لم يكن بامكان حزب "العمل" الاسرائيلي تجاوز فضيحة تزييف وتزوير الانتسابات له، التي تكشف حجمها على مراحل في الاسابيع القليلة الماضية، دون ان يتخذ اجراء صارما، تمثّل في تأجيل الانتخابات لرئاسة الحزب، التي كان من المفترض ان تجري يوم الثلاثاء 28/6/2005، الى موعد آخر لم يتم تحديده، بعد ان فشلت اللجنة المركزية للحزب في تحديد الموعد، إذ انتهى اجتماعها مساء يوم الأحد الأخير بطوشة عمومية، تم فيها "تهريب" زعيم الحزب شمعون بيريس من القاعة، واصيبت الوزيرة داليا ايتسيك نتيجة التدافع
لم يكن بامكان حزب "العمل" الاسرائيلي تجاوز فضيحة تزييف وتزوير الانتسابات له، التي تكشف حجمها على مراحل في الاسابيع القليلة الماضية، دون ان يتخذ اجراء صارما، تمثّل في تأجيل الانتخابات لرئاسة الحزب، التي كان من المفترض ان تجري يوم الثلاثاء 28/6/2005، الى موعد آخر لم يتم تحديده، بعد ان فشلت اللجنة المركزية للحزب في تحديد الموعد، إذ انتهى اجتماعها مساء يوم الأحد الأخير بطوشة عمومية، تم فيها "تهريب" زعيم الحزب شمعون بيريس من القاعة، واصيبت الوزيرة داليا ايتسيك نتيجة التدافع.
وفي حالة طبيعية فإن قرار التأجيل كان سيسجل للحزب على أنه علامة قوة وثقة بالنفس، لكن هذا ليس في حالة حزب "العمل"، الذي يعاني من ازمة عامة، وخاصة قيادية، منذ نحو خمس سنوات، جعلته يهبط من كونه اكبر حزب في اسرائيل على الاطلاق، بصفته الحزب "المؤسس والباني" لاسرائيل، الى الحزب الثاني الذي تصل قوته الى نصف قوة الحزب الأول "الليكود". وهذه الفضيحة ستعمق الأزمة أكثر، وإذا كانت هناك فرصة لخروج الحزب من هذه الأزمة، فمن المؤكد انها ليست في المدى المنظور.
بداية الفضيحة في انتسابات العرب
في أواخر شهر ايار/ مايو الماضي، اختتم حزب "العمل" حملة الانتسابات التي تسبق كل انتخابات داخلية، وللوهلة الأولى ظهرت اصوات الفرح "مبشرة" الشارع الاسرائيلي ان الحزب جمع نحو 80 الف منتسب جديد، اضافة الى حوالي 50 الف منتسب قائمين، أي بعدد اجمالي يبلغ حوالي 130 ألف منتسب، في حين انه في المرّة السابقة لم يستطع جمع اكثر من 80 الى 90 الف منتسب.
ولكن سرعان ما تلاشت هذه الأصوات عندما تبين ان عدد المنتسبين العرب فاق الـ 30 الف منتسب وهو رقم غير طبيعي، تجعل نسبة العرب في الحزب 25%، والقوة الأكبر، وهذا على الرغم من أن نسبة العرب من مجمل السكان هي 18%، ومن مجمل ذوي حق الاقتراع للبرلمان اقل من 15%، وأن حزب "العمل" لم ينجح في الحصول على اكثر من 4% من اصوات العرب في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في العام 2003، وشكلوا في الوقت نفسه 3% فقط من مجمل المصوتين لحزب "العمل"، وهو الموضوع الذي عالجناه في "المشهد الاسرائيلي" في العدد الصادر يوم 31 ايار/ مايو الماضي.
إن جميع هذا الأرقام دلّت على ان أمرا ما حصل في حملة الانتسابات. وليس هذا فحسب، بل إن هذه الارقام غير الطبيعية تحولّت الى الجهة المقررة والحاسمة في أي انتخابات داخلية في الحزب. ومع قناعة قادة الحزب ان المنتسبين العرب لن يصوتوا جميعهم للحزب في الانتخابات البرلمانية كما حصل في الماضي، فإن هذا يعني ان القرار الناتج في داخل مؤسسات الحزب لن يلائم بالتالي جمهور مصوتي حزب "العمل".
ومن جهة أخرى فإن هذا الكم غير الطبيعي من المنتسبين العرب كشف عن أن حزب "العمل" لم يحقق اختراقا في الشارع اليهودي، وتكفي هنا الاشارة الى ان عدد المنتسبين لحزب "الليكود" من اليهود في آخر حملة انتسابات له قبل اكثر من عامين، كان أكثر من 250 الف منتسب، مع انه هناك ايضا كان هجوم غير طبيعي من قوى اليمين المتطرف، التي انتسبت لتؤثر على القرارات الداخلية ولم تصوت لليكود في الانتخابات البرلمانية.
رويدا رويدا بدأت تتكشف خيوط الفضيحة، وبشكل خاص بين المنتسبين العرب، وبدأت تظهر الروايات عن ان الكثير من المنتسبين العرب لا يعرفون بانتسابهم، بل ان أحدا ما عبأ لهم طلب الانتساب ودفع عنهم الرسوم المالية.
وحاول الحزب تجاوز الأمر، وبدأت تظهر استطلاعات الرأي التي تمنح تقدما بارزا وواضحا لزعيم الحزب شمعون بيريس، ولرئيس اتحاد النقابات عمير بيرتس، مع تأخر واضح للمرشحين الثلاثة الآخرين رئيس الحكومة السابق ايهود باراك والوزيرين متان فلنائي وبنيامين بن اليعيزر، فاتفق الثلاثة على ضرورة تأجيل الانتخابات، وتأزمت الأمور الى ان قرر السكرتير العام الجديد للحزب، ايتان كابل، تعيين قاضية متخصصة للتحقيق، التي كشفت عن فضائح أخرى.
وفي أوج هذا كشفت صحيفة "فصل المقال"، الناطقة بلسان حزب التجمع الوطني الديمقراطي عن فضيحة الانتسابات في قرية كابول في الجليل، حيث تبين ان العشرات لا يعرفون بانتساباتهم، وتناقلت الخبر الكثير من وسائل الاعلام الاسرائيلية.
وفي تقرير أولي للقاضية المذكورة، ظهر انه من خلال عدة فحوصات جرت في سجلات الحزب فإن آلاف العرب لا يعرفون بانتساباتهم، ومنهم من علم بأنه منتسب فقط بعد أن تم الاتصال به من مركز الحزب. كما أعلنت القاضية انها بصدد الغاء 31500 انتساب بعد ان تبين انهم لم يسددوا الرسوم بل قام اشخاص آخرون بتسديد الرسوم عنهم، ومن طرائف هذه الفضيحة، انه خلال فحص الشريحة العينية المؤلفة من 9 آلاف انتساب تبين ان عشرة منتسبين قد انتقلوا الى الرفيق الأعلى (توفوا) منذ زمن طويل، ويقول القائمون على حملة الانتسابات ان قرابة الف منتسب هم من الذين تجاوزت اعمارهم 85 عاما، وأكبرهم ابن 103 اعوام، ويذكر هنا ان زعيم الحزب الحالي شمعون بيريس هو ابن 82 عاما.
كذلك ذكرت صحيفة "معاريف" ان لديها قائمة باسماء 213 منتسبا من احياء وضواحي القدس الشرقية المحتلة، علما ان هؤلاء لا يحق لهم التصويت في الانتخابات البرلمانية الاسرائيلية.
وحسب المصادر فإن المتهمين الأوائل في هذه التزييفات هم ممن يطلق عليهم اسم "مقاولو الأصوات"، الذين يزيفون الانتسابات، وفي يوم الانتخابات يصوتون بدلا عن المنتسبين في اطار "اتفاقيات مصالح" بين "مقاولي الاصوات"، ليحصلوا على المردود المالي من المتنافسين.
ليست المرّة الأولى
هذه الفضيحة التي تعصف بالحزب ليست الفضيحة الأولى، لا بل هي الثانية خلال ثلاث سنوات ونصف السنة الاخيرة. ففي الانتخابات لرئاسة الحزب التي جرت في خريف العام 2001، جرى تزوير الانتخابات التي فاز فيها رئيس الكنيست السابق، ابراهام بورغ، على وزير الدفاع في حكومة اريئيل شارون الأولى، بنيامين بن اليعيزر. وتبين ان في القطاع العربي، بالذات، جرى التصويت بالآلاف عوضا عن مصوتين لم يصلوا الى صناديق الاقتراع. وكما اليوم، كذلك في حينه، حاول الحزب التستر على الامر، إلا ان بن اليعيزر الخاسر أصر على اجراء تحقيق، سرعان ما اقر بالتزوير، فأعيدت الانتخابات التي سجلت فوزا لبن اليعيزر، بعد ان انتقل القطاع المتهم لتأييد بن اليعيزر، بدلا من بورغ.
وطوال فترة رئاسة بن اليعيزر كانت تخيم على الحزب فضيحة التزوير، وان رئاسة بن اليعيزر كانت رئاسة اللامفر، وخلال أقل من عام استبدله الحزب بعمرام متسناع، الذي لم ينجح هو الآخر بقيادة الحزب نظرا لعدم التفاف القيادة من حوله.
ومهما يفعل الحزب من محاولات لتجميل صورته أمام الشارع الاسرائيلي إلا ان هذه الفضيحة ستؤثر عليه من ناحيتين، الناحية الاولى هي التزييف بحد ذاته، والناحية الثانية ان هذا الحزب سيظهر في الشارع اليهودي كمن سرعان ما "يخضع" للجمهور العربي، مع أن الواقع هو ليس كذلك اطلاقا، وأن العرب على الرغم من كثرتهم لن يكون بامكانهم السيطرة على دفة الحزب، كونهم "انتسبوا" اليه، من اجل دعم أحد المرشحين، وليس من اجل ترشيح شخص من قبلهم.
لكن اليمين الإسرائيلي وأحزاب المركز ستستغل هذه الناحية في محاولة لسحب ما تبقى من اصوات لهذا الحزب، أقدم الأحزاب التقليدية في اسرائيل.
لقد حاول قادة الحزب، وبالذات المرشحون لرئاسته، في اجتماع اللجنة المركزية للحزب التي تضم 2800 عضو، في اجتماعها مساء يوم الأحد الماضي، بث اجواء من الحزم والاصرار على "نظافة" الحزب، فقد اعلن بيريس أن الحزب سيفحص بدقة حملة الانتسابات، وسيبحث عن كل تزوير ولو كان صغيرا "من أجل تنظيف الحزب"، كما قال بيريس.
أما المرشح متان فلنائي فقد وضع الحزب أمام صورته الحقيقية، وقال: "إن الحزب في أزمة صعبة للغاية، وكل من يقترح اجراء الانتخابات خلال اسبوع او اسبوعين فإنه لا يدرك حجم الأزمة الحقيقية"، وكان يقصد بذلك المرشح عمير بيرتس الذي اقترح اجراء الانتخابات في التاسع عشر من شهر تموز القادم، على الرغم من أنه إذا تم الغاء آلاف الانتسابات فإنه سيكون الخاسر الأكبر، كون انصاره في جهاز الهستدروت هم المتهمون الاساسيون بالتزويرات، وخاصة بين العرب.
من ناحيته، ادعى بن اليعيزر في اجتماع اللجنة المركزية ذاته، انه في الانتخابات السابقة لرئاسة الحزب التي جرت في خريف العام 2002، وخسر فيها الانتخابات لصالح عمرام متسناع، انتسب للحزب اعضاء من حركة ميرتس اليسارية من أجل دعم متسناع، وسرعان ما تركوا الحزب وعادوا إلى حزبهم الأول.
ولكن يذكر هنا ان فضيحة جديدة بدأت تتكشف خيوطها، هي أن بن اليعيزر طلب في العام 2002 خدمات مكتب تحقيقات سرية، ليجروا تحقيقات حول عمل عمرام متسناع في بلدية حيفا، وإذا بالامكان الكشف عن فساد في عمل البلدية يورط متسناع، إلا ان مكتب التحقيقات توصل الى استنتاج واحد وهو انه في عمل متسناع لا يوجد أي فساد، ولهذا رفض بن اليعيزر ان يدفع لمكتب التحقيقات أجره، فتوجه المكتب في الاسابيع الأخيرة الى المحكمة لالزام بن اليعيزر على دفع التزاماته المالية للمكتب.
وكما ذكر بداية فقد اختتم الاجتماع المذكور بطوشة عمومية، بدأت بالتراشق الكلامي، وانتهت بالتدافع وحتى الضرب، ويعكس هذا الصورة البائسة لهذا الحزب، وستتعمق أكثر فأكثر أزمته.
موازين القوى والرابحون
الأمر الواضح ان تأجيل الانتخابات، إذا ما قرر الحزب الغاء قسم من الانتسابات، أو اعادة الحملة فإن هذا سيساهم في تغيير موازين القوى في الحزب، التي رجحت الكفة في الاستطلاعات الأخيرة لصالح زعيم الحزب شمعون بيريس (حوالي 28%)، ورئيس اتحاد النقابات، "الهستدروت" عمير بيرتس (حوالي 24%)، فيما تركت رئيس الحكومة السابق ايهود باراك في المرتبة الثالثة مع 18% ومتنان فلنائي مع 13% وبن اليعيزر مع 11%.
من الصعب تحديد كيفية تغير موازين القوى، التي قد يحافظ فيها بيريس على تقدمه المحدود، ولكن المتهمين الاساسيين بالتزوير، عمير بيرتس وبن اليعيزر لا شك في انهما سيدفعان ثمنا معينا.
ويتوقع بعض المراقبين ان يستفيد من عملية التأجيل ايهود باراك، الذي واجه اتحادا غير معلن بين المرشحين الاربعة لابعاده عن رئاسة الحزب. أما اسباب استفادة باراك فتعود الى كون جميع الذين هاجموه ارتبطت اسماؤهم بقدر ما بفضيحة تزوير الانتسابات، فيما بقي هو خارج الصورة، كون طاقمه لم يبادر الى جمع آلاف المنتسبين، واعتمد على المنتسبين تلقائيا في الحزب.
ولهذا فإن القاعدة التقليدية، غير الموسمية، للحزب تريد اخراج الحزب من هذه الفضيحة، ولهذا قد تبحث عمن لم يتورط بها. كذلك فقد كان باراك أول المنادين بتأجيل الانتخابات، وأول الذين أعلنوا عن حدوث تزويرات.
وليس من المستبعد ان يكون مستفيد آخر من خارج الحزب، ألا وهو رئيس الحكومة، اريئيل شارون، الذي قد يستفيد من القلاقل في داخل حزب "العمل"، بجعله ملتصقا بالحكومة لفترة أطول من المتوقع، أي في الخريف القادم، وبذلك تبقى حكومة شارون حتى موعد انتهاء ولايتها القانوني في خريف العام 2006.
ارتياح بين العرب
واجه الفلسطينيون في اسرائيل في الشهرين الماضيين مسألة ما يسمى "انتشار حزب العمل من جديد بين العرب"، وهو ما خلق نوعا من البلبلة والقلق، ولكن الكشف عن التزييفات، بما فيها مسألة عدم معرفة آلاف المنتسبين بانتسابهم لحزب "العمل"، خفّف من البلبلة قليلاً.
فمع ظهور هذه الفضائح بدأ يسود شعور من الارتياح، كون ما جرى في الشارع العربي من انتسابات لا يمثل اجواء سياسية عادت من جديد، وانما حملة تزوير قام بها مقاولو اصوات سرعان ما تبين دورهم، خاصة انه ومع بدء ظهور اعداد المنتسبين العرب لحزب "العمل" هرعت الاسماء العربية التقليدية في حزب "العمل"، لتعلن وتبشّر "بثورتها"، معلنة ان العرب قرروا "العودة" الى حزب العمل، بعد أن خاب ظنهم من الأحزاب الفاعلة بين الفلسطينيين في اسرائيل، وهي مزاعم حاول "العماليون" العرب تسويقها، ولكن سرعان ما ظهرت الحقيقة، التي لم ينتظر الصحفي الاسرائيلي التقدمي غدعون ليفي ظهورها، لينشر مقالا حادا في صحيفة "هآرتس" ينتقد فيها العرب الذين انتسبوا الى حزب "العمل".
وجاء في مقال غدعون ليفي الذي كان بعنوان "عرب للايجار" ما يلي: "عرب اسرائيل الذين رأوا النضال الحازم غير المهادن للحزب (العمل)، والذي لم يتنازل ابدًا عن مبادئه من اجل مقعد في الحكومة- ينتسبون اليه بحشودهم.. بنيامين بن اليعيزر، وزير الأمن السابق المسؤول عن الاغتيالات الجماعية والحصار يسجّل الآلاف. متان فلنائي جنرال المنطقة العسكرية الجنوبية سابقا، الذي ادار الاحتلال في غزة، يحظى هو الآخر بشعبية كبيرة، شمعون بيريس أحد آباء مشروع الاستيطان وعمير بيرتس الذي لم يحرك ساكنا من اجل مئات آلاف العمال الفلسطينيين المعطّلين عن العمل يحظون بالريادة في هذا الوسط، حسب الاستطلاعات، وحتى ايهود باراك الذي سقط قتلا بالرصاص 13 شابا خلال توليه الحكومة، لديه عربه"..
واعتبر الكاتب ان هذا الانضمام الى "العمل" الذي يتحمل مسؤولية تاريخية عن آفات الاحتلال والتمييز والذي انضم الى حكومة اريئيل شارون، هو مسلك مخز.
وأكد ليفي ان ما يقف خلف هذا الانتساب ليس "النضوج السياسي" ولا "الوعي الوطني" ولا "التضامن مع إخوتهم الفلسطينيين" ولا "النضال ضد التمييز"، بل "صفقات البيع والشراء الوضيعة، التي تميز السلوك السياسي لمنتسبي العمل". واضاف ان هؤلاء: "يلوثون شعبهم".
واستذكر ليفي: ان العلاقات بين حزب العمل وبين العرب هي علاقات مشوهة منذ سنين، منذ ايام مباي واحزابها التابعة. وأيضًا: لقد كرست حكومات العمل الغبن بحق العرب ومحو ذاكرتهم الوطنية، ولكن هؤلاء (المنتسبين) يكافئونه بالدعم. وأقصى ما قد يحظون به هو طقوس احترامات ذليلة. وليس صدفة أنه لم تخرج قيادات بمعنى الكلمة من بين صفوف عرب حزب العمل. فكل ممثلي "العمل" العرب كانوا باهتين اقرب الى الكاريكاتيرات.