لا خلاف على ان اسرائيل، حتى الآن، هي دولة رفاه. "اسرائيل لا تزال توفر احتياجات مواطنيها بصورة معقولة"، يقول د. جوني غال من كلية العمل الاجتماعي في الجامعة العبرية في القدس. وهو يعتقد بأن اسرائيل تخطو نحو النموذج الأمريكي، الذي يتقلص فيه تدخل الدولة ويصبح اكثر انتقائية، بينما كانت اسرائيل في السبعينات أقرب الى النماذج الأوروبية لدول الرفاه الاشتراكية - الدمقراطية.
شكلت الحكومة الاسرائيلية هيئة خاصة لمحاربة السوق السوداء في اسرائيل. وبموجب ذلك اقيمت محاكم للمحاكمات السريعة، تراوحت العقوبات التي اصدرتها بين الغاء رخصة العمل وبين السجن. ونظمت حملات تفتيش مباغتة للسيارات لضبط المهربين وتم الاستيلاء على غنائم كثيرة من: دواجن، وخضروات، ومشروبات روحية، وورق صقيل فاخر.
حدث هذا قبل 50 عامًا فقط. آنذاك، بلغت نسبة البطالة في اسرائيل اكثر من 20%، وكانت نسبة التضخم المالي مكونة من رقمين، وكذلك العجز. اعتمدت الحكومة نظام التقنين باسم العدالة الاجتماعية والمساواة، رغم حنق البرجوازيين، ولمصلحة السماسرة. كل مواطن حصل على مخصصات متساوية من الغذاء، والملابس، والأثاث، والسلع الأساسية الأخرى. المرضى فقط كانوا يستحقون زيادة في المأكل. وجنبًا الى جنب، ارست الحكومة اسس نظام الدعم للمواطنين "من المهد الى اللحد"، بكلمات خبير الاقتصاد البريطاني وليام بوريدج الذي يعتبر أب دولة الرفاه الحديثة.
آنذاك، وفي اوج العوز القومي والحاجة الى المساواة في التوزيع، نسجت الحكومة الاسرائيلية خيوط شبكة الضمان الاجتماعي؛ اما اليوم، في اوج اللا مساواة في اقتسام المداخيل، فهي تفتح فيها ثقوباً كبيرة. آنذاك، استجمعت القوى لمحاربة الرأسمال الأسود، بينما ترفع اليوم يديها مستسلمة حياله. آنذاك، حاولت العمل بروح الاشتراكية الاجتماعية، بينما تتأرجح اليوم برياح الداروينية الاجتماعية.
في العام 1926 اعتمدت حكومة الانتداب البريطاني القانون الاجتماعي الاول لرفاهية سكان فلسطين - تأمين اصابات العمل. لم تكن تلك فكرة اصيلة. فقد ابدعها قبل ذلك بحوالي 50 عامًا، احد اكثر القادة المحافظين تشددًا الذين عرفتهم اوروبا، المستشار اوتو فون بسمارك، رغم ان دوافعه كانت تسلطية اكثر من كونها اشتراكية. في البداية كان تأمين حوادث العمل بيد شركات تأمين خصوصية، حتى تم تأميمه في العام 1954 من قبل مؤسسة "التأمين الوطني" التي اقيمت في تلك الأيام.
اليوم، في اطار الخطة الاقتصادية التي يطرحها وزير المالية بنيامين نتنياهو، تقرر للمرة الأولى المسّ بهذه المخصصات التاريخية وخفضها بنسبة 14%. حتى اليوم، كان العامل الذي يصاب في حادثة عمل ويصبح عاجزاً بنسبة 100%، كان يحصل على مخصصات شهرية بنسبة 75% من راتبه. اما اليوم، وجراء التقليص، فسيحصل على مبلغ اقل بـ 14%، أي 64% فقط من راتبه قبل الاصابة. تسويغ وزارة المالية: هذه الخطوة ترمي الى تشجيع مصابي العمل العاجزين، على العودة الى العمل. حقيقة ان غالبيتهم عاجزون وغير قادرين على العمل وان غالبية اصحاب العمل غير مستعدين لاستيعاب عمال عاجزين، لم تؤخذ بالحسبان. "زوجي لم يكن قادرًا على العودة الى العمل"، تقول ارملة مواطن اسرائيلي عمل طوال 36 عامًا ودفع خلالها رسوم التأمين الوطني، قبل ان يصاب في حادثة عمل. "انني اعتاش على مخصصات العجز التي استحقها، 4،000 شيكل في الشهر. الآن سيقلصون من هذا المبلغ 600 شيكل. وماذا بعد؟ هل سيرسلونني الى الجليد مثل اهل الأسكيمو؟".
"رسالة السلطة واضحة وقاسية - خسارة في تبذير الأموال على الطبقات الضعيفة لأنها غير منتجة"، يقول المحامي يوفال البشان، الذي أسّس قسم حقوق الانسان في الكلية الأكاديمية للحقوق في رمات غان. "كل ما تم انجازه على مدى 30 - 40 عاماً بجهود كبيرة من اجل دفع اسرائيل نحو نموذج اوروبي من دولة الرفاه، يتآكل ويتهدم الآن"، يقول بروفيسور افراهام دورون، رائد ابحاث دولة الرفاه في اسرائيل.
ويشير دورون الى مخصصات الشيخوخة كنموذج. فحين بدأ العمل بها في سنوات الخمسين كانت تعادل 24% من الأجر المتوسط في البلاد (1،698 شيكل في الشهر بالقيمة الحالية، اذ يبلغ متوسط الأجور 7،075 شيكل). لكنها انخفضت، منذ ذلك الوقت، الى 16% من الأجر المتوسط (1،132 شيكل)، وفي نهاية فترة التجميد التي تفرضها عليها خطة نتنياهو ستقل قيمتها بـنسبة اخرى اضافية تبلغ 18%. ووفقا لما يقوله د. مومي دهان، من الجامعة العبرية في القدس، فان تجميد كافة مخصصات التأمين القومي بمستوى الأعوام 2001 - 2006 ليست له اية علاقة بخطة خفض العجز في ميزانية 2003. وهو يعتقد بأن هذه الخطوة ترمي، بوضوح، الى ضرب الأمن الاجتماعي للمواطنين في اسرائيل.
محاولة المس بالأمن الاجتماعي تشكل دافعا غريزيًا لدى موظفي وزارة المالية. فمنذ العام 1953، وخلال المداولات في الكنيست حول تأسيس "التأمين الوطني"، اكد المستشار القضائي لوزارة العمل، تسفي بار - ينيف، على "ضرورة الاهتمام بألا تضع وزارة المالية يدها على اموال التأمين الوطني". وفعلا، منحت السلطة التشريعية مؤسسة "التأمين الوطني" مكانة مستقلة لحمايتها من مؤامرات كهذه.
احتلال التأمين الوطني
في كتابهما "رفاهية موقوتة" يصف بروفيسور يوسي تمير، المدير العام السابق لمؤسسة "التأمين الوطني"، والخبيرة الاقتصادية ماريا أفيميليخ، هذه المسألة بوضوح. "وزارة المالية"، يكتبان، "مشغولة بمحاولة هوسيّة لتقزيم التأمين الوطني، وان امكن تبخيره ايضا. موظفو قسم الميزانيات لا يحبون الاستحقاق وفق القانون، الذي ينزع من ايديهم السيطرة على الميزانيات. المخصصات التي تدفعها مؤسسة التأمين الوطني هي "طيار اوتوماتيكي" كبر وازداد طبقا للزيادة في عدد السكان المستحقين وطبقا لقواعد تعديل هذه المخصصات".
ولكن، بينما نجح السياسيون، طيلة السنوات الماضية، في صد محاولات السيطرة من قبل وزارة المالية، فقد رفعت غالبيتهم ايديها استسلاما في السنة الأخيرة، فيما يستعد الآخرون، ومنهم وزير المالية نتنياهو، لاتمام الاحتلال. ان تعيين محاسب من قبل وزارة المالية للعمل في التأمين الوطني - بدأ عمله رسميا مؤخرًا - يرمي الى تشديد السيطرة على المؤسسة، بينما ترمي خطة توحيد الجباية في التأمين الوطني وضريبة الدخل، كما اقرتها الحكومة، الى ضمان السيطرة على المدخولات.
ويرى د. آشر بن أرييه، الخبير في سياسة الرفاه والمحاضر في كلية العمل الاجتماعي في الجامعة العبرية في القدس، ان المس باستقلالية التأمين الوطني يشكل مسّا بواحد من اركان دولة الرفاه الأساسية الثلاثة. كما تضرر الركنان الآخران ايضا في الفترة الأخيرة. لقد تم تفكيك المثلث المقدس المتمثل في تمويل الأمن القومي من قبل الحكومة، والعمال واصحاب العمل، بعد ان نجح اصحاب العمل في التهرب من دفع حصتهم كاملة وحصلوا، في ذلك، على دعم سخي من وزارة المالية بواسطة ترتيبات مختلفة للتعويض. صحيح ان وزارة المالية ألزمت اصحاب العمل، العام الماضي، برفع مدفوعاتهم عن العمال بنسبة 1%، لكن خطة نتنياهو عادت وقلصت لهم هذه النسبة، مما كلف ميزانية مؤسسة التأمين الوطني مبلغ 1،8 مليار شيكل.
الركن الاساسي الثالث الذي تضرر هو مركّب التأمين في المخصصات التي تدفعها مؤسسة التأمين الوطني. المواطن يدفع رسوم تأمين الوطني لتشكل بوليصة تأمين تحميه وقت الحاجة - البطالة، المرض، الاصابة في حادث، الترمّل وغيرها. مؤسسة التأمين الوطني تخصص، من الأموال التي تجبيها، نسبا ثابتة لفروع التأمين المختلفة. لكن مخصصات البطالة تآكلت في السنوات الأخيرة جراء سلسلة من التقليصات، ولا يتم دفعها اليوم الا لواحد فقط من بين كل ثلاثة عاطلين عن العمل. كذلك تآكل تأمين الأمهات ولا تدفع منحة الولادة اليوم الا عن الولادة الأولى.
"المشكلة الساسية ليست في مستوى المخصصات، بل بالمبادىء الأساسية الكامنة في جوهر دولة الرفاه"، يقول بن أرييه. "اسرائيل لا تزال دولة رفاه، حتى الآن. ولكنها لن تبقى كذلك إن استمرت التوجهات الحالية".
وفقا لكل المقاييس المعمول بها، تعتبر اسرائيل حقا دولة رفاه. منذ العام 1980 طرأ ارتفاع متزايد في المصروفات الاجتماعية الحكومية - على خدمات التعليم، والصحة، والرفاه ومخصصات الدعم، التي سجلت رقما قياسيا بلغ 55% من ميزانية الدولة لسنة 2002. وهذا مقابل 30% فقط في العام 1980. وتيرة الزيادة في المصروفات الاجتماعية ازدادت جدا في العقد الأخير، ولكن - كما يشير معدو التقرير السنوي عن المصرفات الحكومية للخدمات الاجتماعية في مركز دراسات السياسة الاجتماعية في اسرائيل - معطيات ميزانية الدولة في العامين 2002 و 2003 تبيّن وجود تباطؤ في هذه الزيادة، بدأ في العام 1996، بل سجل انخفاضاً بنسبة 3% في حجم المصروفات الاجتماعية في العام 2003.
في مخصصات الدعم التي تدفعها مؤسسة التأمين الوطني حصل هبوط اكثر حدة. في سنة 2001 بلغ مجموع مخصصات الدعم هذه حوالي 45 مليار شيكل، ومنذ ذلك الوقت تقلصت هذه المخصصات بحوالي 6 مليارات شيكل، سواء بالتقليصات او بتعديل وتغيير معايير الاستحقاق. وتقترح خطة نتنياهو تقليصا اضافيا في هذه المخصصات بحوالي 2،3 مليار شيكل، على مدار ثلاث سنوات ونصف السنة. والى هذا ينبغي ان نضيف ايضا توفيرا تراكميا يبلغ 9 مليارات شيكل، نتيجة تجميد قيمة هذه المخصصات حتى نهاية العام 2006.
في مجال النفقات القومية على التعليم، الوضع في اسرائيل مماثل للمعدل في الدول الغربية، مع ان ربع هذه النفقات لا يزال يتم تمويلها من مصادر خصوصية - الأهالي وصناديق الدعم. كذلك مستوى النفقات القومية على الصحة مماثل للمعدل في دول OECD (منظمة التعاون الاقتصادي والتطوير، التي تشمل عشرات الدول المتطورة). وبالمثل ايضا نسبة التمويل الجماهيري من اجمالي هذه النفقات. ولكن لا بد من التذكير بأن أكثر من ثلث هذا المبلغ هو من الرسوم الصحية التي يدفعها المواطنون، بينما معدل ما تنفقه الحكومة على الخدمات الصحية للفرد يشهد انخفاضا مستمرا منذ العام 1994. في السنوات الأخيرة يتناقص، باستمرار، المبلغ الذي تنفقه الحكومة على صحة مواطنيها. هذا المبلغ يصل اليوم الى 2،200 شيكل للفرد، مقابل 2،600 شيكل في العام 1994، حسب اسعار العام 2001، وفق ما يبينه تقرير مركز دراسات السياسة الاجتماعية في اسرائيل.
الزيادة الأكبر في نفقات الرفاه سجلت في خدمات التمريض التي تتيح للمسنين العاجزين - الذين يزداد عددهم باستمرار - البقاء في منازلهم (وهو ترتيب تقل تكلفته بكثيرعن تكلفة بيوت المسنين والعجزة) وفي مخصصات التأمين الوطني. فقد ازدادت هذه اكثر بكثير من نفقات التعليم والصحة، مما يعكس تغيرات وتحولات ديموغرافية، واجتماعية، وسياسية واقتصادية. المخصصات، بغالبيتها، مرتبطة بمتوسط الأجور في البلاد، وهذا ما يفسر ارتفاعها بحوالي 10% في العام 2000، كنتيجة مباشرة للارتفاع الحاد في الجور بفضل الازدهار الذي شهده قطاع الصناعات التكنولوجية العالية في تلك السنة. اما الآن، فقد قررت وزارة المالية ربط هذه المخصصات بجدول غلاء المعيشة للمستهلك ابتداء من العام 2007، علما بأن هذا الجدول يرتفع، عادة، بأقل من ارتفاع متوسط الأجور.
ثمن مساواة العاجزين
حجم المصروفات الأكبر، 34% من المخصصات، هو على مخصصات الشيخوخة، طبقا للزيادة الكبيرة في هذه الفئة من مجموع السكان. وتعكس الزيادة في عدد الحاصلين على مخصصات ضمان الدخل الزيادة في نسبة البطالة خلال العامين الماضيين. والزيادة في مخصصات الأولاد هي نتيجة الدمج بين نسبة التكاثر الطبيعي، المرتفعة نسبيا عما هي عليه في الغرب، وبين قرار سياسي بزيادة المخصصات للعائلات كثيرة الأولاد، بواسطة قانون العائلات كثيرة الأولاد الذي سنته الكنيست بمبادرة من عضو الكنيست شموئيل هلبرت (من "يهدوت هتوراة").
حجم المصروفات على مخصصات المرضى العاجزين، الفرع الثاني من حيث الحجم في التأمين الوطني بعد الشيخوخة، يعكس بالأساس تعاظم قوة هذه الفئة التي لم تعد تكتفي بمخصصات تضمن البقاء فحسب، بل تطالب بالمساواة في العيش، كما يعكس ايضا الصعوبة الكبيرة في ايجاد اماكن عمل ملائمة للعاجزين.
لكن احد مصادر الاحباط الاكثر عمقا بين دعاة دولة الرفاه، هو العلاقة العكسية بين الزيادة في مدفوعات المخصصات وبين تقليص حجم الفقر في اسرائيل. في سنوات السبعين انقذت مخصصات الدعم 70% من المواطنين الذين كانوا في دائرة الفقر وانتشلتهم الى ما فوق خط الفقر. اما اليوم، فهي لا تنقذ سوى 45% فقط من الفقراء. ومع التقليص في مخصصات ضمان الدخل، سيقل عدد الفقراء الذين يمكن ان تنقذهم هذه المخصصات. وأسباب ذلك كثيرة، لكن السبب الأكثر جدية وأهمية بالنسبة الى دولة الرفاه يكمن، كما يقول بن أرييه، في حقيقة ان المدفوعات الاجتماعية معدة للجسر على فجوات معقولة في المداخيل والأجور، لا على فوارق شاسعة في الأجور تصل نسبتها الى عشرات ومئات بالمئة، كما تظهر في مقياس عدم المساواة، الذي لا ثان له الا في الولايات المتحدة.
العبء المتزايد على نظام الرفاه ليس ميزة اسرائيلية فريدة. ازدياد نسبة الشيخوخة بين السكان، والزيادة في عدد العائلات الوحيدة الوالد، والعولمة التي تؤدي الى انخفاض الأجور وتدني الخدمات، كلها عوامل تستوجب في اماكن اخرى من العالم ايضا مواجهة الأسئلة المتعلقة بمستوى مخصصات الدعم ومعايير الحصول عليها. حتى السويد، النموذج والقدوة لدولة الرفاه على النمط الاشتراكي - الديموقراطي، اضطرت الى خفض مستوى مخصصات الدعم، رغم ان التزامها والتزام مواطنيها بالحفاظ على الخدمات الاجتماعية، بثمن زيادة الضرائب، بقي متينا كما كان.
في اسرائيل، بالمقابل، تآكل هذا التعاضد كثيرا، رغم كونه هو ايضا أحد مقوّمات دولة الرفاه. بروفيسور اوري يناي، من كلية العمل الاجتماعي في الجامعة العبرية في القدس، يعزو ذلك ايضا الى التآكل الذي حصل في الطبقة الوسطى. "الانسان الذي يجد صعوبة في اعالة نفسه وعائلته لا يريد ان يهتم بالفقراء، انه مشغول بالحفاظ على نفسه. انها سيرورة خطيرة جدا"، يقول يناي. والحل، برأيه، ليس في تقليص مخصصات الدعم وانما بطريقة الضرائب التقدمية، بحيث ان من يعمل وكسب اكثر من حد معين يساهم بقسط اكبر، بينما من لا يصل دخله الى عتبة الضريبة يتم اعفاؤه. "الناس لا يفهمون ان الأموال التي تدفعها الدولة كدعم للفئات الضعيفة هي التي تحرّك عجلات الاقتصاد. ذلك ان هذه المخصصات تتيح للضعفاء شراء الحاجيات، والسلع والخدمات"، يقول يناي. ويضيف ان الأموال التي تدفع للميسورين والمتمولين، بالذات، لتشجيعهم على اقامة المصانع، لا تصل الى اهدافها دائما. الأغنياء ينقلون اموالهم وارباحهم الى خارج البلاد، واحيانا ينقلون المصانع بأكملها ايضا.
"الايديولوجية لم تعد تؤكد على التكافل الاجتماعي والمسؤولية المشتركة، وانما على المسؤولية الفردية"، يقول بروفيسور بنيامين غيدرون، مدير مركز ابحاث القطاع الثالث في جامعة بن غوريون في النقب. النظرة الى العاطلين عن العمل تعكس هذا جيدا. في هذا السياق يندرج تصريح الوزير في وزارة المالية مئير شطريت حين اشغل منصب وزير القضاء في الحكومة السابقة: "ليس هنالك عاطلون عن العمل، وانما كسالى وخاملون". غيدرون يعزو هذه النظرة الى تأثيرات العولمة. ثمة منظومات اقتصادية تلف العالم، يقول، ليس لديها أي التزام تجاه "المساكين" في ديمونه، وانما فقط تجاه زيادة ارباحها الى اقصى ما يمكن. وبهذه الروح ايضا ترمي الحكومة عن نفسها المسؤولية تجاه مواطنيها الأكثر فقرا وعوزا.
دولة رفاه مُجنًّدة
ترسم المعطيات التي يجمعها مركز غيدرون، جيداً، سيرورة الخصخصة المتسارعة للخدمات الاجتماعية. صحيح ان الدولة تموّلها، لكنها تسعى الى ان تفعل ذلك بأقل ثمن ممكن وبأقل درجة ممكنة من المسؤولية. الخطر، كما يعتقد غيدرون، يكمن في قيام الحكومة بتقليص مدفوعاتها للجمعيات الأهلية، في اطار تقليص الميزانية، فتضطرها الى البحث عن مصادر تمويل بديلة في القطاع التجاري والخاص. في السنوات الأخيرة، ضاعفت الحكومة تقريبا حجم شراء الخدمات من جمعيات في مجالات التعليم، والصحة، والدين والرفاه. ثمة جمعيات تدير مدارس داخلية للأولاد في خطر، وبيوتا للمسنين، ومستشفيات تمريضية ونزلا للمتخلفين. ووفقا لمعطيات مركز أبحاث القطاع الثالث، فقد دفعت الحكومة الى جمعيات مختلفة مقابل خدمات شتى في العام 1997 مبلغ 3،22 مليار شيكل، وفي العام 2001 قفز المبلغ الى 7،78 مليار شيكل.
ويرى د. داني غوطفين، استاذ تاريخ الشعب الاسرائيلي في جامعة حيفا، ان عملية الخصخصة تمثل ضرب حكومات اليمين لشرعية دولة الرفاه. "دولة الرفاه هي موقف سياسي، وفكري، وأخلاقي، يمكن تطبيقه بصور مختلفة"، يقول. ويضيف ان الجوانب الوظيفية لدولة الرفاه تبقى قائمة، ويمكن ان تبقى، زمنا طويلا. هذا أشبه بدجاجة قُطع رأسها بينما جسمها يواصل الحركة بتشنجات لا إرادية.
غوطفين مقتنع بأن اليمين يرتكب خطأ فادحا وخطيرا بالحرب الفكرية التي يشنها على شرعية دولة الرفاه. "اليمين يعتبر دولة الرفاه كأنها قرض كبير بلا فائدة يعتاش على حساب المجتمع، ولا يدرك ان النظم القوية في مجالات التعليم والصحة والرفاه هي ضرورية وحيوية جدا لكي يقوم المجتمع الصناعي بمهماته"، يقول. "اليمين لا يعتبر التعليم عنصرا مُنتجا، وانما مصروفا اجتماعيا. لكن من الذي يؤهل لعوديد طيرا (رئيس اتحاد الصناعيين) مهندسيه، من روضة الطفال وحتى معهد "التخنيون"؟ ومن الذي يدير الحضانات النهارية لكي تستطيع الأمهات الخروج الى العمل في الصناعات الانتاجية؟"
غوطفين لا يتهم اليمين وحده فقط. فهو يقول ان بعض السياسيين من اليمين ومن اليسار، على السواء، يهدمون دولة الرفاه ويدمرونها، لأنهم لا يميزون بين رشوة فئوية، مثل زيادة مخصصات التأمين للولد الخامس بنسبة 40% بضغط من أحزاب "الحريديم"، وبين الوظائف الشرعية لدولة الرفاه، مثل دفع مخصصات تأمين للأولاد بمستوى معقول. اصحاب المفاهيم الليبرالية - الجديدة، مثل زعيم حزب شينوي يوسف لبيد، يستغلون بطريقة بشعة التشويهات الناتجة عن الرشاوى السياسية من اجل مهاجمة وهدم دولة الرفاه، لأنهم اصلا وبشكل مبدئي لا يؤمنون بها، كما يقول غوطفين. ومثلما يعتبر يناي مخصصات الدعم وسيلة تساعد في تحريك عجلات الاقتصاد، كذلك غوطفين يعتبر مخصصات تأمين الأولاد دعما لسوق العمل، يتيح لأصحاب العمل دفع حد ادنى من الأجور ويتيح للعائلات العيش رغم هذه الأجور المنخفضة.
"الانتاج والرفاه هما منظومتان متداخلتان، ليستا منفصلتين ومتخاصمتين كما يصورهما بنيامين نتنياهو"، يقول.
لا خلاف على ان اسرائيل، حتى الآن، هي دولة رفاه. وهذا مثلما ان كل الدول الغربية هي دول رفاه، بهذا الشكل او ذاك، دليلا على نظرة غالبية المفكرين بأن على المجتمع الصناعي ان يحافظ على عناصر معينة من دولة الرفاه، لحماية نفسه من قوة الرأسمالية غير المحدودة. "اسرائيل لا تزال توفر احتياجات مواطنيها بصورة معقولة"، يقول د. جوني غال من كلية العمل الاجتماعي في الجامعة العبرية في القدس. وهو يعتقد بأن اسرائيل تخطو نحو النموذج الأمريكي، الذي يتقلص فيه تدخل الدولة ويصبح اكثر انتقائية، بينما كانت اسرائيل في السبعينات أقرب الى النماذج الأوروبية لدول الرفاه الاشتراكية - الدمقراطية.
د. زئيف روزنهاك، عالم اجتماع من الجامعة العبرية في القدس متخصص في سياسة دولة الرفاه، يعتقد بأنه حتى في السنوات التي اعتبرت سنوات ازدهار، في الستينات والسبعينات، لم تكن اسرائيل تعتمد سياسة رفاه شاملة او عالمية. "القول بأنه كانت هنا في اسرائيل اشتراكية ذات مرة، هو كلام اساطير"، يقول ، "اسرائيل كانت، على الدوام، دولة رفاه مُجنّدة، في البداية من أجل دفع الفكرة الصهيونية، ومن ثم لدعم الحروب لاحقا". ويشير روزنهاك الى انه تُسمع، اليوم ايضا، ادعاءات عن "خطر ان تمسّ التقليصات الاقتصادية باستعداد ابناء الشبيبة للتجند في الجيش ومحاربة الانتفاضة".
"دولة الرفاه الاسرائيلية كانت ضعيفة دائما، واعتمدت التمييز دائما بين العرب واليهود، بين الغربيين (اشكناز) والشرقيين (سفراديم)، وبين النساء والرجال، وبين الاسرائيليين والغرباء"، يقول.
في الثمانينات بدأت تتجذر مفاهيم - يعبر عنها وزراء المالية اليوم ايضا بطريقة واضحة - مؤداها ان دولة الرفاه تعرقل، بل تخنق، النمو الاقتصادي. لكن التحليل الذي اجراه مركز ابحاث السياسة الاجتماعية يقدم دليلا عكسيا، بالذات. "سنوات التسعينات اثبتت ان الاقتصاد والرفاه ليسا متنافسين"، يكتب معدو التقرير، الذي حرّره بروفيسور يعقوب كوب. بين السنوات 1990 و 1996 ارتفعت النفقات الاجتماعية بنسبة متوسطة مقدارها حوالي 7% سنويا، فيما سجل النمو الاقتصادي ارتفاعا بوتيرة كبيرة بلغت نسبتها المتوسطة 6%. وكذلك في سنوات التراجع النسبي، بين 1996 و1999، سجل ارتفاع في النمو الاقتصادي وفي النفقات الاجتماعية بنسبة متساوية. "فقط الركود الاقتصادي في السنتين الأخيرتين هو الذي خلخل هذا التوازن"، كما اكد التقرير.
لقد صمدت بريطانيا ايضا في وجه السياسة الاقتصادية التي اعتمدتها مارغريت تاتشر، والتي وجهت ضربة قاصمة للنقابات المهنية، لكن نجاحها في نهاية المطاف اقتصر على الخطابة، اكثر منه في الأفعال، ومنح الناخبون فوزا ساحقا لتوني بلير الذي اقترح طريقا ثالثا بين الاشتراكية وبين الرأسمالية المنفلتة. الولايات المتحدة سجدت لرونالد ريغان وسياسته المحافظة، لكنها منحت بيل كلينتون والطريق الوسطى التي اعتمدها في التسعينات فرصة كبيرة جدا. ليس واضحا ما اذا كان الناخب الاسرائيلي، الذي منح في كانون الثاني تأييدا غير مشروط لسياسة ارئيل شارون الأمنية، قد ادرك انه تلقى في آذار ثورة تاتشرية في المجال الاقتصادي - الاجتماعي.
من وجهة نظر نتنياهو، يفترض بدولة الرفاه ان تهتم فقط بالفئات التي تعاني من ضائقة حادة. انها دولة رفاه تضمن حدا ادنى فقط من الأمن الاقتصادي - الاجتماعي، يضمن فقط الحفاظ على النظام الاجتماعي ويمنع خروج الجماهير الغاضبة الى الشوارع. لكن روزنهاك يقول ان هذا التوجه يتناقض مع سياسة الحكومة، لأن الضغط من اجل الخصخصة وتحجيم دولة الرفاه لا يتوافق مع اسلوب ادارة الصراع بوسائل عنفية. "لو ان عملية السلام حققت تقدما، لربما كان بالامكان تقليص دولة الرفاه والتفرغ أكثر للخصخصة والعولمة"، يقول، "ولكن من اجل الاحتفاظ بمجتمع مُجنّد، يجب المحافظة على تقليص الفجوات".