مؤسس ورئيس الجامعة العبرية عمل، في المحافل الدولية، على إفشال مخطط بن غوريون إقامة دولة إسرائيل في 1948 * الصحافة العبرية في فلسطين واجهت صعوبة في ملاحظة قوة هتلر السياسية البالغة ومركزية العنصرية في أيديولوجية الحزب النازي * قراءة خاصة في كتابات جديدة عن أحداث قديمة
إعداد: بلال ضاهر
تقديم
في موازاة إحياء الذكرى السنوية الستين للنكبة الفلسطينية، احتفلت إسرائيل، في الثامن من شهر أيار الحالي- 2008، بالذكرى السنوية الستين لقيامها، وذلك وفقا للتقويم العبري، إذ تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في الرابع عشر من أيار 1948.
وقبل ذلك بأسبوع، في الأول من أيار، أحيت إسرائيل ذكرى الضحايا اليهود الذي قتلوا في معسكرات الإبادة النازية في فترة الحكم النازي لألمانيا. ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية عددا من التقارير التي تناولت هاتين الفترتين، الهولوكوست وقيام إسرائيل، وتعرض بعضها لأحداث جرت من وراء الكواليس.
ونشرت صحيفة يديعوت أحرونوت في ملحقها الأسبوعي "7 أيام" (الجمعة - 2.5.2008) تقريرا تحت عنوان "مملكة دافيد"، تحدثت فيه عن جوانب شخصية من حياة مؤسس إسرائيل ورئيس حكومتها الأول، دافيد بن غوريون. كذلك تطرق التقرير إلى الخلافات داخل القيادة الصهيونية بشأن إقامة دولة إسرائيل. وتحدث تقرير آخر، نشرته صحيفة هآرتس (الاثنين – 5.5.2008) عن محاولات أحد القادة الصهيونيين ورئيس الجامعة العبرية في القدس، الدكتور يهودا ليف ماغنيس، لمنع قيام إسرائيل، وجاء تحت عنوان "من أجل إنقاذ اليهود من أنفسهم". وهذه التقرير يعتمد على مذكرات ماغنيس التي تنشر لأول مرة. وتناول تقرير ثالث، نشرته هآرتس (الثلاثاء – 29.4.2008)، دراسة جديدة حول تعامل وإعجاب صحف عبرية بالزعيم النازي، أدولف هتلر، لدى صعوده إلى سدة الحكم في ألمانيا، وجاء تحت عنوان "الصحافة استصعبت التعرف على الخطر النازي".
هنا عرض واف لهذه التقارير والملفات.
قرارات صنعت تاريخ البلاد
يُعتبر دافيد بن غوريون أهم وأبرز شخصية في الحركة الصهيونية منذ نشوئها وحتى اليوم. ورغم أن ثيودور هرتسل كان واضع رؤية قيام دولة تكون وطنا قوميا لليهود، إلا أنه مات، في العام 1904، قبل أن تبدأ الحركة الصهيونية بخطوات فعلية حثيثة على أرض فلسطين تقود لقيام إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. وكان بن غوريون هو الرجل الذي قاد هذه الخطوات، من تنظيم اليهود في فلسطين، وتجنيد الدعم لقيام دولة يهودية وجمع التبرعات لذلك، ووضع المخططات لتنفيذ هذا الهدف وحتى وضع الخطط لتنفيذ المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين.
ويشير تقرير يديعوت أحرونوت إلى أن القرار بإقامة دولة لليهود في فلسطين رافق واستحوذ على بن غوريون، المولود في العام 1886، منذ أن هاجر من بلدة بلونسك البولندية إلى فلسطين في العام 1906. "فقد تنقل في العالم من مؤتمر إلى مؤتمر حاملا أوراقا مليئة بالمعطيات والأرقام. وأحيانا كان يسير وحيدا ضد التيار"، إذ لم تكن القيادة الصهيونية كلها مقتنعة بإمكان إقامة الدولة. فمثلا، عندما قال بن غوريون خلال مؤتمر للحركة الصهيونية، عُقد في مدينة بلتيمور الأميركية في العام 1942، إن "علينا أن نقيم دولة في نهاية الحرب" العالمية الثانية، رد عليه رئيس الهستدروت الصهيونية، حاييم وايزمان، بسخرية. وكان وايزمان، الذي أصبح لاحقا أول رئيس لدولة إسرائيل، قد كتب في مطلع سنوات الأربعين مقالات ضد مخططات بن غوريون حيال إقامة الدولة عبّر فيها عن معارضته الشديدة لهذه المخططات. وكان وايزمان يشدّد في مقالاته على أنه "لا يوجد ما يستدعي الاستعجال، وهناك وقت ولا يتوجب إغضاب العالم". كذلك واجه بن غوريون في مؤتمر بلتيمور ذاته معارضة صديقه يتسحاق طبنكين لفكرة إقامة دولة. وكان طبنكين يردد مقولة أن "إقامة ألف كيبوتس (أي قرية تعاونية) أفضل من إقامة دولة".
وفي تلك الفترة، اتضح لبن غوريون، الذي كان رئيس الوكالة اليهودية، أن أعضاء قيادة الحركة الصهيونية "ليسوا شركاء" له في فكرة إقامة الدولة. وقد استمر هذا الشعور لدى بن غوريون حتى يوم الإعلان عن قيام إسرائيل في 14 أيار 1948. وربما استمر هذا الشعور يرافقه بعد ذلك أيضا. فقد كتب في مذكراته في ليلة إعلان قيام دولة إسرائيل: "في (الساعة) الرابعة إعلان الاستقلال، في البلاد (يسود) فرح وسعادة عميقة، ومرة أخرى أنا حزين بين الفرحين مثلما كنت في 29 تشرين الثاني". وكان بن غوريون يشير بذلك إلى اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، وهو يوم 29 تشرين الثاني 1947.
وتحدث نجل بن غوريون، عاموس بن غوريون، عن تلك الليلة قائلا إنه "في 29 تشرين الثاني 1947 اصطحب والدي والدتي إلى فندق في (كيبوتس) كاليا (في منطقة شمال البحر الميت)، وقد دعاني أنا وزوجتي للانضمام إليهما. كان سيجري في تلك الليلة، في الثالثة فجرا، التصويت في الأمم المتحدة بخصوص قيام الدولة. وأذكر أنه كان هناك مذياع واحد في الفندق كله، وقد تزاحمنا جميعا من حوله، وعندما علمنا أن هناك أغلبية تؤيد قيام الدولة، غصت قاعة الطعام كلها خلال لحظات معدودة بسكان كيبوتسات المنطقة. كانوا يرقصون ويفرحون، لكن والدي كان يتأملهم من دون أن يبدو عليه أي تعبير فرح. لم يظهر عليه أنه ها هي قد جاءت مرحلة حاسمة لقيام الدولة. لم تكن على وجهه أي ابتسامة تعبر عن رضا". وتابع "دنوت منه وسألته: أبتي، لماذا تبدو جديا لهذا الحد؟ وهو قال لي: 'عاموس، هذه البداية فحسب. سوف نسفك دماء'. لقد وقف هناك قبالة الذين يرقصون وعرف الثمن. أذكر أنه بدا في نظري وحيدا داخل هذه الفرحة؛ لم يعرف ماذا يفعل بنفسه... لكنه لم يتحدث عن ذلك. لقد كان رجلا قويا لم يعبر عن مشاعره. وهو لم يقل أبدا: 'أنا حائر، أنا أتخبط'. فقد سار في طريقه وتمسك بها. لقد كان رجلا خاليًا من الشكوك، على الأقل تجاه الخارج".
وقال البروفسور ميخائيل بار- زوهر، الذي كتب السيرة الذاتية "بن غوريون- الرجل من وراء الأسطورة" وقضى تسع سنوات برفقته، إن بن غوريون "لم يكن شخصا فرحا. كان يعرف أن لقراراته تأثيرا كبيرا على ما سيجري هنا في الدولة، وهذا أثقل عليه. كان شخصا جديا للغاية، وكانت الأمور التي انشغل بها تجثم عليه. لم ينجح بفصلها عنه، وعندها وجد مهربا لنفسه من خلال القراءة ودراسة الديانات المختلفة وتجارب عشق عابرة. لكن في الحقيقة، لم يخفف كل هذا عنه".
من جهة ثانية، يعتبر العديد من المؤرخين الإسرائيليين أن بن غوريون كان "حاكما انفراديا". وقد جرت أحداث في الأيام الثلاثة التي سبقت الإعلان عن قيام إسرائيل تنطوي على أهمية بالغة، بل إنها صنعت تاريخ البلاد. ففي 11 أيار 1948 عاد إلى البلاد كبير مساعدي بن غوريون، موشيه شاريت، بعد اجتماع مع وزير الخارجية الأميركي، جورج مارشال. وكان مارشال قد قال لشاريت خلال اجتماعهما: "إياكم أن تتجرؤوا على إقامة دولة. سيذبحونكم، ونحن لن نأتي لتقديم المساعدة" (أنظر لاحقا عن لقاء ماغنيس مع مارشال). وعلى إثر أقوال مارشال قرر شاريت التوصية بعدم إقامة دولة. وعندما عاد إلى البلاد في ساعات المساء، كانت اللجنة المركزية لحزب مباي تعقد اجتماعا في تل أبيب للاستماع لموقفه وحسم الموضوع. وعندما هبطت طائرة شاريت كان مساعد بن غوريون، رؤوفين شيلواح، بانتظاره عند سلم الطائرة. وأدخل شيلواح شاريت في سيارة الجيب وقال له "بن غوريون يريد أن يراك". شاريت رفض وبرر ذلك "عليّ أن ألقي خطابا في اللجنة المركزية لمباي. فقد جاء الناس من جميع أنحاء البلاد وهم بانتظاري". إلا أن شيلواح اصطحب شاريت إلى منزل بن غوريون في تل أبيب.
ويروي البروفسور بار- زوهر عما جرى في هذا الاجتماع بين بن غوريون وشاريت قائلاً: "أبلغه شاريت بما قاله مارشال وأضاف 'أعتقد أن مارشال مُحق'. فنهض بن غوريون وأوصد الباب وقال: 'ستخرج من هنا إلى مركزية مباي لتبلغهم عن محادثتك مع مارشال، لكن الكلمات الأربع الأخيرة التي قلتها لي، أعتقد أن مارشال مُحق، لن تقولها. وإلا فإنك لن تخرج من هنا'. وأذكر أنه عندما روى لي ذلك، بعد سنوات، لمعت عيناه وانتصب شعره الأبيض كما لو أن هناك ريحًا في الغرفة". وقد وافق شاريت على ذلك. وعندما حضر بن غوريون إلى قاعة الاجتماع وألقى خطابه كان الحماس بالغا. وعند منتصف الليل أعلن بن غوريون: "علينا الآن اتخاذ القرار، وأعتقد أنه لا توجد طريق أخرى سوى المضي قدما وإقامة دولة يهودية".
في اليوم التالي اجتمعت "الهيئة الشعبية"، وهي هيئة منتخبة من الوكالة اليهودية واللجنة الوطنية لكنيست إسرائيل وعملت في تصريف شؤون الييشوف في الأشهر الأخيرة التي سبقت نهاية الانتداب البريطاني في 15 أيار 1948. وبحثت "الهيئة الشعبية" في قبول أو رفض الاقتراح الأميركي وإقامة الدولة. وكان عدد أعضاء الهيئة 13 عضوا من مختلف الأحزاب. وتغيب ثلاثة أعضاء عن الاجتماع، الذي امتد على 13 ساعة في مبنى الـ"كيرن كييمت". وكان التوتر سيد الموقف في غرفة الاجتماع. وقد وصلت عندها معلومات أن عددا من اليهود قتلوا في المنطقة الواقعة بين القدس والخليل، كما سرت في أجواء الاجتماع معلومات عن أن الجيوش العربية تستعد للحرب.
وقال بار- زوهر إن "بن غوريون رأى ردود الفعل، وبعد سنوات قال لي: 'شعرت أن حلمي كله عن دولة يهودية يفلت مثل الرمل من بين أصابعي'". لكن بن غوريون قال خلال اجتماع الهيئة الشعبية حينئذ إن "كل ما نحتاجه هو الصمود بضعة أيام صعبة، فالسلاح أصبح في الطريق إلينا". وفي نهاية الأمر صوت ستة من أعضاء الهيئة الشعبية ضد الاقتراح الأميركي بإرجاء إعلان قيام الدولة، فيما أيد الأربعة الآخرون إرجاء الإعلان. هكذا اتخذ القرار بالإعلان عن قيام دولة إسرائيل.
ودليل آخر على تفرد بن غوريون بالحكم يكمن في رده على سؤال وجهه له بار- زوهر حول متى أصبح زعيما؟ فأجاب "في اليوم الذي رأيت فيه أنه ليس هناك من يمكن أن أسأله". وقال البروفسور زئيف تساحور، الذي يشغل اليوم منصب رئيس "كلية سبير" في جنوب إسرائيل وكان سكرتير بن غوريون في سنواته الأخيرة وساعده في كتابة مذكراته، إنه "في ذلك الحدث في أيار 1948 وجّه بن غوريون التاريخ. ومن الجائز أنه لولاه لكان التاريخ سيسير في اتجاه آخر. إنه من القلائل الذين أمسكوا التاريخ من قرنيه وغيّروا مجراه". واستدرك تساحور "لكن منذئذ بدأ ينتابه تخوف حيال قدرتنا على أن نتدبر أمورنا وحدنا، وهذا التخوف تعاظم وحسب".
كان بن غوريون يتخوف من مهاجمة الجيوش العربية مجتمعة وفي وقت واحد. وعندما كان يصل إلى مكتبه، كان يحوم حول خارطة الشرق الأوسط ويقول "إننا نقطة صغيرة. كيف سنتمكن أن نحيا؟". وقال مرة لبار- زوهر إنه لا ينام في الليالي بسبب هذه الخارطة. وقد وُلد في تلك الليالي القرار بإنشاء مفاعل نووي. وبحسب المؤرخين الإسرائيليين فإن بن غوريون شارك في العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، إلى جانب فرنسا وبريطانيا، وسط مخاوف كبيرة جدا، وكان منقادا أكثر من كونه قائدا. وأعلن استعداده لشن العدوان فقط تحت المظلة الجوية البريطانية والفرنسية. وكان بن غوريون قد عارض شن إسرائيل حربا في حزيران 1967، وحتى أنه اعتبرها كارثة. وعندما قرر رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي إسحق رابين ووزير الدفاع موشيه ديّان شن الحرب كانت قد مرت أربع سنوات على استقالة بن غوريون واعتزاله في كيبوتس سديه بوكير في النقب، ورغم ذلك فقد ذهبا إليه. وحتى أنه كان هناك اقتراح بأن يستبدل بن غوريون رئيس الحكومة ليفي أشكول، لكن تبين أنه يعارض الحرب ويعتبرها كارثة.
وعندما بدأ التوتر بين إسرائيل ومصر، في 15 أيار 1967، وعلم أن رابين قرر تجنيد قوات الاحتياط، استدعاه وقال له: "لقد شكلت خطرا على شعب إسرائيل". وقد تأثر رابين كثيرا من أقوال بن غوريون، وكانت أحد أسباب انهياره قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب. وعلّق بار- زوهر على ذلك قائلا إن "بن غوريون كان رجلا حكيما، لكن في هذه الحالة جاء التاريخ إليه وقال له: مهمتك انتهت يا سيدي، وهناك جيل جديد يقوم بالعمل بشكل جيد ليس أقل منك. وكنت أضغط عليه طوال الوقت كي يكتب مذكراته، لكنه قال: 'أنا لا أكتب مذكرات'. قلت له: بن غوريون، يتوجب كتابة التاريخ، وكان يرد: 'لا يكتبون التاريخ وإنما يصنعونه'. وكان يكرر هذا أمامي طوال الوقت. وعندما انتهت الحرب ذهبت إليه باللباس العسكري والسلاح ومتسخا من القتال. فقام وعانقني. فقد كان يحب كثيرا الجنود العائدين من القتال. وعندها قال: 'بار- زوهر، لدي أخبار لك. لقد قررت أن أكتب مذكراتي'. لم أفهم لأول وهلة. بعد ذلك فهمت أنه في الحقيقة يقول لي إنه لم يعد يريد صنع التاريخ. أيقن أن مهمته انتهت. وهكذا، فإنه عندما يتحدثون عن موته، أقول دائما إن هناك تاريخين: يوم موته في العام 1973 ويوم موته في حرب الأيام الستة، عندما رأى ببساطة أن الأمر انتهى".
يهودا ليف ماغنيس- صهيوني ضد قيام إسرائيل
على الرغم من أن مؤسس ورئيس الجامعة العبرية، الدكتور يهودا ليف ماغنيس، كان من القيادات الصهيونية إلا أن دولة إسرائيل لم تخلد اسمه، باستثناء إطلاقه على دار النشر التابعة للجامعة العبرية. وربما يعود ذلك إلى كونه أحد معارضي بن غوريون. لم يكن مجرد معارض، وإنما عمل، في المحافل الدولية، على إفشال مخطط بن غوريون إقامة دولة إسرائيل في العام 1948.
كان ماغنيس، ابن السبعين عاما، معتلا صحيا في بداية شهر نيسان 1948 . لكن رغم ذلك قرر السفر بسرعة إلى البيت الأبيض في واشنطن من أجل محاولة وقف الحرب الدائرة في فلسطين. وهو يكاد يكون لا يمثل أحدا، سوى مجموعة من أساتذة الجامعة الذين ينشدون السلم. كذلك كانت له علاقات جيدة في قيادة الإدارة الأميركية. وكان هدف ماغنيس من السفر إقناع الرئيس الأميركي بأن يفرض وقف إطلاق النار ومنع تطبيق قرار التقسيم ومنع قيام الدولة اليهودية.
فعندما اتخذ قرار التقسيم لم يخرج الييشوف اليهودي كله للاحتفال. فقد كانت مجموعة من المثقفين اليهود، غالبيتهم محاضرون في الجامعة العبرية، الذين آمنوا أن الحرب الذي ستنشب بعد قيام دولة إسرائيل ستؤدي إلى كارثة تلحق بالعرب واليهود في البلاد على حد سواء. وكان ماغنيس حاخاما ينتمي للتيار اليهودي الديني الإصلاحي وكارها للحروب وسفك الدماء ومناهضا للاستعمار، واشتهر بمعارضته للحرب العالمية الثانية. وفي الوقت ذاته كان واحدا من أهم القادة الصهيونيين ومن مؤسسي الجالية اليهودية في نيويورك، وأحد أهم حلقات الوصل بين القيادة الصهيونية والإدارة الأميركية. ومنذ أن هاجر إلى فلسطين، في العام 1922، أيد قيام دولة واحدة، ثنائية القومية، لليهود والعرب، مع حكومة مؤلفة من ممثلين عن الشعبين.
ويصف ماغنيس في مذكراته، المحفوظة في أرشيف المركز من أجل تاريخ الشعب اليهودي في القدس، يأسه من نشوب حرب العام 1948 مع اقتراب نهاية فترة الانتداب البريطاني.
وقال البروفسور أرييه غورين، من الجامعة العبرية وناشر مؤلفات ماغنيس، إنه "خلافا لقادة صهيونيين آخرين، مثل بن غوريون، فإن مذكرات ماغنيس ليست شهادة سياسية وحسب. فكتاباته شخصية جدا وهو يتحدث عن تخبطاته ومواضع ضعفه". وكان ماغنيس يعتبر نفسه تلميذا للمهاتما غاندي والنبي ارميا، وعارض جميع أنواع القومية التي تستند على قوة عسكرية. واعتبرت جمعية "إيحود" (اتحاد) التي أنشأها سوية مع أصدقائه بمثابة المؤشر اليساري في المعسكر الصهيوني في كل ما يتعلق بالعلاقات مع العرب في فلسطين. وتعرض أعضاؤها لهجمات من جانب جميع الأحزاب اليهودية تقريبا، وجرى وصفهم بالانهزاميين والشتاتيين (نسبة إلى الشتات) وغير الوطنيين.
وقال البروفسور غورين إن "ماغنيس تنبأ بأنه إذا انتصرنا في الحرب، فستكون هناك حروب أخرى. ولن تكون لذلك نهاية. وعندما بدأت معارك حرب الاستقلال (أي حرب العام 48)، حاول وقف تطبيق قرار الأمم المتحدة (تقسيم فلسطين) ودفع الفكرة التي بادرت إليها وزارة الخارجية الأميركية، بأن تجمد الأمم المتحدة قرار التقسيم وتفرض مؤقتا على الجانبين 'نظام وصاية' وتشكيل حكومة مؤقتة، حتى تنضج الظروف لتطبيق اتفاق آخر. واعتقد ماغنيس أن هذه الفكرة هي فرصة لوقف عجلة الأحداث، على أمل أن يتم التوصل في هذه الأثناء إلى تفاهم ويصبح بالإمكان إجراء حوار". وأبلغ القنصل الأميركي ماغنيس بأنه إذا لم يتم إقامة نظام الوصاية قبل 15 أيار، فإن فلسطين ستدخل في فترة "مليئة بالمخاطر وسفك الدماء". وكتب ماغنيس في مذكراته يوم 12 نيسان 1948، أن "ثمة حاجة لتوجه شجاع وبنّاء مثل توجهي. حان الوقت لأن أسافر مع آخرين أو وحدي إلى الولايات المتحدة لتمرير الرسالة". وأمل ماغنيس أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات في حال تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل. وقال لاحقا لمسؤولين أميركيين إنه "لا يمكن خوض حرب من دون مال وذخيرة".
وفي يوم 13 نيسان تلقى ماغنيس اتصالا من الضابط جونز، وهو القائد البريطاني لمنطقة الجامعة العبرية، ليبلغه بمقتل 34 شخصا من موظفي الجامعة ومستشفى هداسا، في هجوم على قافلة كانت متوجهة إلى جبل سكوبوس، وبين القتلى مدير المستشفى، الدكتور حاييم يسكي. واتضح بعد ذلك أن عدد القتلى هو 77 في هذا الهجوم، بينهم كثيرون من أصدقاء ماغنيس. هذا الهجوم زعزع ماغنيس، لكن أسباب الهجوم زعزعته أكثر. فقبل ذلك بأربعة أيام، في التاسع من نيسان، وقعت مجزرة دير ياسين التي قتل فيها أفراد عصابتي إيتسل وليحي الصهيونيتين أكثر من مئة فلسطيني. وفي كلمة ألقاها خلال الجنازة، ربط ماغنيس بين الحدثين واستنكر "الأعمال الوحشية التي ينفذها الجانبان في البلاد في الأيام الأخيرة". وتعرض ماغنيس جراء ذلك لتهجمات من جانب اليهود وبينهم محاضرون في الجامعة التي يرئسها وحتى أنه تم وصفه بالخائن.
على إثر هذه الأحداث تعزز موقفه بأن أميركا فقط بإمكانها إنقاذ اليهود من أنفسهم. وكتب في مذكراته "إنني مسافر إلى نيويورك على أمل أن أستطيع المساهمة في سلامة القدس. إننا بحاجة لنفوذ وقوة مجلس الأمن (الدولي) لكي نلقي سلاحنا". وقال البروفسور غورين إن "ماغنيس خشي من أن ما حدث في الشيخ جراح (مقتل 77 يهوديا) سيحدث لكل اليهود في البلاد. وهو يعبر في رسائله عن تخوفه من دمار القدس".
وسافر ماغنيس إلى الولايات المتحدة حيث عقد هناك اجتماعات مع دبلوماسيين وزعماء يهود وعرض عليهم خطته التي نصت على "تقول أغلبية كبيرة بين اليهود إنه فقط إذا سمح لهم بالهجرة (إلى فلسطين) والبقاء لمدة 20 حتى 30 سنة فإنه لا حاجة لدولة". وقال خلال اجتماع في نيويورك إنه "بالإمكان الحصول على دولة بواسطة الحرب فقط، والحرب لا تبني أي شيء... بإمكاننا 'أخذ' حيفا وطبرية ويافا ونقاطا كثيرة أخرى في البلاد، لكننا سنكون مثل الألمان- في النهاية سنخسر الحرب". وأضاف أن "هناك ملايين كثيرة من المسلمين، وهؤلاء لا يضغطهم الوقت... ملايين كثيرة من العرب مستعدون لتحمل التضحية بالحياة التي يعتبرونها رخيصة نسبيا، مقارنة مع البقية البائسة من اليهود في العالم".
وفي الرابع من أيار، وفيما كان القتال يتصاعد في جنوب القدس ومنطقة بحيرة طبرية، التقى ماغنيس مع وزير الخارجية الأميركي، جورج مارشال. وقال ماغنيس له إن "لا يوجد أي حل ممكن للمشكلة في فلسطين إلا إذا عمل العرب واليهود معا من أجل خلاصهم. ونظام وصاية سيمنحهم هذه الفرصة". وتحمس مارشال من أفكار ماغنيس. وفي نهاية الاجتماع سأله ماغنيس: "سيدي وزير الخارجية، أريد أن أسألك بصورة مباشرة: هل ثمة احتمال لفرض نظام وصاية؟". ورد مارشال عليه بتردد، قائلا إن "الولايات المتحدة اقترحت المشاركة في قوة عسكرية دولية يتم إرسالها إلى فلسطين، لكن لم تنضم أي دولة لهذه المبادرة".
وفي اليوم التالي التقى ماغنيس مع الرئيس الأميركي، هاري ترومان، وقال له إنه "تبقت عشرة أيام ليوم 15 أيار"، أي اليوم الذي ينتهي فيه الانتداب البريطاني على فلسطين. لكن ترومان رد بإجابة غير واضحة، قال فيها إن للديانات السماوية الثلاث مبادئ أخلاقية مشتركة وإنه إذا نجحت بالتوصل إلى تفاهم فإن الشيوعية ستنهار. وأضاف أن القيادة اليهودية رفضت خطة سلام اقترحها "وأنتم اليهود والعرب تفسدون كل شيء".
وفي الأيام العشرة اللاحقة اندلع صراع بين أتباع وايزمان، الذين طالبوا الإدارة الأميركية بالاعتراف بدولة إسرائيل، وأتباع نظام الوصاية. وفي 14 أيار أعلن بن غوريون عن قيام دولة إسرائيل، فيما كان ماغنيس يرقد في فندق وقد اشتد عليه المرض. أمّا الولايات المتحدة، التي علق آمالا عليها، فقد سارعت للاعتراف بإسرائيل. وبعد أقل من خمسة شهور توفي ماغنيس في الولايات المتحدة.
هآرتس: "هتلر يثير انطباعا جيدا"
بعث مراسل صحيفة هآرتس في برلين، غرشون سويت، بنبأ لصحيفته حول محاكمة الزعيم الألماني النازي، أدولف هتلر، بتهمة القذف والتشهير، وذلك في مطلع العام 1932، أي قبل عام واحد من انتخاب هتلر مستشارا لألمانيا. وأغدق المراسل المديح على هتلر. وكتب سويت "يجب علي أن اذكر أن الانطباع الذي يتركه هتلر هو انطباع جيد للغاية". وأضاف أن هتلر، الذي لم يكن معروفا في البلاد، "يبلغ من العمر 46 عاما، لكنه يبدو أصغر من سنه. وبالمناسبة هو أعزب... وتظهر عليه ثقته بنفسه في كل حركاته، وهو يتصرف ويشعر أنه 'نجم'، لأن العالم ينظر إليه الآن، وهذا الأمر يعجبه".
يأتي هذا الخبر الذي نشرته هآرتس حينئذ في سياق دراسة جديدة أعدتها إيلانه نوفتسكي- بندت في إطار دراستها في الجامعة العبرية في القدس للحصول على الدكتوراه، والتي تبحث في تعامل الصحافة العبرية في الييشوف اليهودي في فلسطين مع الأحداث في ألمانيا منذ صعود النازيين إلى سدة الحكم وحتى الحرب العالمية الثانية. ووجدت بندت أنه في الفترة التي سبقت صعود هتلر إلى الحكم، في العام 1933، اهتمت الصحافة العبرية وتابعت تزايد قوة النازيين منذ نهاية سنوات العشرين. إلا أنه بموجب دراستها، فإن الصحافة العبرية في فلسطين واجهت صعوبة في ملاحظة قوة هتلر السياسية البالغة ومركزية العنصرية في أيديولوجية الحزب النازي. وقالت بندت إنه "كلما ازدادت القوة الانتخابية للحزب ازداد الاهتمام فيه. لكن أيا من الصحف لم تدرك خطورة العداء للسامية لدى النازيين".
كانت تصدر في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني سبع صحف، وكانت كل واحدة تمثل حزبا أو خطا سياسيا يهوديا أو صهيونيا، ومنها: "دافار"، صحيفة الهستدروت، "هبوعيل هتسعير"، صحيفة حزب مباي، "هآرتس" الليبرالية، "هتسوفيه" الدينية، "هبوكير" للصهيونيين العموميين. كذلك صدرت صحف تمثل التيار التصحيحي، وبينها "دوءار هيوم" و"حزيت هعام" و"هيردين". وكانت تحصل هذه الصحف على الأخبار من وكالات الأنباء، وأحيانا بواسطة القطارات التي كانت تنقل الأخبار من القاهرة. واستخدمت بعض الصحف مراسلين في ألمانيا، معظمهم من المهاجرين الروس اليهود لألمانيا في سنوات العشرين، وعملوا مع صحف أخرى في العالم.
وبعد انتخابات تشرين الثاني 1932 تراجعت قوة النازيين في ألمانيا قليل. وكتبت صحيفة هآرتس في 11 تشرين الثاني تحت عنوان "نهاية مستقبل هتلر السياسي" أن "كراهية إسرائيل، رغم كل السحر الكامن فيها بالنسبة لجموع في حالة الطوارئ، ليست عملة يمكن الاتجار فيها في ألمانيا. فقد امتص هذا الشعب قدرا كبيرا من الثقافة ولن يوافق على مطلب التمييز وعدم العدل... تجاه المواطنين القاطنين في وطن واحد". وفي 7 كانون الأول اعتبرت هآرتس أنه "لم يعد لهتلر أي أمل بأن يكون الحاكم الأوحد لألمانيا، وفي أحسن الأحوال يمكن للنازيين أن يحظوا بشظايا السلطة".
ورأت بندت أنه بالإمكان تفهم "قِصر نظر" الصحافة العبرية على ضوء انعدام اليقين السياسي الذي ساد الحلبة السياسية الألمانية. فالمعلومات التي وصلت البلاد حول الاتصالات بين الأحزاب في ألمانيا كانت محدودة لأنها كانت سرية. وأضافت أنه عندما تم تعيين هتلر مستشارا في ألمانيا أبدت الصحف العبرية دهشة مطلقة، لأن هذه الصحف "اعتمدت على الرئيس (الألماني) هيندنبروغ، الذي قال إنه ينفر من هتلر ولن يجعله يحكم. ولم تؤمن الصحف بأن أصول اللعبة يمكن أن تتغير بسرعة كبيرة لهذا الحد".
كذلك أكدت بندت أن الصحافة العبرية لم تدرك جوهر الفاشية النازية بعد صعودها إلى سدة الحكم. وكان هناك صحافي واحد فقط، وهو محرر "دوءار هيوم"، ايتمار بن آفي، أدرك حجم قوة النازيين. لكن إحدى الصحف اليمينية، وهي "حزيت هعام"، كانت تمتدح هتلر بعد تعيينه مستشارا وحتى أنها امتدحت الأيديولوجيا النازية: "يجب قذف قشرة معاداة السامية، لكن ليس المضمون المعادي للماركسية". ولم يتوقف كيل المديح لهتلر في هذه الصحيفة إلى أن تدخل زعيم التيار التصحيحي، زئيف جابوتينسكي.