* المؤرخ الإسرائيلي د. ميرون بنفينستي لـ"المشهد": لا أقترح التشديد على الترانسفير وكأنه توجّه جديد لدى اليمين فقد كان موجودًا طوال الوقت * اليسار الإسرائيلي يفتقر إلى أية سياسة بديلة وحتى إلى شعار يمكن أن يجمّعه، باستثناء فكرة الفصل وهي نابعة لدى قسم كبير منه عن فكر عنصري *
أجرى اللقاء: بلال ضاهر
يعتبر المؤرخ الإسرائيلي د. ميرون بنفينستي واحدًا من الشخصيات الليبرالية في إسرائيل فيما يتعلق بتوجهاته حيال حلّ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. ويتمتع بنفينستي بجرأة عندما يطرح أفكارا ليست عادية، أحيانا من خلال مقاله الأسبوعي في صحيفة "هآرتس"، وغالبا ما تكون أفكارًا غير مقبولة على معظم الإسرائيليين كونها تأخذ في كثير من الأحيان مصالح الفلسطينيين بعين الاعتبار.
ولعل أجرأ فكرة يطرحها منذ سنوات تلك التي تقول إن الوضع السياسي والاحتلال لن يتغيرا إذا ما استمر العرب واليهود، وخصوصا العرب، في التفكير بعملية سياسية تقود إلى قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ويتوصل بنفينستي إلى أنه يتوجب أن تقوم في هذه البلاد، بين نهر الأردن والبحر المتوسط، دولة واحدة ثنائية القومية.
ويأتي الحديث الذي أجراه "المشهد الإسرائيلي" مع الدكتور بنفينستي في وقت تتصاعد فيه دعوات اليمين المتطرف الإسرائيلي إلى طرد العرب من البلاد أو تشجيعهم على الهجرة منها.
(*) "المشهد الإسرائيلي": عاد اليمين الإسرائيلي مؤخرا إلى إطلاق شعارات الترانسفير. هل هو في أزمة بعد انهيار فكرة "أرض إسرائيل الكبرى"؟
- بنفينستي: "لا أعتقد أن اليمين يعود إلى شعارات الترانسفير، فهذه الشعارات كانت موجودة طوال الوقت، لكننا نستمع الآن إلى عدد أكبر من الأصوات التي تتحدث عن الفصل. والترانسفير هو نوع من الفصل بين الشعبين. ومثل هؤلاء يوجد أيضا في صفوف اليسار، وأقصد من يتحدث عن الفصل. والجدار هو فصل. ولذلك هناك ترانسفير فعلي وهناك منظور للترانسفير. وما كنت أشدد على فكرة الترانسفير، بمعنى الطرد والتطهير العرقي، لأني أعتقد أن معظم الإسرائيليين يدركون أن التطهير العرقي مستحيل في ظروف القرن الحادي والعشرين وبعد رواندا وكوسوفو، كما أن لديهم مشكلة تقنية وهي أنه لا يوجد مكان يمكن طرد الفلسطينيين إليه. في الماضي كان يمكن الطرد إلى مصر والأردن والضفة الغربية، لكن الآن لا يوجد مكان يمكن طرد الفلسطينيين إليه".
(*) عضو الكنيست اليميني المتطرف بنيامين ألون يتحدث عن طرد اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية إلى البوسنة وهنغاريا مقابل مبلغ 100 ألف دولار لكل عائلة فلسطينية.
- بنفينستي: "هذه الاقتراحات هي ضرب من الهراء. كذلك فإن البلغاريين شعروا بالإهانة جراء أقوال ألون التي ظهر منها وكأنه بالإمكان شراء البلغار. وإنّ مجرد الحديث عن طرد إلى بلغاريا يثبت أنه لا يمكنهم القيام بما حاولوا تنفيذه في كفر قاسم (في إشارة إلى مجزرة كفر قاسم في العام 1956). لكن هذا لا يجعل الأمور أسهل، لأن أحد أكثر الأمور المقلقة هو حقيقة أن جميع الإسرائيليين تقريبا يؤيدون الفصل، أي نحن هنا وهم (الفلسطينيون) هناك. والجدار هو النصب التذكاري الأكبر لهذا الفكر. وهذا يقلقني بما يكفي ولا أريد أن أمنح اليمين متعة المناقشة حول الترانسفير لأنه عندها سيصبح كل من يعارض الترانسفير رجلا جيدا. وأنا لا أعتقد أن هذا صحيح. إذا أنه من السهل للغاية مناقشة (زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المتطرف) أفيغدور ليبرمان، والجميع يتناقشون مع ليبرمان لأنهم يعتقدون أنه بذلك يتم تعريفهم على أنهم جيدون، لكن الأمور لا تسير على هذا النحو. ولذلك فإني لا أقترح التشديد على الترانسفير وكأنه توجّه جديد لدى اليمين".
(*) كيف تفسر تصريحات أقطاب اليمين المتطرف الإسرائيلي مثل ليبرمان وألون بخصوص الترانسفير؟
- بنفينستي: "لست واثقا من أن فكرة أرض إسرائيل الكبرى قد انهارت وانتهت. ما حدث هنا هو أمر آخر، وهو أن اليمين واليسار، أي الحركة الصهيونية، توصلت إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن طرد العرب ولا دمجهم ولذلك قرر الصهاينة أن يرسموا حدود أرض إسرائيل وفقا لمصالحهم العرقية بشكل أحادي الجانب وأن يتنازلوا عن ما تبقى. أي أنهم أدركوا، أخيرا، أنه لا يمكن هضم العرب وهم عالقون في حلق اليهود ولهذا فإن اليهود يتقيأونهم. لكني لا أعتقد أن فكرة إسرائيل الكاملة قد ألغيت، وإنما هي موجودة في كل ما يتعلق بالاستعداد لدفع ثمن ديمغرافي. وعندما قرر اليمين واليسار الصهيوني أنهم لا يريدون دفع ثمن ديمغرافي وأصبحوا يؤيدون الفصل فإنهم يتنازلون عن مناطق، لكن هذا التنازل ليس تقاسما للأرض بمعنى أنهم يتنازلون عن مناطق يمكن فيها التوصل إلى حل للصراع قابل للحياة وإنما يتنازلون عما تبقى... عن فتاة لا يريدونها. وأعتقد أن توجه الحركة الصهيونية بالتنازل عن أرض إسرائيل الكاملة لا يجعل الحياة أسهل".
(*) هل ترى أن هناك أزمة في اليسار الصهيوني؟
- بنفينستي: "توجد أزمة في اليسار الصهيوني لأنه توقف عن التحدث عن السلام. ويقبل هذا اليسار، اليوم، التوجه الداعي إلى التقسيم، بمعنى نحن هنا وهم هناك. والسجال بين أحزاب وسط الخارطة السياسية واليسار أصبح مقلصا للغاية. ولا أعتقد أن هناك فرقا كبيرا بين أفكارهم وهم لا يتعاملون بتاتا مع حلول سلمية وإنما يتحدثون عن حلول مرحلية. والأزمة في اليسار تنبع من مشكلة هي أن الشعار القديم لليسار: دولتان للشعبين، آخذ في الانهيار. وقد قلت قبل أكثر من عشرين عاما إن المستوطنات ستأكل حل الدولتين واليسار غير قادر على وقف المشروع الاستيطاني ولا حتى على تغيير واقع وجود البؤر الاستيطانية العشوائية. وقد رأوا أن اتساع المستوطنات ينتج وقائع ميدانية ولذلك أدركوا أن حل الدولتين للشعبين توقف عن كونه قابلا للتنفيذ. ولا يوجد لدى اليسار حل آخر لأنهم لم يتخيلوا التفكير بمصطلحات ثنائية القومية. ولذلك ليس لدى اليسار أية سياسة بديلة ولا حتى شعار يمكن أن يجمّعهم، باستثناء فكرة الفصل التي يعتقدون أنها ستحل كل مشكلة، وهي نابعة لدى قسم كبير منهم عن فكر عنصري، والعنصرية لدى اليسار ليست أقل مما هي عليه لدى اليمين. والفصل، مثل تأييد بناء الجدار، هو أحد تعبيرات العنصرية. ومن اعتقد في الماضي أن الفصل بين الشعبين وتقسيم البلاد بشكل متساو قد يشكل حلا يشعر الآن أن هذه الإمكانية لم تعد قائمة. وهذا إحراج كبير تتم التغطية عليه بالادعاء أنه لا يوجد مع من يمكن التحدث معه في الجانب الفلسطيني. ولأنه لا يوجد مع من يمكن التحدث معه فإن هذا يعفيهم من البحث عن حل جديد. وقسم من اليسار، ولن ندخل هنا في تعريف اليسار، يؤيد هذا التوجه وحتى أن بعضهم أوجد التوجه الأحادي الجانب، فليس أريئيل شارون هو الذي اخترع أحادية الجانب، وإنما هذا التوجه جاء من اليسار القديم في حزب العمل. وقد منح إيهود باراك لهذا التوجه تعبيرا ملموسا عندما تحدث عن فصل أحادي الجانب وبناء الجدار وعدم وجود أحد في الجانب الفلسطيني يمكن التحدث معه (بعد فشل كامب ديفيد في العام 2000) وبعد ذلك نشأ وضع جديد وهو أنه لا يوجد أحد يمكن التحدث معه في الجانب الإسرائيلي".
هذه دولة أبرتهايد..!
(*) كيف ترى المستقبل في هذه البلاد، بين النهر والبحر، على ضوء ما تقوله؟
- بنفينستي: "ما يوجد الآن هو ما سيكون في المستقبل. هذه دولة أبرتهايد (تفرقة عرقية) وهي دولة ثنائية القومية في الواقع مع محاولات من كلا الجانبين للتهرب من الواقع الناشئ مع وجود مصالح كثيرة، لدى الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء وكل جانب لأسبابه الخاصة، لعدم الاعتراف بهذا الواقع. وفي الهامش السياسي ستبقى هناك مواقف متطرفة، وهذا وضع ليس خاليا من الحل فحسب وإنما ليس لدى أي طرف كذلك الاستعداد لتعريف القضية الأساس ولتشخيص الوضع".
(*) وما هو تشخيصك للوضع؟
- بنفينستي: "الوضع اليوم، ليس بهدف الحل وإنما مجرّد كونه واقعًا، هو وضع ثنائي القومية وفي الواقع لدينا هنا دولة أبرتهايد".
(*) أنت تقول إن عوامل الزمن والديمغرافية والتاريخ ووجود مجموعتين، الأولى تضم سكان البلاد الأصلانيين وهم الفلسطينيون بالأساس والثانية تضم المهاجرين اليهود، هي أقوى من جميع الخطط والمبادرات السياسية التي تم طرحها. ألا يوجد حل؟
- بنفينستي: "هذا صحيح لأن هذه حالة أساسية أو أولية. وأعتقد أنه من دون تدخل خارجي فإنه لن يكون هناك حل. هناك عمليات تتم يمكنها التوجيه لحل خلال خمسين عاما. مثل أن يتعب المجتمع الإسرائيلي من العسكرة في الحياة. وأرى السجال داخل إسرائيل حول انعدام النجاح في حرب لبنان الثانية بشكل عكسي. الناس هنا أصبحت تدلي بآرائها بأرجلها؛ لماذا لا ينفذون الآن عمليات عسكرية في قطاع غزة؟ والجواب هو لأن الجيش يعلم أن جنود قوات الاحتياط لا يريدون التجند. أي أن هناك عملية تتجه نحو الاعتدال بعد سنوات طويلة من اعتبار المجتمع الإسرائيلي لذلك أنه ضعف. هناك أناس في إسرائيل لا يريدون الذهاب للجيش، والضباط والجنرالات ليسوا الأذكى في العالم، ومثلما كان الشعار في الماضي: الجيدون يذهبون إلى الجيش، أصبح الآن الجيدون لا يذهبون إلى الجيش. هذا هو الوضع الآن وبنظري فإن هذا الوضع جيد جدا رغم أن قولي هذا سيعتبرونه خيانة في إسرائيل، لكن لا يهمني لأني أكتب أفكاري هذه بالعبرية".
(*) ما تصفه هنا هو انهيار للحلم والصيرورة الإسرائيلية الصهيونية.
- بنفينستي: "لا أعرف. طوال الوقت يناقشونني حول الدولة ويسألونني ماذا سيحدث بعد مائة عام، هل ستكون هناك دولة يهودية؟ لا أعرف إذا كانت دولة كهذه ستكون موجودة. فالدولة هي أداة. لكن إذا سألتني ما إذا سيكون هنا كيان يهودي أو مجتمع يهودي، عندها يجب فحص نجاحات الجيش الإسرائيلي في الحرب وسنفحص كم عدد الكتب الصادرة في تل أبيب، وربما هذا الأخير هو مقياس أفضل. ولا أحد قال إن الحلم الصهيوني يتحقق من خلال أن يكون اليهود هم الأقوى في العالم من الناحية العسكرية".
(*) لكن الحلم الصهيوني تحدث عن إقامة دولة يهودية مستقلة؟
- بنفينستي: "هل ستحدث كارثة إذا لم يتحقق حلم الصهيونية؟ بالنسبة لي لن تحدث كارثة. أنا أريد دولة تحترم تعددية الأفكار ومتعددة الثقافات. والعرب لا يخيفونني بل على العكس، أرض إسرائيل بدون العرب ستكون أرضا عاقرة. وأنا ضد الفصل لأني ترعرعت مع العرب، فأنا انتدابي، وبالنسبة لي أرض إسرائيل تشمل العرب أيضا وليس من دون العرب، لكن قسما كبيرا من الجمهور الإسرائيلي لا يوافق على ذلك، علما أنه لا خيار أمامه، لأنه لا يمكن طرد العرب ولا يمكن إبادتهم ولا يمكن صهرهم ولذلك فإن العرب سيكونون هنا دائما وأبدا. وأنا أيضا سأبقى هنا وأرفض سياسة تخويفنا والزعم أن عددا من المسلحين من حماس سيقضون على دولة إسرائيل بصواريخ القسام، أو ما يفعله بنيامين نتنياهو عندما يشبه أحمدي نجاد بهتلر وحتى أني أعتقد أن هذه سياسة تخويف رخيصة ولا أوافق على بكاء اليسار الإسرائيلي بأن دولة إسرائيل آخذة بالتفكك".
(*) قلت في أحد اللقاءات الصحافية إن الصراع ليس على تقسيم البلاد وإنما هو صراع بين السكان الأصلانيين والمهاجرين.
- بنفينستي: "عادة يتم التعبير عن الصراع بين السكان الأصلانيين والمهاجرين بالصراع على الأرض. والأرض هي أمر هام للغاية وكذلك من يسيطر على الأرض هو أمر هام لأن المهاجرين لا يملكون أرضا وعليهم أخذ الأرض من السكان الأصلانيين. ولذلك فإن أخطر تعبير للصراع هو في كونه على المأوى والأرض، وهذا هو الشكل الكلاسيكي الذي يتصارع فيه المهاجر مع الساكن الأصلاني".
يجب بلورة اقتراح بشأن شكل الدولة الثنائية القومية
(*) هل بلورت اقتراحا بشأن شكل الدولة الثنائية القومية؟
- بنفينستي: "لا، إنما يجب بلورة اقتراح كهذا. لكن المبدأ هو أنه يتوجب أن يكون هناك تعبير عن العلاقة العرقية مع إقليم معين وفقا لشكله مع منح حكم ذاتي لهذا الإقليم، لكن المبدأ الأساس هو أن الحدود بين هذه الأقاليم العرقية يجب أن تكون سهلة وليست صارمة، أي لا تكون هذه الحدود خطوط تقسيم سيادية تقسم البلاد إلى دولتين وإنما إلى أقاليم أو مقاطعات يكون للسكان فيها مشاعر بأنهم في وطنهم وأن تكون لديهم سيطرة على حياتهم وعلى الإقليم الذي يشكلون فيه أغلبية. هذا مبنى فيدرالي بمفهوم معين مثلما هو حاصل في أماكن كثيرة في العالم. أو مثلما يتبلور الوضع اليوم في العراق".
(*) من سيتولى الحكم في وضع كهذا؟
- بنفينستي: "أولا يتوجب تحييد الخطر الآلي، الناجم عمن ينجب أولادا أكثر. يجب تحييد هذا التخوف. ومن ثم فإن القضية الأساس هنا ليست الحقوق الديمقراطية للفرد وإنما القضية تكمن في الحقوق الثقافية الجماعية والطائفية التي يدور حولها الصراع. ويجب تنظيم الحقوق الجماعية بواسطة دستور يمكنه أن يكفل لكل جانب الشعور بالأمان بأن مصالحه الثقافية لا يتم المس بها. ويجب بدء العمل على تحقيق ذلك فورا لأن الدولة الثنائية القومية أصبحت قائمة. وفي هذه المرحلة يجب الاهتمام بتوفر حقوق الإنسان وحقوق المواطن والحقوق الجماعية... وغير ذلك".
(*) وهل هذا ما أراده آباء الحركة الصهيونية؟ هل ستوافق القيادة الإسرائيلية اليوم على طروحات كهذه؟
- بنفينستي: "عندما كان اليهود أقلية في البلاد أرادوا إقامة دولة ثنائية القومية. كانت هذه الفكرة مريحة لهم. وعندما أصبحوا أكثرية توقفوا عن تأييد هذه الفكرة".
(*) حتى قبل أن يصبحوا أغلبية، ففي سنوات الأربعينيات من القرن الماضي بدأت الحركة الصهيونية تخطط لطرد الفلسطينيين من أجل إفراغ البلاد قدر الإمكان من العرب.
- بنفينستي: "هذا صحيح ودقيق، لكن سوية مع ذلك وافقوا، بشكل نظري، على قرار التقسيم لأنه قسّم البلاد مناصفة تقريبا بين العرب واليهود. كانت هذه موافقة نظرية فحسب وقبل الطرد".
(*) في الواقع ارتكبت الحركة الصهيونية مجازر وعمليات طرد بحق الفلسطينيين من أجل تحقيق أغلبية يهودية.
- بنفينستي: "نعم. لكن السؤال هو ما الذي أرادته الحركة الصهيونية. وقد أرادت ما هو جيد بالنسبة لها. لكن القول إن قيام دولة يهودية كان الموقف الصهيوني الوحيد هو أمر غير صحيح. فعندما قرروا التقسيم لأول مرة في العام 1938 قال اليهود إنهم يريدون إنشاء كانتونات في البلاد، أي أن تكون دولة واحدة مقسمة إلى كانتونات. والانجليز، أي لجنة بيل، هي التي أوجدت فكرة التقسيم. كذلك أيّد الفلسطينيون فكرة الدولة الثنائية القومية، أي دولة واحدة. لكن السؤال ليس ما أرادوا وإنما ماذا حصل. والحاصل هو أنه لا يوجد تقسيم الآن وهناك الكثير من الحلول النظرية لكن تطبيقها يحتاج إلى رغبة في التوصل إلى تفاهم على أن قيام دولة ثنائية القومية هو أفضل من أي بديل. والمشكلة هنا أنه يتوجب على العرب أن يطرحوا هذه الفكرة لأن العرب الفلسطينيين هم الذين سيضطرون إلى إقرار ذلك من خلال التنازل عن دولة مستقلة وبالمقابل يبدؤون بخوض نضال على المساواة في الحقوق ويطالبون بضم الضفة وقطاع غزة لإسرائيل والحصول على حقوق المواطنة. وهناك من يدعي أنه في هذه الحالة سيصبح وضع الإسرائيليين أسوأ لأن العالم عندها سيفهم أن الوضع هنا هو دولة أبرتهايد وعلى هذا لن يوافق العالم، فيما الآن هناك سلطة فلسطينية وتجري مفاوضات بشكل أو بآخر معها وبوتيرة متسارعة أو بطيئة. ويجب عرض هذه المشكلة أمام اليهود. وطالما أن الفلسطينيين لا يعرضون هذه المعضلة فإن هذا الوضع، أن يبقى العالم معتقدا أن الحديث هو عن احتلال فحسب، هو وضع مريح للغاية بالنسبة لليهود".
(*) كيف سقطت إسرائيل في هذا الشرك عندما رفضت الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب العام 1967؟ ألم يفكر أحد بأنها ستدفع ثمن الاحتلال؟
- بنفينستي: "إسرائيل لم تسقط في شرك. فقد اتخذت قرارا بعدم طرد الفلسطينيين...".
(*) إسرائيل اتخذت قرارا بعدم الانسحاب؟
- بنفينستي: "نعم، اتخذت قرارا بعدم الانسحاب، لكن في حرب العام 1948 كان يمكنها احتلال كل أرض إسرائيل لو استمرت الحرب. وهذا ما يدعيه اليوم المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس عندما قال إن أسوأ ما فعله بن غوريون هو أنه أوقف الحرب".
(*) ويقول موريس إن بن غوريون أخطأ أيضا عندما أوقف عمليات طرد الفلسطينيين في العام 1948.
- بنفينستي: "صحيح. لماذا موريس يقول هذا؟ لأنه يعتقد أن ثمة حلا شبيها بالحل الذي مارسه الأميركيون بحق الهنود الحمر. لكن هذا لم يكن قابلا للتحقيق لأن المرحلة الامبريالية في القرن العشرين لم تسمح بممارسات كالتي نفذها المهاجرون البيض إلى أميركا قبل قرون. وعندما قامت إسرائيل لم يكن بإمكان الامبريالية الصهيونية القيام بممارسات كالتي نفذها الأميركيون بحق الهنود الحمر وفي أماكن أخرى".
(*) هل تعتبر أنّ المشروع الاستيطاني هو مشروع استعماري؟
- بنفينستي: "نعم هو كذلك بالتأكيد. ولم يفكر المستوطنون الأوائل بالسكان العرب وتجاهلوهم وكأنهم غير موجودين وكأنهم غبار بشر واعتقدوا أن العرب لن ينتفضوا أبدا".
(*) تحدث أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة العبرية في القدس، باروخ كيمرلينغ، في أحد مؤلفاته عن مصطلح "بوليتيسايد" الذي يعني قتل ركائز المجتمع الثقافية والسياسية والحياتية...
- بنفينستي: "نعم، لكن برأيي أنه عندما كتب حول هذا كان صحيحا لوقته، أما اليوم فإن الكيان الفلسطيني لا يخيف إسرائيل أكثر، بل على العكس إسرائيل تريد كيانا كهذا لكي يتم تحويل ملايين اللاجئين الفلسطينيين إليه. وبنظري أن السلطة الفلسطينية لديها أفضلية واحدة وهي أن تقوم بعملية بناء شعب، من ناحية التعليم والثقافة وما شابه، لكنها تتضمن عاملا واحدا خطيرا للغاية وهو أنه طالما السلطة الفلسطينية قائمة فإن إسرائيل والعالم يمكنهم التفكير بمصطلحات الدولتين. وهذا أمر سيء للعرب واليهود. لكن السلطة الفلسطينية لا يمكنها حل نفسها طالما أنها تعيل هذا العدد الكبير من الأشخاص".
أخاف الغيتو اليهودي أكثر من التعددية الثقافية
(*) هل أنت كيهودي توافق على العيش في دولة ثنائية القومية قد يصبح الحكم فيها في أيدي الفلسطينيين؟
- بنفينستي: "أنت تريد الآن إخافتي، لكني لا أخاف هذا. وأنا لا اعتبر هذا أمرا مصيريا. لكني لست مثالا جيدا لأني أعتبر العربي إنسانا في المكان الأول، وأنا أخاف الغيتو اليهودي أكثر من التعددية الثقافية. أصلا أنا أحمل جواز سفر فلسطينيا (في عهد الانتداب) وحتى بلغ عمري 14 عاما كنت أعيش في فلسطين، إذ لم يكن هناك إسرائيل".
(*) ألا تعتقد أن اليهود والعرب هم مجموعتان مختلفتان من عدة نواح، ثقافية وعقلية واجتماعية واقتصادية؟
- بنفينستي: "لا أعتقد ذلك بتاتا. أنا أعتبر أن العرب الفلسطينيين مختلفون عن العرب غير الفلسطينيين وهم أقرب إلى اليهود لسبب بسيط وهو أننا نعيش معا في هذه البلاد منذ سنوات طويلة. كذلك فإن قسما كبيرا من مركبات هوية الفلسطيني نابع من الصراع مع اليهود. وبالنسبة لليهود، ورغم أنهم من طوائف مختلفة، فإن أحد مركبات هويتهم جميعا هو أنهم ليسوا عربا وهذا بسبب الصراع فقط. لكني في نهاية المطاف أريد نشوء وضع في هذه البلاد لن يتم فيه طرح سؤال كالذي تطرحه الآن. قد أكون ساذجا".
(*) هل سنصل في النهاية إلى وضع شبيه بجنوب أفريقيا وأن ينسحب المهاجرون من السلطة لصالح السكان الأصلانيين؟
- بنفينستي: "لا لن نصل إلى وضع كهذا لأن كلا من العرب واليهود يشكلون نصف السكان تقريبا. ولذلك فإن الحل هو دولة واحدة مقسمة إلى كانتونات تكون الحدود بينها مفتوحة".
الدكتور ميرون بنفينستي- بطاقة
ولد الدكتور ميرون بنفينستي في القدس العام 1934 ودرس موضوعي التاريخ والاقتصاد في الجامعة العبرية في القدس. وعمل منذ العام 1967 مسؤولا في بلدية القدس عن شؤون القدس الشرقية المحتلة. وانتخب في العام 1969 عضوا في مجلس بلدية القدس وكاد ينتخب في العام 1971 لمنصب نائب رئيس البلدية. لكن عاصفة سياسية تضمنت توجيه انتقادات وتهجمات ضده على خلفية سياسته في القدس الشرقية، من جانب حزب مباي وأحزاب اليمين، دفعته إلى الاستقالة من جميع مناصبه في البلدية.
وقد عاد بنفينستي في العام 1973 إلى مزاولة نشاطه السياسي وأصبح مسؤولا في بلدية القدس عن تخطيط المدينة. ونشر أبحاثا وكتبا خصوصا حول تاريخ فترة الحملات الصليبية.
ينشر بنفينستي مقالا أسبوعيا في صحيفة "هآرتس" يتناول فيه عادة قضايا الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.
سبق أن صدر له في "مدار" في العام 2001 كتاب "المشهد المقدس- طمس تاريخ الأرض المقدسة منذ 1948"، بترجمة عن الإنجليزية أنجزها د. سامي مسلم.
يعالج هذا الكتاب تدمير المشهد الفلسطيني بكل ما يحويه ذلك من معنى، ويعرض لعملية التدمير من عدة نواح، وينشر الذرائع التي أعطيت لذلك، يوافق على بعضها ويرفض معظمها ويفندها.
ويصر الكاتب على أن الإسرائيليين دمروا هذا المشهد عن سابق إصرار وترصد. ولم تكن هناك حاجة إلى تدميره. فالمشهد الفلسطيني تطور مع التاريخ ليلائم احتياجات الناس الذين سكنوا المكان. فجاء طردهم القسري أو هروبهم من وجهة نظر الكاتب خلال الأعمال العدائية التي سبقت حرب 1948 وأثنائها وبعدها، على أيدي الإسرائيليين أو أمام تقدمهم العسكري عاملا مساعدا في تدمير المشهد. فهذا المشهد يعيش مع الناس وعندما اختفى الناس الذين كانوا يسكنونه اختفى المشهد ودمر.
ولعل أهم ما في "المشهد المقدّس" الاستنتاجات التي يخلص اليها ميرون بنفينستي، وأبرزها أن تدمير المشهد الفلسطيني كان متعمدا وبمثابة إعلان حرب على الفلسطينيين.