* إسرائيل رصدت المليارات من أجل تشجيع اليهود للانتقال للسكن في منطقتي الجليل والنقب لكسر الأغلبية الفلسطينية فيهما * نسبة العرب في الجليل ارتفعت من 51% إلى 53% رغم المساعي المستمرة لتحقيق أغلبية يهودية *
مع بدايات إسرائيل، ومع انتهاء حملات تهجير وطرد الفلسطينيين من وطنهم، ووضوح التقسيم السكاني وفق المناطق الجغرافية، تنبه قادة إسرائيل وقادة الحركة الصهيونية إلى حقيقة أن الاستيطان اليهودي يتركز في الأساس في مركز البلاد، مع تواجد بسيط في الشمال باستثناء مدينة حيفا الساحلية، ومع شبه انعدامه في الجنوب.
وعلى الفور بدأت الحملات تلو الحملات الهادفة لتشجيع استيطان اليهود في منطقتي الجليل والنقب اللتين تتميزان بأغلبية فلسطينية، وشهدنا مثلا إقامة قرية "نتسيرت عيليت" في العام 1956، التي تحولت لاحقا إلى مدينة، وهي تحد شرقي مدينة لناصرة، وأراد أول رئيس حكومة في إسرائيل دافيد بن غوريون أن تبتلع مدينته الجديدة مستقبلا أكبر المدن الفلسطينية الباقية، الناصرة، إلا أن حلمه لم يتحقق، وحتى وفق المؤشرات فإن نتيجته المستقبلية ستكون عكسية في حال استمرت وتيرة هجرة اليهود من هذه المدينة، وإقبال العرب عليها.
كذلك فإن بن غوريون دعا إلى انتقال اليهود للسكن في الجنوب، لا بل قرر هو شخصيا الإقامة في كيبوتس سديه بوكير في قلب صحراء النقب، وقد نجحت إسرائيل في تحويل مدينة بئر السبع إلى مدينة يهودية كبيرة، ولكن نظرا لظروف المكان الصحراوي فإنها لم تنجح بجر مئات الآلاف إلى الجنوب.
ولم تسقط الدعوات لانتقال اليهود إلى الشمال والجنوب، عن جدول الأعمال الإسرائيلي، في سعي حثيث لتهويد هاتين المنطقتين. وقد اتخذت إسرائيل سلسلة من الإجراءات ذات الطابع العنصري، وعلى رأسها مصادرة الأراضي العربية بشكل خاص في هاتين المنطقتين، والتضييق على البلدات العربية في الشمال، والعمل على تهجير العرب في النقب من بلداتهم التي ترفض السلطات الاعتراف بها، وتركيزهم في تجمعات سكانية خانقة، بهدف انتزاع أراضيهم وتحويلها لمستوطنات يهودية جديدة.
وخلال السنوات الماضية لم تنجح إسرائيل حتى في إقناع المهاجرين الجدد، على مدار السنوات الـ 17 الأخيرة، الذين بلغ عددهم أكثر من 3ر1 مليون نسمة، بالسكن في هاتين المنطقتين، وغالبيتهم الساحقة بقيت في مركز البلاد ومدينتي القدس وحيفا، وفقط قسم صغير منهم سكنوا في هاتين المنطقتين.
قبل عامين ونصف العام بادر من كان وزير "التعاون الإقليمي" في حكومة أريئيل شارون، شمعون بيريس، رئيس الدولة الحالي، لمشروع اصطلح على تسميته مشروع "تهويد الجليل والنقب"، بسبب مضامين هذا المشروع من مخططات، أما التسمية الرسمية فكانت مشروع "تطوير الجليل والنقب".
وقد رصدت الحكومة في ذلك الحين حوالي 5ر3 مليار دولار يتم صرفها على مدى عشر سنوات، وهذا بهدف تشجيع اليهود على السكن في المنطقتين المذكورتين، وقد انشغلت إسرائيل بوسائل إعلامها كثيرا بهذا المشروع، وتكلمت بوضوح عن أن نسبة العرب في منطقة الجليل بلغت 51%، واليوم بعد عامين هي 53%، حسب معطيات دائرة الإحصاء المركزية، وأن نسبة العرب في النقب هي في حدود 40%.
وكان من ضمن هذه المخططات تقديم محفزات مالية كبيرة لكل عائلة تقرر الانتقال للسكن في هاتين المنطقتين، من بينها تسهيلات مالية إلى حد المنح لدى شراء البيوت، عوضا عن أسعار البيوت نفسها أقل بحوالي 40% وأكثر من معدل أسعارها في مركز البلاد.
إلا أنه بعد عامين ونصف العام، وكما يظهر من معطيات رسمية ظهرت أمام لجنة الاقتصاد البرلمانية، يتضح أن أكثر من 40 ألف نسمة غادروا الجليل والنقب في اتجاه المركز في السنوات السبع الأخيرة، من بينهم ستة آلاف نسمة خلال العام الجاري. وهذه معطيات من شأنها أن تبطئ الزيادة الحاصلة من التكاثر الطبيعي لليهود، ونسبة انتقالهم للسكن في هاتين المنطقتين، أمام نسب تكاثر العرب، الذين لا توجد لديهم ظاهرة هجرة بلداتهم، باستثناء أعداد قليلة جدا، ولكن حتى من يغادر بلدته فإنه يبقى مرتبطا بها، بخلاف عن اليهود الذين ينقطعون كليا عن البلدات التي غادروها.
وهذا بطبيعة الحال له أسبابه الموضوعية، ومن أهمها أن العرب مرتبطون تاريخيا واجتماعيا في بلداتهم، التي ولدوا ونشأوا فيها جيلا بعد جيل، ولهذا فإن سرعة الحركة والانتقال في بلدة إلى أخرى هو أمر صعب على مستوى الفرد العربي، وهذا ما تدركه المؤسسة، لذلك فإنها تدفع محفزات مالية عابرة لإغراء اليهود على الانتقال إلى الجليل والنقب لكسر الغالبية العربية فيهما.
"المشكلة الديمغرافية" والمحفزات
على الرغم من المحاولات للتستر على دوافع السلطات الإسرائيلية لنقل اليهود للسكن في الجليل والنقب، والحديث يدور فقط عن تخفيف الضغط على مركز البلاد، إلا أن رئيس لجنة الاقتصاد البرلمانية، من حزب "الليكود"، غلعاد أردان، الذي بادر لبحث "القضية" في اللجنة، لم يستطع مواصلة هذا التستر وبق الحصوة بشكل واضح، إذ قال في تلك الجلسة "إن اللجنة ستسعى لسن قوانين تضمن إعادة دفع محفزات مالية لمن يسكن في الجليل والنقب (بطبيعة الحال لليهود)". وتابع "إننا في الطريق إلى مشكلة ديمغرافية خطيرة في داخل دولة إسرائيل... إننا نجلس على قنبلة اجتماعية موقوتة.. إن الهجرة (من هاتين المنطقتين) متواصلة، والشباب يتركون الشمال والجنوب وينتقلون إلى مركز البلاد، وهناك بيوت فارغة".
وقد تركز الجدل في داخل اللجنة حول المحفزات المالية والامتيازات التي خصصت في الماضي لكل عائلة يهودية تنتقل للعيش في الجليل والنقب، وعلى ما يبدو يجري تقليصها في الآونة الأخيرة، وطالب وزير البناء والإسكان، زئيف بويم، الذي شارك في البحث، بإعادة دفع هذه المحفزات.
وقدم ممثلو اتحاد مقاولي البناء معطيات حول البيوت التي تسوقها وزارة البناء والإسكان في أبرز بلدات الشمال والجنوب (عدا البناء الخاص)، واتضح أنه من العام 2004 وحتى العام 2006، هناك مدن مركزية لم تبع فيها وزارة البناء ولا حتى بيتا واحدا، مثل العفولة في مرج بن عامر قرب الناصرة، ومدينة نهاريا الساحلية، والقريبة من الحدود مع لبنان، وفي الجنوب مثل بلدتي عراد ويروحام.
في حين أن مدنا كبرى مثل بئر السبع ونتيفوت وديمونة في الجنوب، ومجدال هعيمق، القائمة على أنقاض قرية المجيدل الفلسطينية، ونتسيرت عيليت في الشمال، لم تبع خلال الفترة المذكورة سوى بضع عشرات من البيوت فقط.
كذلك فإن مشاريع البناء المستقبلية في هذه المدن يجري تجميدها لأن المقاولين يتخوفون من عدم البناء.
ويصف الصحافي في "يديعوت أحرونوت"، عوفر بطرسبورغ، الأمر بالمشكلة الأخطر، ويقول: "إن المشكلة الأخطر في مجال بيع البيوت هو في بدء مشاريع البناء في مدن النقب والشمال، فمثلا في العام 2006 تم البدء ببناء 1000 وحدة سكنية في مدن الجنوب، في حين أنه في العام 2000 جرى البدء ببناء 3700 وحدة سكنية".
أما في الشمال وحسب الصحافي نفسه، فإنه جرى في العام 2006 البدء ببناء 6100 وحدة سكنية، بما فيها مدينة حيفا، ثالث مدينة في إسرائيل، في حين أنه في العام 2000 جرى البدء ببناء 10 آلاف وحدة سكنية.
يذوقون طعم الإهمال المقصود
المشهد الواضح من المعطيات الرسمية هو أن مشروع تهويد الجليل والنقب يسجل فشلا ذريعا، رغم أن المؤسسة الرسمية، ومن خلال مؤسسات صهيونية مثل "الكيرن كييمت"، تسيطر على الأراضي، التي يتم حرمان العرب منها، رغم أنها في الأصل أراض عربية.
فآلاف العائلات اليهودية التي انتقلت على مر السنين للسكن إما في الجنوب أو في الشمال وصلت إلى بلدات صغيرة منغلقة، ولكن الأهم واجهت قلة في فرص العمل وتنوعاتها، وما تم فتحه من مناطق صناعية في البلدات اليهودية لم يكن بالإمكان استيعاب كافة التخصصات، علما أن البلدات العربية جميعها محرومة من مناطق صناعية.
وأكثر من هذا، فإن النسبة الأكبر من الذين يغادرون الشمال والجنوب هم من جيل الشباب، الذين لا يجدون نمط حياة الشباب في إسرائيل، في البلدات الجنوبية والشمالية، لذلك فإنهم أول المغادرين، وهناك الآلاف منهم الذين لا يزالون مسجلين في بلداتهم ولكنهم عمليا يسكنون في مركز البلاد.
ومما يلفت النظر أن ظاهرة هجرة الشباب نجدها بقوة حتى في مدينة حيفا، التي يتجاوز عدد سكانها 300 ألف نسمة، عوضا عن أكثر من 120 ألف نسمة يسكنون في بلدات ومدن مجاورة في منطقة خليج حيفا.
ويقول الصحافي عوفر بطرسبورغ، "إن إسرائيل وكما يظهر مقسمة إلى دولتين منفصلتين، يهربون من واحدة إلى ثانية لا يوجد فيها مكان للبناء".
ويقول رئيس بلدية يروحام السابق، موطي أفيسرور، في مقال له في الملحق الاقتصادي في صحيفة "يديعوت أحرونوت": "إذا استصعب سكان الشمال والجنوب حتى الآن ترك بلداتهم لأسباب مختلفة إلى المدينة الكبرى (تل أبيب)، فإن سياسة العولمة والسعي لتحقيق الذات، تشجع الجيل الشاب لتحسين ظروف حياتهم ولهذا فإنهم يغادرون إلى مركز البلاد".
ويتابع أفيسرور كاتبا "إن الشباب يغادرون الشمال والجنوب من منطلق اللا مفر، على ضوء محدودية فرص العمل المعروضة عليهم في مناطق البلدات التي يسكنونها، وحين يكون الخيار بين راتب يساوي ضعف ونصف ضعف معدل الرواتب في البلاد، وبين راتب الحد الأدنى بنفس الوظيفة في الشمال والجنوب، فإن القرار سيكون واضحا لديهم".
مما لا شك فيه أن إسرائيل مقبلة على انفجار سكاني في مركز البلاد، في تل أبيب وشبكة المدن المترابطة معها، مقابل تراجع أعداد السكان (اليهود) في الشمال والجنوب، كما يؤكد ذلك مدير عام وزارة البناء والإسكان، حاييم بلايكوف.
وحتى الآن فشلت كافة المشاريع، مثل المشروع الأكبر لتهويد الجليل والنقب، أو شق شارع رقم 6، الذي يطلق عليه اسم "شارع عابر إسرائيل"، الذي هدف إلى تقليص المدة الزمنية في السفر بين المناطق الثلاث، الشمال والمركز والجنوب، ولا يبدو ان إسرائيل ستجد حلا لمعضلتها هذه، لا بل إن الخيار الماثل أمام مجموعات جدية من الذين لم يحققوا "أحلامهم" في مركز البلاد هو مغادرة إسرائيل كليا.
وعلى الرغم من أن هذا يعتبر موضوعا قائمًا بحد ذاته، إلا أنه تكفي الإشارة إلى أنه وفق تقديرات دائرة الإحصاء المركزية فإن حوالي 750 ألف إسرائيلي يقيمون خارج إسرائيل بشكل ثابت، في حين أن عدد الذين يتم تسجيلهم كمهاجرين سنويا يتراوح ما بين 7 آلاف إلى ثمانية آلاف نسمة.