجل تشغيل حركة مواصلات عامة أيام السبت: "على السياسيين أن يعلموا أننا لا نستطيع التوقف عن حراكنا، إلا بعد أن نرى حركة الحافلات تنتظم في الشوارع".

 

وفي الحال، أعلن رئيس لجنة الشؤون المالية في الكنيست، الأصولي المتشدد موشيه غفني، أنه لن يسمح بتمرير هذا الطلب، واعتبره خرقا للوضع القائم بين "الدولة والمتدينين"، وحسب القانون فإن طلبا كهذا يجب أن يحصل على مصادقة اللجنة التي يرأسها.

 

وكما يبدو فإن الأصوليين لا يشعرون بأي قلق من هذه القضية، لأن وزير المواصلات يسرائيل كاتس أعلن مع بدء توليه منصبه قبل نحو ثلاثة أعوام أنه سيعترض على أي مبادرة لتشغيل مواصلات عامة في أيام السبت.

 

ومن المتوقع أن تؤدي الشرارة التي أطلقتها مجددا بلدية تل أبيب إلى تحرّك الشارع من جديد، وبشكل خاص في تل أبيب والمدن المتشابكة بها، فهذه المنطقة تعتبر معقل العلمانيين في إسرائيل. وكان بحث أكاديمي صدر عن جامعة حيفا قبل نحو عام حذر من ازدياد لجوء الجمهور العلماني، خاصة الشبابي المتحرر كليا من القيود الدينية، إلى مدينة تل أبيب ومنطقتها، لتتحول لاحقا إلى "دولة تل أبيب" العلمانية، حسب تعبير البحث، تاركًا بقية المناطق لجمهور الأصوليين والمتدينين. كما حذر البحث ذاته من أن يصل جمهور العلمانيين بعد سنوات ليست كثيرة إلى استنتاج بعدم تحمل استمرار العيش في دولة تحكمها القوانين الدينية، ومن تل أبيب ستكون الطريق قصيرة نحو الهجرة إلى الخارج.

 

وهذه ليست المعركة الوحيدة، ففي الشهرين الأخيرين ظهرت معركتان أخريان بين جمهوري العلمانيين والمتدينين: الأولى تتعلق بفرض فصل في حافلات المواصلات العامة بين مقاعد الرجال والنساء، في الحافلات التي تسير في أحياء أو مستوطنات وبلدات فيها أغلبية متدينة، والمعركة الثانية حول مظاهر إقصاء النساء عن حيّز الحياة العامة في أحياء المتدينين، وأيضا في داخل جيش الاحتلال، من خلال فتاوى دينية يهودية متزمتة.

 

وكل هذه المعارك، التي ازدادت وتيرتها في الأشهر الأخيرة، تبدد أوهام إسرائيليين بأن المعركة على الإكراه الديني قد تلاشت واختفت، بل من المفترض أن تتصاعد بوتيرة أعلى مستقبلا، خاصة في ضوء استنتاجات البحث الجامعي السابق ذكره بأنه حتى العام 2030 سيشكل المتدينون والأصوليون اليهود 51% من نسبة السكان في إسرائيل، أي أكثر من 66% من نسبة السكان اليهود.