هل ستضمن إسرائيل بقاءها؟

وثائق وتقارير

*إسرائيل باتت معزولة أكثر من أي وقت مضى من ناحية إستراتيجية وغياب المبادرة يزيد أوضاعها سوءًا*

 ترجمة وإعداد: سعيد عياش

 تعريف

 ننقل هنا تلخيصا لوثيقة (ورقة عمل) رئيسة عرضت في مستهل أعمال مؤتمر هرتسليا السنوي الثاني عشر حول "ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي" وجاءت تحت عنوان "تقويم هرتسليا 2012: إسرائيل في عين العواصف".

 

وهذه الوثيقة، التي وضعها رئيس "معهد السياسات والإستراتيجيا" في المركز المتعدد المجالات في هرتسليا ورئيس سلسلة مؤتمرات هرتسليا، الجنرال (احتياط) داني روتشيلد، بالتعاون مع تومي شتاينر، وهو باحث رفيع المستوى في المعهد المذكور، تقدّم مسحا وتحليلا لأهم أحداث وتطورات العام المنصرم (2012)، وتقويما لمغزى وانعكاسات هذه الأحداث، وفي القلب منها ثورات "الربيع العربي" التي عصفت بعدد من الدول العربية، وذلك في سياقها الواسع، الآني والمستقبلي المتوقع، لا سيما تأثيرها وإسقاطاتها على الوضع الإسرائيلي. وتشكل "وثيقة التقويم" هذه، بحسب ما ورد في تقديمها، خلاصة للنقاشات التحضيرية لمؤتمر هرتسليا الثاني عشر، الذي عقد بين 31 كانون الثاني و2 شباط 2012، والتي شارك فيها أعضاء الطاقم البحثي في "معهد السياسات والإستراتيجيا" التابع لمركز هرتسليا المتعدد المجالات، بالإضافة إلى العديد من الخبراء والباحثين الإسرائيليين والأجانب في شتى المجالات ذات الصلة بأعمال هذا المؤتمر.

 

توطئة

شهد العالم خلال العام المنصرم سلسلة من الأحداث الدراماتيكية والسيرورات البالغة التأثير، والتي ستنتج عنها، كما يبدو، نقاط تحول إستراتيجية تغير الواقع على عتبة البيئة الإستراتيجية لإسرائيل. وتشخص أجندة مؤتمر هرتسليا (الثاني عشر) ثلاث سيرورات رئيسة مؤسسة، تقوم فيما بينها علاقات متبادلة مركبة، وهذه السيرورات، التي تصوغ الواقع الاستراتيجي لإسرائيل في الوقت الراهن، هي: الأزمة الاقتصادية العالمية؛ الهزة السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط؛ عملية التعاظم المدني على الصعيد العالمي.

فالأزمة الاقتصادية العالمية، التي من المحتمل أن تتعمق أكثر في الفترة المقبلة، تشكل عامل استحثاث للتغيير في موازين القوى الدولية، وتصوغ في الوقت ذاته سياسة القوى المتنفذة في الشرق الأوسط. وقد شرعت الولايات المتحدة بصرف اهتمامها عن الشرق الأوسط وتوجيهه نحو آسيا، بينما تنهمك أوروبا في جهد مكثف وحثيث لتفادي انهيار اقتصادي وسط غياب تام لدورها في الساحتين الدولية والإقليمية. أما القوى الجديدة في آسيا، فما زالت بعيدة عن إظهار تدخل سياسي وإستراتيجي في الشرق الأوسط.

وفيما يتعلق بالتمرد المدني في الشرق الأوسط، فإن التقديرات الإسرائيلية بشأن المخاطر الكامنة في هذا التمرد قد برهنت على صحتها. ومن جهة أخرى فإن غياب القوى التقليدية من الشرق الأوسط يؤدي إلى تفاقم انعدام الاستقرار الإقليمي، ويتيح تنامي قوة الإسلام السياسي الراديكالي ومساعي إيران للهيمنة الإقليمية. إن الهزة السياسية التي يمر بها الشرق الأوسط تضع إسرائيل أمام تحديات أمنية وسياسية مركبة، في وقت تعاني فيه من العزلة من ناحية إستراتيجية.

الأزمة الاقتصادية العالمية:

هل الأسوأ ما زال أمامنا؟

 

يبدو أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي دخلت عامها الخامس، ستشهد مزيدا من التفاقم في العام القادم. فالاقتصاد العالمي يمر اليوم في وضع من الترقب لنشوب أزمة متعددة الأبعاد والمستويات، على غرار انهيار السوق الأميركية في أيلول 2008. في ضوء ذلك يمكن تشخيص عدة سيناريوهات لهذه الأزمة المتوقعة، ومن ضمنها أزمة دين سيادية في أوروبا، على أرضية تجنيد سندات دين قومية بمستويات فائدة مرتفعة (حوالي 8%)، والتي تخلق صعوبات بالغة أمام تسديد وتغطية الديون. من هنا فإن عجز دولة أوروبية عن تسديد مديونيتها يمكن أن يدحرج كرة ثلج تلحق ضررا بالغا بالمنظومة البنكية الأوروبية، بوصفها الدائن الرئيس. ومن شأن حدث (أزمة) بهذا الحجم أن يؤدي إلى تدهور شامل في الاقتصاد العالمي باتجاه حالة ركود عميقة. فضلا عن ذلك فإن أزمة من هذا القبيل ستكون على الأرجح غير مسبوقة، ذلك لأنه لا تتوفر أدوات ووسائل ملائمة لمواجهة الأزمة. فالوسائل والإجراءات المألوفة- خفض الفائدة، وزيادة العجز وخفض العبء الضريبي- استنفدت في دورات ومراحل سابقة من الأزمة، كما أنها غير متاحة في ظروف فائدة قريبة من الصفر ومديونيات قومية ضخمة. وفي ضوء عدم توفر وسائل تقليدية، هناك إمكانية بأن يتم اللجوء إلى وسائل وتدابير متطرفة تحد من حرية الحركة والمتاجرة بسلع ورؤوس أموال، الأمر الذي من شأنه ليس فقط أن يشكل تهديداً للاقتصاد العالمي، وإنما أيضا أن يشكل تهديداً للاستقرار الإستراتيجي في المنظومة الدولية.

وفي ظل منظومة عالمية يسودها مستوى عال من التبعية المتبادلة بين اللاعبين، فإن تعمق الأزمة الاقتصادية العالمية لن يقفز على الأرجح عن الصين والهند، وعن الأسواق الناهضة. في بداية الأزمة (2008- 2009) لم تتعرض هذه الأسواق لضرر ملموس، مما ساعد في حصول انتعاش مؤقت في النظام الاقتصادي العالمي. غير أنه يمكن الآن ملاحظة مؤشرات أولية على اتجاه التباطؤ في الاقتصاد الصيني، وعلى تغيير في السياسة يمكن أن يشير إلى استعداد صيني للانتقال من نمو يعتمد على التصدير إلى نمو يعتمد على زيادة الطلب المحلي والاستهلاك الداخلي، ومثل هذه الخطوات لا تحمل بشرى جيدة للاقتصاد العالمي.

 

الانعكاسات الإستراتيجية

للأزمة الاقتصادية العالمية

 

تنطوي الأزمة الاقتصادية العالمية على انعكاسات بعيدة الأثر تتجاوز المجال الاقتصادي، فهي (الأزمة) تحث اتجاه التغيير في ميزان القوى العالمي وتصوغ الرؤية الإستراتيجية للقوى العظمى. وقد لوحظ هذا الأمر بشكل خاص لدى المتضررين الرئيسيين من الأزمة، أي الولايات المتحدة والدول الأوروبية. هذه التغييرات أثرت على تطور الأحداث والسيرورات الجارية في الشرق الأوسط، وعلى مكانة الأطراف الإقليمية ومن ضمنها إسرائيل أيضا.

صحيح أن الانحسار في القوة النسبية للولايات المتحدة لم يبدأ عقب الأزمة الاقتصادية، غير أن الأزمة والتبعية الأميركية للأرصدة الصينية في تمويل المديونية العامة المتضخمة، أديا إلى استبطان (تذويت) التغيير في ميزان القوى، وهو ما عبر عن نفسه في تفضيل إدارة باراك أوباما وميلها الواضح نحو توظيف جهد ملموس في الحوار مع الخصوم، حتى ولو على حساب حلفاء تقليديين. وقد كان هدف الإدارة الأميركية هو المحافظة على الوضع القائم الإستراتيجي وعلى الاستقرار النسبي في البؤر الإقليمية المختلفة بأقل تكلفة ممكنة من ناحيتها. غير أن مساعي الصين لزيادة تأثيرها في آسيا أوصلت الإدارة الأميركية الحالية إلى الاستنتاج بأن هناك مصالح أميركية حيوية باتت عرضة للتهديد والخطر في هذه الساحة. ومن هنا أخذت الإدارة والمؤسسة الأمنية الأميركية يوجهان اهتمامهما الإستراتيجي والسياسي نحو ساحة آسيا وحوض المحيط الهادي، ومن المقرر أن يتم في إطار التحرك الأميركي الجديد توجيه موارد اقتصادية وعسكرية وسياسية إلى هذه الساحة. وفي ظل هذه الظروف فإن الاهتمام السياسي للولايات المتحدة بمناطق أخرى في العالم، ومن ضمنها أوروبا والشرق الأوسط، سيكون محدودا جداً.

وكما هو واضح فإن أوروبا غارقة حاليا حتى أذنيها في جهد حثيث لمنع عجز دول مركزية عن الدفع وتفادي انهيار المنظومة البنكية في القارة، وسط السعي للمحافظة على مشروع الاندماج الأوروبي. وبانتظار الانتخابات التي ستجري في عدد من الدول الأوروبية الرئيسة (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) خلال العامين القريبين، من المتوقع أن يؤدي الركود الاقتصادي في أوروبا إلى ازدياد ظواهر الاحتجاج الاجتماعي وكراهية الأجانب، والتي يمكن لها أن تعزز قوة أحزاب لا تنتمي للتيار المركزي في السياسة الأوروبية. وفي الوقت الذي ما زال فيه الاتحاد الأوروبي يواجه صعوبة في إيجاد طريقه، فإن التضامن بين دول الاتحاد يشهد مزيدا من الضعف والوهن. وفي ظل هذه الظروف ستكون قدرة الاتحاد الأوروبي على لعب دور مركزي في الساحة الدولية محدودة. وقد وجد العجز السياسي لأوروبا في الأعوام الأخيرة تعبيرا جليا له في الشرق الأوسط، لا سيما في عهد الرئيس أوباما، الذي أصبح فيه دور الاتحاد الأوروبي هامشيا وغير مؤثر في الساحة الشرق أوسطية، بما في ذلك في العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين.

وخلافا لأوروبا، فإن الولايات المتحدة ظلت وستبقى القوة المتزعمة في الساحة الدولية في المستقبل المنظور. فأسس وركائز قوة الولايات المتحدة متعددة الأبعاد مقارنة مع أية قوة أخرى. مع ذلك فإن الأزمة الاقتصادية العالمية تتطلب من القوى الكبرى- القديمة والصاعدة على حد سواء - التركيز على أجندتها الداخلية، وهذه الأجندة هي التي تملي سياستها الدولية أكثر من أي وقت مضى.

على أرضية هذه المتغيرات، فإن الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها تصوغ بدرجة كبيرة أيضا الهزة السياسية التي تعصف بالعديد من دول الشرق الأوسط. لقد أدى غياب القوى الكبرى التقليدية عن ساحة الشرق الأوسط، إلى تفاقم انعدام الاستقرار الإقليمي، الذي يتيح تنامي قوة الإسلام السياسي الراديكالي وسعي إيران للهيمنة الإقليمية. وبدورها فإن الأزمة الاقتصادية العالمية تخلق صعوبة أمام رصد الموارد الملائمة لمعالجة مشاكل التخلف الاقتصادي والاجتماعي في الشرق الأوسط، والتصدي لأطماع إيران في الهيمنة الإقليمية. فضلا عن ذلك فإنه لا يمكن الإشارة إلى وجود إستراتيجية غربية واضحة وتدخل فاعل لمواجهة المشكلات الأساس في الشرق الأوسط، وتكتفي الولايات المتحدة وأوروبا بالإعراب عن الأمل بمستقبل أفضل للمنطقة، وتقيمان في الوقت ذاته حواراً مع العناصر الإسلامية الراديكالية.

شرق أوسط مختلف

 

ما زالت التقديرات الإسرائيلية بشأن المخاطر الكامنة في الهزة التي تجتاح الشرق الأوسط، تبرهن على صحتها وصوابها، فيما أخذت التقديرات الغربية المتفائلة تتبدد شيئا فشيئا. ولعل ما يثير القلق بشكل خاص هو تأثير الإسلام السياسي الراديكالي، والذي يلاحظ بشكل جلي وملموس ليس فقط في دول جرت فيها انتخابات.

ويمكن القول بدرجة من الحذر المطلوب إنه لا تتوفر ظروف تتيح حدوث تحول واستقرار سياسي- اجتماعي- اقتصادي في الدول التي جرت وتجري فيها انتخابات وانتقال أو تغيير للسلطة، ربما باستثناء المغرب. فضلا عن ذلك فإن خريطة الشرق الأوسط يمكن أن تتغير في الأعوام القليلة المقبلة، وفي هذا السياق ينبغي عدم النظر إلى الوحدة الإقليمية لعدد من الدول، بينها سورية والعراق ولبنان واليمن، كمسألة بديهية. هذه التغييرات الممكنة ستكون لها في معظم الأحوال انعكاسات إقليمية لا يستهان بها.

إن حركات الاحتجاج المدني والثورات التي قادها شبان شجعان ينشدون مستقبلا أفضل لدولهم وبلدانهم، تستحق الاحترام والتقدير. ولعل حقيقة أن النزاع العربي- الإسرائيلي لم يجد تقريبا تعبيرا له في أحداث الاحتجاج في الدول العربية- باستثناء حادث اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة- هي دليل على التحول الذي طرأ لدى الشبان المثقفين من الطبقات المتوسطة المنفتحين على الواقع العالمي. ولكن شبان الثورة، وبحكم كونهم أقلية تفتقد الخبرة السياسية، أخفقوا حتى الآن في إنجاز وتحقيق التغيير المنشود الذي جازفوا بحياتهم من أجله. لذلك فإن البديل السياسي الوحيد للحكم الاستبدادي في العالم العربي كان وما زال الحركات الإسلامية، التي تظهر في صورة حركات طاهرة اليدين، تهتم بمصلحة ورفاهية المواطنين، وخاصة الطبقات الفقيرة.

ورغم مرور عام، أو أكثر، على اندلاع الثورات والتمرد المدني في عدد من دول الشرق الأوسط، إلا أنه لم يتم حتى الآن إحراز تقدم في مواجهة التحديين الأساسيين الإقليميين وهما انعدام التطور والراديكالية؛ لا بل ويمكن القول إن تراجعا ملموسا قد طرأ في هذين المجالين. هناك ارتباط وثيق بين هذين التحديين، إذ لا يمكن القضاء على الراديكالية من دون تطور اقتصادي واجتماعي وسياسي، في حين تشكل الراديكالية نقيضا للتطور، غير أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، التي تجري حوارا مع الإخوان المسلمين وحركات إسلامية أخرى في أنحاء الشرق الأوسط، تعطي شرعية لهذه الحركات، وتحاول أن تقنع نفسها بالأساس، بأن هذه الحركات قادرة على دفع إصلاحات سلطوية تحقق الديمقراطية والرفاهية.

إن من الصعب فهم كيف يمكن لأحد أن يتوقع من حركات ثيولوجية عملت وانبثقت في كنفها شبكات إرهابية، أن تدفع التطور في العالم العربي. علاوة على ذلك فإن وصول الأحزاب الإسلامية إلى سدة الحكم سيجعلها تبذل كل ما في وسعها من أجل الحفاظ على سلطتها ومكاسبها، وتقمع بالتالي من دون هوادة أي معارضة أو احتجاجات شعبية. من هنا فإن دول الغرب، بحوارها مع حركات إسلامية في الشرق الأوسط وإعطاء الشرعية لعملها ونشاطها، تعيد المنطقة إلى الوراء وتمكن هذه الحركات من تعميق وجودها ونفوذها أيضا في صفوف الجاليات الإسلامية في الغرب.

مصر

 

تقف مصر حاليا على شفا هاوية سياسية، فصراع القوى بين السلطة العسكرية والإخوان المسلمين وشباب الثورة الليبراليين لم يحسم بعد، في حين يعاني اقتصاد مصر من أزمة عميقة. ومما لا شك فيه أن الحكومة الجديدة، التي ستتشكل بعد الانتخابات الرئاسية في مصر، ستواجه مهمة عسيرة جداً. إلى ذلك من المتوقع استمرار أحداث الاحتجاج والإخلال بالنظام العام، الأمر الذي سيزيد من صعوبة محاولة تحسين الوضع الاقتصادي لمصر، ولو بشكل محدود، وفي هذه الحالة ليس من المستبعد أن تقوم المؤسسة العسكرية المصرية- سواء بالتعاون مع الحكومة المقبلة برئاسة الإخوان المسلمين أو بدون ذلك- بفرض نظام استبدادي.

 

سورية ولبنان

 

هناك حالة من الغموض تكتنف مستقبل الجارتين الشماليتين لإسرائيل، سورية ولبنان. ويبذل النظام السوري بزعامة بشار الأسد، الذي يتلقى مساعدة فعالة من إيران و"حزب الله"، وعلى ما يبدو من روسيا أيضا في المجال السياسي والدبلوماسي، قصارى جهده للتشبث بزمام السلطة. معظم التقديرات تشير إلى أن نهاية النظام السوري باتت وشيكة وأن المسألة هي مسألة وقت فقط. مع ذلك فإن غياب رد فعل دولي وعربي جاد حيال ما يمارسه النظام السوري من قمع وحشي، يقوي شوكة النظام ويزيده إمعانا في مواصلة قمع الانتفاضة بكل وسيلة ممكنة. فبدون تدخل عسكري دولي- وهو أمر لا يلوح في الأفق- ستكون هزيمة النظام مهمة صعبة وطويلة أكثر مما كانت عليه في ليبيا.

أما لبنان، الذي يعتبره سوريون كثر مجرد "ضيعة" سورية، فسوف يتأثر بشكل مباشر بعدم الاستقرار وتغير الحكم المحتمل في سورية. وعلى ما يبدو فإن قيام حزب الله بنقل معدات ووسائل قتالية- كان يخزنها في سورية تحسبا لهجوم إسرائيلي- إلى لبنان يشير إلى صحة التقديرات بأن نهاية نظام الأسد باتت قريبة.

وفي هذا السياق ليس من المستبعد أن تحاول منظمة "حزب الله"، إذا ما أطيح بنظام الأسد، التظاهر بأن قوتها لم تتضرر جراء فقدان حليف مركزي، وقد يكون استعراض القوة في هذه الحالة إما على الصعيد الداخلي اللبناني، وإما خارجيا تجاه إسرائيل، وإما كلا الأمرين معا.

 

إيران

 

إن عزل إيران إقليميا وتشديد نظام العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، لم يؤديا بها بعد إلى العدول عن تطلعاتها في امتلاك السلاح النووي والهيمنة الإقليمية. وعلى ما يبدو فقد نشأ، في نظر الإيرانيين على الأقل، نوع من ميزان الرعب المتبادل مع الغرب. وبعبارة أخرى فإن الزعامة الإيرانية لم تقتنع بجدية نوايا وتصريحات زعماء الولايات المتحدة وأوروبا بأن "كل الوسائل مطروحة على الطاولة". من هنا يمكن فهم القرار الإيراني بمواصلة تخصيب اليورانيوم والتهديد بعرقلة حرية المرور في مضائق هرمز. إلى ذلك فإن عزلة إيران الإقليمية قد تدفعها إلى زيادة تأثيرها في العراق، وربما أيضا في الدول الخليجية المجاورة، من خلال التجمعات الشيعية في البحرين والمملكة السعودية.

 

الأردن

 

سيتأثر الأردن بشكل مباشر بالتغييرات المحتملة في العراق وسورية، إضافة إلى ذلك فإن المملكة الأردنية تقف على حافة أزمة طاقة جراء عمليات التخريب المتواصلة لأنبوب الغاز المصري في سيناء والذي يعتبر حيويا لاقتصاد الطاقة الأردني.

على هذه الأرضية يمكن فهم تدخل الأردن مجدداً في العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين كخطوة تهدف إلى توطيد المكانة الإقليمية للمملكة، سواء في مقابل الولايات المتحدة وأوروبا، أو في مقابل السلطة الفلسطينية.

وفي هذا السياق يتعين على إسرائيل تشجيع التدخل البناء للأردن، ومع أن من السابق لأوانه إعطاء تقديرات بشأن نجاعة وفاعلية مثل هذا التدخل، إلا أنه يكتسب أهمية على أرضية تنامي قوة حركة الإخوان المسلمين في مصر.

فضلا عن ذلك، فإن التدخل الأردني، إذا ما أتاحت الاتصالات للأطراف إدارة النزاع ودفع تفاهمات معينة، قد يمكن من تفادي تصعيد سياسي وأمني لا ترغب فيه إسرائيل والعناصر المعتدلة في الساحة الفلسطينية.

 

الأمن القومي وعلاقات إسرائيل

الخارجية في عين العاصفة

 

 

من الواضح أن التغييرات والسيرورات الإقليمية والدولية لا تساعد في تحسين مكانة إسرائيل ودفع مصالحها المهمة. فالهزة السياسية التي يمر بها الشرق الأوسط تضع أمام إسرائيل تحديات أمنية وسياسية مركبة. ومن ناحية إستراتيجية باتت إسرائيل معزولة أكثر من أي وقت مضى، كما أن فئات واسعة من المجتمع السياسي في أوروبا والولايات المتحدة تشكك في شرعية خطواتها وتحركاتها. من هنا يبدو أن غياب المبادرة يزيد من سوء وضع إسرائيل.

في الفترة الحالية هناك سيرورتان تنطويان على تهديد جدي لأمن إسرائيل القومي: التهديد النووي الإيراني، والتحول الإستراتيجي في مكانة الولايات المتحدة وتعاطيها مع الشرق الأوسط وإسرائيل. فتطلعات إيران للهيمنة الإقليمية والتزود بسلاح نووي كانت وما زالت تشكل التهديد الرئيس لأمن إسرائيل القومي. وعلى ما يبدو فإن سياسة إسرائيل المعلنة في الأشهر الأخيرة، إلى جانب الاتصالات والتحركات السياسية، ساهمت بصورة ملموسة في تشديد نظام العقوبات والتصريحات ضد إيران. ورغم الافتراض بأن الحديث لا يدور على تهديد وجودي بكل معنى الكلمة، فإن على إسرائيل أن تبذل أقصى ما يمكنها بغية منع تزود إيران بسلاح نووي، غير أنه لا ينبغي لإسرائيل أن تتحمل وحدها مسؤولية هذه المهمة. ولعل البديل الأفضل من وجهة نظر إسرائيل، هو أن تتمكن الولايات المتحدة من إحباط المشروع النووي الإيراني بواسطة العقوبات و/ أو استخدام القوة. وحتى يكون البديل (الخيار) الأميركي ذا صلة، فإن إسرائيل هي التي يجب أن توظف كل الجهود من أجل تعميق تحالفها مع الولايات المتحدة. ولا بد لمتخذي القرارات في إسرائيل من أن يأخذوا في الحسبان أن هناك أيضا ثمنا للسياسة الإسرائيلية المعلنة تجاه إيران. فالانشغال الدائم ووصف امتلاك إيران لقدرة نووية على أنه تهديد وجودي، هو أمر إشكالي للغاية، ويصب في تعزيز التصور حول قدرة الردع الإيرانية، كما أنه يمكن أن يضر بشدة في المقابل بقدرة الردع والاستقرار الإستراتيجي لإسرائيل ذاتها. مما لاشك فيه أن منع تزود إيران بسلاح نووي هو مصلحة إسرائيلية حيوية من الدرجة الأولى، بيد أنه لا يجوز بتاتا تصوير مثل هذا الأمر كتهديد وجودي للمشروع الصهيوني برمته، أو أن يبدو الأمر على هذا النحو. من هنا يجب إعادة النظر في الرسائل والخطاب الدولي الذي تعمل إسرائيل على دفعه قدما في موضوع إيران. كذلك من المأمول أن تكون إسرائيل مستعدة لمواجهة وضع تمتلك فيه إيران، سرا وبشكل مفاجئ، قدرة نووية، وهو ما يتطلب بناء قوة إستراتيجية، هجومية ودفاعية، قادرة على ضمان مستقبل دولة إسرائيل.

في ضوء انعدام الاستقرار الإستراتيجي إقليميا والهزة السياسية في دول الشرق الأوسط، من الصعب المبالغة في أهمية شبكة العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة في الوقت الراهن. فقد كان من المفروض أن تبرز الهزة التي يمر بها الشرق الأوسط ما تمثله إسرائيل من ذخر إستراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة والغرب، لكن ذلك لم يحدث. وفي هذا السياق لا يمكن التهرب من الانطباع بأن الولايات المتحدة باتت ترى في إسرائيل وخطواتها الممكنة خطرا إستراتيجيا، أكثر من كونها حليفا إستراتيجيا. إن تحول الشرق الأوسط إلى معقل إسلام سياسي راديكالي، يعتمد على تأييد شعبي قوي، جاء ليضع حدا للتوقعات بشأن تطبيع العلاقات الإسرائيلية- العربية ونسج علاقات إستراتيجية مع دول مؤثرة في المنطقة.

صحيح أنه لا توجد في الظاهر صلة بين العملية السياسية والنزاع الإسرائيلي- العربي، وبين المشاكل المركزية في الشرق الأوسط، إلا أن عدم التقدم في العملية السياسية يضر بالمكانة الدولية لإسرائيل ويشكل خطرا على الاستقرار الأمني الذي أحرز في المنطقة. لقد حان الوقت لدفع خطوات واقعية، ويمكن للأردن أن يشكل شريكا مهما في مثل هذا الجهد.

ولدى التفكير بنظرية الأمن القومي والعلاقات الخارجية لإسرائيل، فقد برهنت الهزة التي يمر بها الشرق الأوسط، على أن التغييرات الممكنة في المنطقة ليست متوقعة دائما، وأن وتيرة التغيير يمكن أن تكون أسرع بكثير من قدرة إسرائيل على الاستعداد لمواجهة الوضع المتغير.

كذلك فإن الهزة السياسية في الشرق الأوسط تؤثر على نظرية الأمن الإسرائيلية، وتطرح تحديات أمنية وعسكرية جديدة، بعضها ملموس جداً.

 

وعلى سبيل المثال فإن انعدام اليقين بشأن مستقبل سورية يطرح خطرا أمنيا جاداً أمام إسرائيل، وذلك بسبب ترسانة الأسلحة الضخمة التي تمتلكها سورية، ولا سيما شبكة الصواريخ والأسلحة الكيماوية. إضافة إلى ذلك فإن فوضى السلطة في شبه جزيرة سيناء تولد بدورها أيضا مخاطر أمنية، يمكن أن تكتسب مغزى إستراتيجيا لا يستهان به. كما أن إمكانية وقوع حوادث أمنية على الحدود الإسرائيلية المصرية من شأنها أن تزيد من تدهور العلاقات بين مصر وإسرائيل. وعلى الرغم من أن قادة حركة الإخوان المسلمين تعهدوا باحترام الاتفاقيات الرسمية الموقعة مع مصر وإعلان إسرائيل عن استعدادها للتحدث مع ممثلين منتخبين للإخوان المسلمين، إلا أن العلاقات الدبلوماسية والسلمية بين الدولتين ليست محصنة.

فيما يتعلق ببناء قوة الجيش الإسرائيلي، فإن التغييرات الإقليمية تستوجب ظاهريا استعدادا جديداً في مجال القوة التقليدية. فمنذ توقيع اتفاقيات السلام (مع مصر والأردن)، قلص الجيش الإسرائيلي تدريجيا حجم القوى التقليدية. الآن، وفي ضوء تطورات مستقبلية ممكنة، يبدو أن هناك ما يدعو للتفكير بقلب الاتجاه. ولكن في ظل التكاليف المالية الباهظة التي تتطلبها عملية بناء القوة التقليدية، وفي ظل ما يجري من تقليصات في الميزانية، ومطالب احتجاج اجتماعي، وأزمة اقتصادية عالمية، هناك ما يستوجب التفكير ببدائل على هذا الصعيد. إن أحد البدائل الممكنة يتمثل في تطوير قدرات هجومية في الحيز الافتراضي، وإيجاد توليفة في مبنى القوة تدمج بين قدرات في المجال الافتراضي وبين قدرة صاروخية هجومية ودفاعية وقوة تقليدية.

 

الأمن القومي

يبدأ في البيت

 

في الوقت الذي تؤدي فيه هذه المتغيرات إلى تغيير قواعد اللعبة الأساسية التي تعمل إسرائيل بموجبها في الساحتين الدولية والإقليمية، فإنه لا يجوز تناسي أن الأمن القومي يبدأ من البيت.

وتؤكد التحديات الماثلة أمام إسرائيل في الساحتين المذكورتين على الحاجة الحيوية والملحة لمواجهة المسائل الحاسمة المطروحة على الأجندة الداخلية الإسرائيلية. وفي هذا السياق يرسم تقدير ميزان المناعة القومية لإسرائيل صورة بائسة لشروخ آخذة في الاتساع، لا تتعلق فقط بفجوات اقتصادية واجتماعية، وإنما تتناول أيضا انقسامات وخلافات أساسية حول صورة دولة إسرائيل وسلطة القانون فيها.

وتشكل هذه الشروخ خطرا يهدد أسس الديمقراطية الصهيونية، فضلا عن أنها تضر بالمناعة القومية.

على هذه الأرضية بالذات، تعتبر ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي مهمة جداً لحيوية النظام الديمقراطي ولتعزيز وتحصين المناعة القومية، ولذلك ينبغي إيجاد السبل الكفيلة بإبقاء وتوجيه التجند الشعبي الواسع.

وفي واقع الشرق الأوسط الحافل بالأزمات ربما تكون نظريات الانغلاق والتقوقع و"شعب يسكن لوحده" مغرية لإسرائيل، لكنها ليست إستراتيجيا قابلة للحياة.

إن ما تحتاج إسرائيل إليه في هذا الوقت هو رؤية إستراتيجية واضحة، ومبادرة تعتمد على تقويم واقعي للوضع، وتحديد أهداف استنادا لسلم أولويات منطقي، وقدرة على تحقيقها وسط تفحص بدائل متعددة.