تيار الصهيونية- الدينية أمام مفترق طرق حاسم

وثائق وتقارير

 

 أثارت الزيارة الاستفزازية التي قام بها عدد من الحاخامات اليهود المحسوبين على التيار القومي-الديني المتشدد إلى الحرم القدسي الشريف قبل أكثر من أسبوعين، موجة من الجدل والمواقف المتباينة في صفوف الأوساط الدينية اليهودية، وخاصة في صفوف معسكر الصهيونية- الدينية القومي، الذي وصفت هذه "الزيارة" المبيتة على أنها تمثل خروجاً واضحاً على موقف التزمت به مرجعياته الروحية منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس العربية (الشرقية) قبل أربعين عاماً خلت.

 

وكان عشرات الحاخامات المنتمين للمعسكر المذكور، بينهم عدد من كبار حاخاماته ومن غلاة حاخامات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، مثل الحاخام دوف ليئور، رئيس مجلس حاخامات "ييشع" (يهودا والسامرة- الضفة الغربية- وغزة) وآفي غيسر، حاخام مستوطنة "عوفره" (قرب رام الله) والحاخام يعقوب مدان، رئيس المعهد الديني "هار عتصيون" (قرب الخليل) والحاخام أهارون هرئيل، رئيس المدرسة الدينية- العسكرية في مستوطنة "شيلو" (شمال رام الله)، قد اقتحموا المسجد الأقصى يوم الأحد 13 أيار 2007 (بالتزامن مع الاحتفالات الإسرائيلية الرسمية بمناسبة ما يسمى بـ "يوم القدس" و"مرور 40 عاماً على توحيد المدينة") وذلك في ما وصفته مصادر إسرائيلية على أنه "زيارة منسقة مع الشرطة لـ (جبل الهيكل) هي الأولى التي يقوم بها حاخامات الصهيونية الدينية للمكان بصورة جماعية". ونقل عن مسؤولين في مجموعة الحاخامات التي قامت بعملية الاقتحام المنظمة قولهم إن "الزيارة" التي تجول المشاركون فيها لمدة ساعتين في باحات المسجد الأقصى تحت حراسة مشددة ولصيقة من أفراد قوات شرطة الاحتلال "استهدفت تأكيد الصلة ما بين اليهود و(جبل الهيكل)".

 

وذكرت صحيفة "هآرتس" (14/05/2007) في تقرير تصدر صفحتها الأولى أن "الزيارة تعكس تغييراً في موقف الصهيونية - الدينية التي كانت جزءاً من الإجماع الديني- اليهودي، الذي تشترك فيه أيضاً الحاخامية الرئيسة (لإسرائيل) والعالم الحريدي (الطوائف الدينية اليهودية المتشددة)، والذي يحظر دخول اليهود إلى (جبل الهيكل) منذ 40 عاماً".

 

وقد جاءت عملية اقتحام مجموعة الحاخامات المتشددين للمسجد الأقصى، والتي رأى فيها، على الجانب الآخر، مسؤولون في وزارة شؤون الأوقاف والمقدسات الإسلامية في السلطة الوطنية الفلسطينية "خطوة خطيرة جداً تصب في سياق محاولات الجماعات اليهودية المتطرفة فرض أمر واقع جديد في المسجد الأقصى، وفي الحملة المسعورة التي تشنها السلطات الإسرائيلية على مدينة القدس"، بعد أيام من قيام مجموعة الحاخامات نفسها بنشر إعلان تدعو فيه "جميع اليهود" إلى الذهاب والدخول إلى "جبل الهيكل" (المسجد الأقصى) بصورة جماعية.

 

تغيير، أم اجتهاد، في موقف الصهيونية الدينية؟

 

 

لعل التقارير والتعليقات والمقالات التي نشرت خلال الأسبوعين الأخيرين في العديد من الصحف والمجلات الإسرائيلية (العبرية) والتي تناولت "زيارة" الحاخامات الأخيرة للحرم القدسي الشريف من مختلف مدلولاتها وأبعادها وتداعياتها الداخلية، تحمل في ثناياها الإجابات المطلوبة على هذا السؤال. ومن منطلق ما نشخصه ونتحسسه في خلفية هذا السؤال من أهمية كبيرة وأبعاد غير آنية، من حيث أنه يلامس في الواقع، بل ويحرك بقوة قضية حساسة، تتعدى في مدلولاتها وأبعادها توقيت ورمزية "الزيارة" في حد ذاتها، وتطل وتتجلى من حين إلى آخر كقضية خلافية ومفصلية، على جبهة العقيدة الدينية والقومية اليهودية، تهدد على الأقل، بكسر وتفتيت ما يسمى بـ "موقف الإجماع الإسرائيلي الديني والقومي" إزاء واحدة من أشد القضايا حساسية وسخونة في الصراع الشرق أوسطي، هذا الموقف (أي المنع الديني لدخول اليهود إلى المسجد الأقصى من أجل التعبد أو الصلاة) الذي ساعد جداً، كما أوردت صحيفة "هآرتس"، الخط السياسي الذي انتهجته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، والتي سعت إلى "غمغمة" وتبريد الصراع الديني بين اليهود والمسلمين على (جبل الهيكل) المسجد الأقصى، منذ احتلال وضم القدس الشرقية إلى إسرائيل في العام 1967.. لكل ذلك نرى أن من الأهمية بمكان الوقوف على خلفيات ودوافع وهوية مجموعة الحاخامات التي قامت بالزيارة الاستفزازية الأخيرة للحرم القدسي والأهداف الحقيقية التي تحركها وتسعى إلى تحقيقها.

 

خلفية عامة موجزة

 

تنتمي مجموعة الحاخامات المذكورة كما هو معلوم إلى تيار الصهيونية- الدينية أو ما يعرف بجمهور المتدينين الوطنيين.

 

تاريخياً كان هذا التيار (الممثل أساساً في الحزب الوطني- الديني "المفدال") في العقود الثلاثة الأولى لقيام الدولة العبرية أكثر اعتدالاً وبراغماتية عنه اليوم، وقد تجلى ذلك في "تحالفه التاريخي" مع التيار المركزي في الصهيونية العلمانية، ممثلاً في حزب "مباي" ثم "التجمع" و"العمل"، والذي استمر حتى العام 1977، وبعد هذا العام (الذي شهد ما يعرف بـ "الانقلاب" الذي أطاح بالعماليين من السلطة ومهد لحقبة من سلطة حزب "الليكود" استمرت تقريباً حتى نهاية الثمانينيات) اتجه التيار الصهيوني- الديني مدفوعاً بإيمانه الشديد بعقيدة "إسرائيل الكبرى" وبولائه لـ "توراة إسرائيل"، ولا سيما في أعقاب صعود قيادات جديدة شابة إلى زعامته وزعامة حزبه (المفدال) تنتمي في غالبيتها لغلاة محافل المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى التحالف مع "اليمين القومي" حيث شارك حزب "المفدال" في جميع الحكومات التي شكلها حزب "الليكود" منذ ذلك الوقت. فلغاية منتصف السبعينيات كانت القضايا الدينية هي القضايا الأساسية لتيار وحزب الصهيونية الدينية، وبعد صراع شديد بين القيادة القديمة للحزب والقيادة الشابة المتأثرة بتعاليم الحاخام المتشدد تسفي يهودا هكوهن كوك (الزعيم الروحي لحركة "غوش إيمونيم" الذراع الاستيطانية للتيار الصهيوني- الديني) بدأ هذا التيار وحزبه (المفدال) يركزان جل انشغالهما على الاستيطان والتأكيد على عقيدة "أرض إسرائيل الكبرى"... ومنذ ذلك الحين شهد التيار الصهيوني- الديني الذي يتبعه معظم المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة والذي تتراوح قوة حزبه الانتخابية (المفدال) خلال العقود الثلاثة الأخيرة بين أربعة وثمانية مقاعد في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي (تحالف في انتخابات العام 2006 في قائمة مشتركة مع حزب "هئيحود هلئومي"- الاتحاد الوطني- اليميني المتطرف وحصلت القائمة المشتركة على 9 مقاعد) عدة انشقاقات على خلفية أثنية وإيديولوجية... غير أن الصراع داخل هذا التيار، ورغم انسحاب حزبه (المفدال) من حكومة شارون عقب إقرارها لخطة "الانفصال" الأحادية الجانب عن قطاع غزة، استمر شديدا تحت السطح تارة وفوقه تارة أخرى، بين جناحين رئيسين، الجناح السياسي البراغماتي والجناح السياسي العقائدي المتطرف "المسيحاني" والذي رجحت كفته في نهاية المطاف في زعامة حزب "المفدال". ويمكن القول إن تيار الصهيونية- الدينية كحال غيره من تيارات الصهيونية القومية والعلمانية، دخل في أزمة طويلة وعميقة مزدوجة، أزمة قيادة وأزمة أيديولوجية بدأت بواكيرها منذ توقيع اتفاقيات أوسلو (1993)، ثم انتقلت إلى طور أعلى من التفاقم عقب اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين سنة 1995 (الذي تتلمذ ونشأ قاتله- يغئال عمير- في أحضان تيار الصهيونية- الدينية ذاته) واستفحلت أخيرا منذ تنفيذ خطة الانسحاب وإزالة المستوطنات اليهودية من قطاع غزة سنة 2005، والتي أحدثت شرخا في صفوف المعسكر الصهيوني القومي عموما والتيار الصهيوني- الديني على وجه الخصوص لما عنته واقعيا وفعليا من تحطم وانكسار لحلم "أرض إسرائيل الكاملة" وانتكاسة لمجمل أيديولوجية المعسكر الصهيوني القومي على اختلاف تلاوينه وفروعه.

 

 

الأزمة في خلفية "الزيارة"...

 

 

وبالعودة إلى ما وقف وترتب على "زيارة" مجموعة الحاخامات الأخيرة للحرم القدسي من دوافع وأهداف وتداعيات، هناك من يعتقد أن "خطوة" حاخامات الصهيونية- الدينية اللافتة والمثيرة للجدل ليست معزولة عن تلك "الأزمة العميقة" التي ما انفك هذا التيار يعاني منها، وأنها ربما تكون انعكاسا أو إفرازا من إفرازاتها، أو "مظهرا من مظاهر التنفيس عنها" يحيل إلى احتمال تطورها في وقت ليس ببعيد إلى انشقاق عمودي جديد- على خلفية أيديولوجية سياسية هذه المرة- في صفوف المعسكر الصهيوني- الديني وحزبه الرئيس "المفدال".

 

هذا المنحى المحتمل للأزمة أنعشته وأومأت إليه بوضوح موجة ردود الفعل المتباينة والجدل الواسع الذي أثارته "زيارة" مجموعة الحاخامات يوم 13 أيار للمسجد الأقصى، في أوساط المعسكر الديني الحريدي عامة، وتيار الصهيونية- الدينية خاصة.. ولعل مما زاد في حدة ردود الفعل وانقسام الرأي حول "الزيارة" إقدام "ثلاثة من أهم الحاخامات في التيار المركزي للصهيونية الدينية"على إضافة تواقيعهم على بيان الحاخامات الذي يجيز دخول اليهود إلى "جبل الهيكل" (الحرم القدسي الشريف) وهم الحاخام حاييم دروكمان، رئيس مدرسة "بني عكيفا" (أهم مدرسة دينية في تيار الصهيونية- الدينية) وزميله في الوظيفة الحاخام أبراهام تسوكرمان، وحاخام كريات شمونه، تسفانيا دروري، وهذا بالإضافة إلى توقيع الحاخام يعقوب أريئيل، الذي يوصف بأنه "من أبرز رجالات الإفتاء الديني للصهيونية- الدينية المعاصرة" والذي كان مرشحا من طرف هذا التيار لمنصب الحاخام الأكبر لإسرائيل. واعتبر مراسل صحيفة "هآرتس"، نداف شرغاي، من جهته أن هذه الفتوى التي تجيز دخول اليهود للحرم، تشكل عمليا تغييرا في موقف التيار المركزي لحاخامات الصهيونية- الدينية، وتضعه فعليا إلى جانب "حركات جبل الهيكل" اليهودية المتطرفة التي تسعى إلى تهويد المسجد الأقصى تمهيدا لإعادة بناء ما يزعم أنه "الهيكل اليهودي المقدس" على أنقاض المسجد.

 

وقد أثير في أعقاب هذه الزيارة تساؤل فيما إذا كان من المتوقع أن تمهّد خطوة هؤلاء الحاخامات في المستقبل القريب الطريق لقدوم عشرات الآلاف اليهود من معتمري القبعات المنسوجة لزيارة المسجد الأقصى .

 

غير أنه وفيما عدا الخلافات والانتقادات الشديدة التي ولدتها الخطوة في أوساط المعسكر الديني الحريدي التي وصفت الحاخامات الذين زاروا الحرم القدسي بـ "عبدة الأصنام" فقد ارتفعت أيضا أصوات منتقدة من داخل صفوف معسكر الصهيونية الدينية ذاته.

 

وصرح الحاخام الأسبق مردخاي الياهو، الذي يعد أحد أهم المرجعيات الروحية للتيار الصهيوني الديني والحزب الوطني الديني "المفدال"، بحسب ما نقلت صحيفة "هآرتس" عنه، غداة الزيارة الاستفزازية بقوله "في الوقت الحالي لا يمكن زيارة جبل الهيكل نظرا لأن الأمر غير منظم وغير متفق عليه"، لكن الحاخام الياهو أضاف في استدراك يعكس حقيقة التفكير والنوايا المبيتة لدى الاتجاه المركزي في الصهيونية الدينية تجاه وضعية الحرم القدسي الشريف قائلاً إن "الحل هو إما منع دخول اليهود والعرب إلى جبل الهيكل، أو إقامة كنيس يهودي على الجبل في مكان متفق عليه" في إشارة واضحة إلى الهدف الذي تسعى له معظم الأوساط الصهيونية الإسرائيلية وهو تقسيم الحرم القدسي بين اليهود والمسلمين على غرار ما قامت به إسرائيل في المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل في العام 1968.

ولم يستبعد الحاخام يسرائيل روزين إمكانية تنظيم دخول اليهود إلى (جبل الهيكل) بصورة جماعية لكنه قال إن "الحديث يدور عن عملية أو سيرورة" مشيرا إلى أن "حاخامات من الطوائف الشرقية لم ينضموا حتى الآن إلى إذن الدخول إلى (جبل الهيكل)" وبالتالي ليس من المتوقع على المدى القريب أن تصبح زيارات اليهود إلى الحرم زيارات "شعبية وجماعية" حسب تعبيره.

وصرح الحاخام أبراهام فسرمان، رئيس المدرسة الدينية في رمات غان والذي كان أحد المبادرين لزيارة حاخامات الصهيونية الدينية للحرم القدسي، بأن "الحاخامات خرجوا من (جبل الهيكل) بشعور أنه يجب أن تكون لهذه الخطوة استمرارية". وتوقع أن تتم في المستقبل زيارات أخرى بمشاركة حاخامات وطلاب مدارس دينية. وأضاف "الحديث يدور عن سيرورة تحتاج إلى عملية تعبئة وإعداد طويلة من أجل صعود جمهور طاهر إلى (جبل الهيكل) وبعد الإيفاء بكل القواعد الدينية اليهودية" على حد تعبيره.

 

وكانت بوادر التحول في موقف حاخامات المتدينين الصهيونيين من هذه المسألة قد ظهرت قبل عدة سنوات حينما أجاز مجلس حاخامات المستوطنات لليهود الدخول إلى الحرم القدسي بعد القيام ببعض الطقوس المستمدة من "الهلاخاه" (الشرائع الدينية) اليهودية كالتطهير في حمام خاص ولبس حذاء من القماش ومعرفة "المجالات الممنوعة والمسموحة في دخول اليهود" للحرم.

 

عير أن "الفتوى" التي أصدرها مؤخرا مرجع الإفتاء البارز في تيار الصهيونية- الدينية، الحاخام يعقوب أريئيل، هي التي أعطت كما يبدو "الضوء الأخضر" للتحول الأخير في موقف العديد من حاخامات التيار المركزي في المعسكر الديني- القومي وبالتالي "للزيارة المنظمة" التي قاموا بها للحرم أواسط هذا الشهر . ووفقا لما أوردته صحيفة "هآرتس" (14/5/2007) فقد امتنع الكثيرون من الحاخامات حتى اليوم عن السماح بدخول اليهود لـ (جبل الهيكل) ليس فقط لعدم المعرفة بالمكان الدقيق لـ "قداس الأقداس" و"المعبد المقدس" والخشية من دخول يهود غير طاهرين إلى هذه الأماكن، وإنما بسبب الخشية من دخول نساء يهوديات في حالة حيض إلى (جبل الهيكل). وأضافت الصحيفة إن أهمية "فتوى" الحاخام أريئيل تتمثل في أنه "سمح الآن للمرة الأولى وبصوره علنية للنساء اللائي تطهرن من حيضهن، الدخول إلى الجزء المحيط بمكان (الهيكل) بعيدا عن قبة الصخرة".

 

من جهته صرح الحاخام شئار يشوف هكوهين، وهو الحاخام الرئيس لحيفا وعضو مجلس الحاخامية الرئيسة، بأن اللجنة التي كانت الحاخامية الرئيسة قد عينتها في الماضي (تولى هو رئاستها) لبحث مسألة "دخول اليهود إلى جبل الهيكل" أجرت مناقشات عميقة لهذه المسألة لكنها لم تتوصل في نهاية عملها إلى أية نتيجة محددة، مشيرا إلى أن "المشكلة الكبرى" التي اصطدمت بها لجنته تمثلت في مسألة "أين يمر في جبل الهيكل الخط الفاصل بين المناطق التي يسمح للشخص النجس (غير الطاهر) بدخولها والمناطق التي يحظر عليه دخولها".

 

وفي مقابل معظم حاخامات الصهيونية- الدينية الذين باتوا يؤيدون علنا، ويشجعون عمليا المساعي الحالية الرامية لإيجاد "موطئ قدم" على الأقل لليهود داخل الحرم القدسي الشريف توطئة للاستيلاء مستقبلا على كامل الحرم وتهويده نهائيا، فقد ظهرت داخل هذه المعسكر ذاته بعض الأصوات المعارضة لهذا التوجه، والتي عبر عنها أخيرا في تصريحات علنية صوت الحاخام أبراهام شابيرا (الحاخام الأكبر سابقا ورئيس مدرسة "مركاز هراف"). وأكد الحاخام شابيرا (الذي يعد هو والحاخام مردخاي إلياهو المرجعية التوراتية العليا لتيار الصهيونية- الدينية) في تصريحه الذي عقب فيه على بيان الحاخامات الذي دعا اليهود إلى "الصعود إلى جبل الهيكل" أن هناك "حظرًا يمنع اليهود بموجبه من الصعود إلى جبل الهيكل".

 

الحاخام زلمان ميلامد، رئيس المدرسة الدينية في مستوطنة "بيت إيل" (قرب رام الله) وأحد حاخامات المستوطنين اليهود البارزين في الضفة الغربية، أعرب من ناحيته عن رفضه "في الوقت الحالي" لزيارة اليهود إلى الحرم القدسي لكنه ساند مبدئيا موقف أغلبية حاخامات المستوطنين بقوله "في السنة المقبلة سنصعد جميعا بإذن تام ونهائي إلى الهيكل- المعبد المقدس- الذي سيكون مشيدا، بدون خلافات أو أسئلة" حسب قوله.

 

 

السياسة الرسمية والموقف الديني

 

 

سمحت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ احتلال العام 1967 (مدعومة بغطاء قضائي وفرته المحكمة الإسرائيلية العليا) بدخول وزيارات اليهود للحرم القدسي، لكنها حظرت في الوقت ذاته على اليهود إقامة صلوات وشعائر عبادة في الأماكن التي يقوم عليها المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، مراعاة بالأساس لاعتبارات و" فتاوي" عائدة لمراجع حاخامية يهودية كبرى.

قرار انتهاج هذه السياسة الرسمية يعود الى ما قبل 40 عاما وقد اتخذه وزير الدفاع (أثناء حرب 1967) موشيه ديان والذي دعا الى وجوب الفصل بين البعد القومي والإقليمي للنزاع العربي- الإسرائيلي، وبين البعد الديني لهذا النزاع، ومن هذا المنطلق حظر على اليهود التعبد والصلاة داخل الحرم القدسي، غير أن القرار نص أيضا على بقاء المسؤولية العليا عن الأمن في المحيط الخارجي والداخلي للحرم في يد السلطات الإسرائيلية على أن تتولى هيئة الأوقاف الإسلامية مسؤولية تنظيم وإدارة الشؤون الدينية والإدارية بصورة مستقلة داخل الحرم وما فيه من مساجد ومرافق. ومع ذلك فقد ظلت جميع الحكومات الإسرائيلية- وسعت الى ذلك بطرق مختلفة- تدعي أن السيادة على الحرم يجب أن تبقى في يد إسرائيل وحدها. وكما هو معروف فقد كانت هذه المسألة من بين الأسباب والعوامل الرئيسة التي أدت إلى تعثر وفشل المفاوضات التي جرت بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، برعاية أميركية، في صيف العام 2000 (في كامب ديفيد).

 

أما من الناحية الدينية اليهودية، فهناك منع ديني قديم (خرقته بعض المحافل اليهودية المتطرفة مرارا) يحظر على اليهود عامة الدخول (أو الصلاة) إلى أجزاء مختلفة من الحرم القدسي وذلك لعدم توفر معرفة أكيدة (لدى الزعماء والحاخامات اليهود أنفسهم) عن المكان الدقيق الذي يزعم أن ما يسمى بـ "الهيكل المقدس" كان قائما عليه (داخل محيط الحرم) قبل أكثر من 2000 سنة، وتخوفا من أن يؤدي دخول يهود غير طاهرين، حسب أصول الهلاخاه، إلى تدنيس هذا المكان. ووفقا للعقيدة الدينية اليهودية فإن "الهيكل الثالث" سيعاد بناؤه في نفس المكان ولكن بإرادة إلهية فقط وليس على يد البشر من أتباع الديانة اليهودية.

 

يشار إلى أن مؤسس الحركة الصهيونية وصاحب فكرة الدولة اليهودية، ثيودور هرتسل، الذي قيل إنه لم يكن ملما بشؤون دينه، تنبأ في روايته الخيالية "الأرض القديمة الجديدة" بأن يعاد بناء الهيكل اليهودي في نطاق الدولة التي حلم بإقامتها.

بعض ردّات الفعل

 

المعسكر الحريدي: هجوم كاسح على الصهيونية الدينية

 

زيارة حاخامات الصهيونية- الدينية للحرم القدسي أثارت في الطرف الآخر من المعسكر الديني اليهودي في إسرائيل، والذي يعرف بـ "مجتمع الحريديم"، ردود فعل صاخبة اتسمت بشن هجوم عنيف على مجموعة الحاخامات المذكورة وعلى تيار الصهيونية- الدينية عموما، ووصفت مقالات نشرت في صحيفة " ياتد نئمان"، لسان حال الجناح الحريدي (الليتواني) كبار حاخامات التيار الصهيوني- الديني، الذين كسروا بزيارتهم التظاهرية (للمسجد الأقصى) التابو- التحريم - الديني التوراتي لدخول اليهود إلى الحرم القدسي بأنهم "عبدة أصنام" و"تجار بفروض وتعليمات التوراة" و"إصلاحيون".

 

وجاء في المقال الافتتاحي لهيئة تحرير "ياتد نئمان" تعليقا على الزيارة "قرر حاخامات الصهيونية الدينية المتجددة أن يبرهنوا على أنهم لا يكتفون بالسجود لأصنام الصهيونية، وأنهم يواصلون تراث "همزراحي" في كل ما يتعلق أيضا بالإصلاح العلني في الهلاخاه (الشرائع الدينية اليهودية)". وورد في مقال آخر نشر في الصحيفة ذاتها أن "الراكعين للعجل الصهيوني مستعدون لإخضاع كل شيء من أجل هذا العجل حتى إذا بقوا آخر الساجدين له.. وهم يريدون الآن تدنيس (جبل الهيكل)، مكان هيكلنا المقدس، من منطلق إيمانهم بسخافة الخلاص الصهيوني".

 

يشار إلى أن حاخامات الجناح الحريدي في المعسكر الديني التزموا منذ العام 1967 وحتى الآن موقفا يحرم على أتباعهم واليهود عموما الدخول إلى الحرم القدسي لأي هدف كان، وذلك بالأساس خشية تدنيس ما يعتقدون أنه المكان المحتمل الذي كان "الهيكل الثاني" قائما فيه حتى "خرابه" قبل نحو 2000 سنة.

 

الأوساط العلمانية: استفزاز بعباءة دينية

 

 

بعض الأوساط الإسرائيلية العلمانية التي أدلت بدورها بدلوها في الجدل حول زيارة الحاخامات "الهادفة" إلى الحرم القدسي، أشارت إلى أن الحاخامات الذي بادروا إلى "الصعود الوهمي الى جبل الهيكل" ينتمون إلى التيار الحريدي- الديني القومي الذي ينتهج "تطرفا سياسيا يمينيا قوميا وحريديا"، وفق ما كتبته أفيرامه غولان في مقال في صحيفة "هآرتس" (16/5/2007). ومضت قائلةً ان مواقف هؤلاء الحاخامات المتطرفة تنافس مواقف الحاخامات الحريديم الأشد محافظة. وأضافت "فجأة غيّر هؤلاء الحاخامات مزاجهم، وهم مستعدون للوي الهلاخاه كقطعة مطاط لينة.. حتى النساء في حيضهن سيحصلن على تطهير معجل، فقط كي تذهب جموع اليهود الى جبل الهيكل. هؤلاء يهددون بتحويل نزاع سياسي وقومي الى شرخ ديني لا ضابط له".

 

صحيفة "هآرتس" ذات التوجه العلماني حملت أيضا بشدة في مقالها الافتتاحي (15/15/2007) على زيارة حاخامات المتدينين الوطنيين للمسجد الأقصى، ووصفتها بأنها "استفزاز في ثوب ديني".

 

وكتبت هيئة تحرير الصحيفة في تعليقها اليومي تقول إن "حاخامات الصهيونية الدينية الذين صعدوا إلى (جبل الهيكل) قربوا بوعي وانعدام مسؤولية شعلة اللهب الى كومة الحطب الأكثر قابلية للاشتعال في الشرق الأوسط". وأضافت أن " أي تسويغ ديني/ توراتي/ مزعوم لن يشفع لهم في اللحظة التي تؤدي فيها هذه الخطوة الاستفزازية الآثمة الى سفك دماء بريئة في موجة غضب يمكن التكهن ببدايتها فقط، أما تتمتها فيستحسن عدم التفكير بها".

 

وأرجعت الصحيفة في تعليقها أسباب ودواعي الزيارة التظاهرية إلى أزمة القيادة والأيديولوجية التي تعصف بحزب الصهيونية الدينية (المفدال) منذ عدة سنوات، وكتبت تقول ان "زعامة الصهيونية الدينية تعاني من وهن شديد يعبر عن نفسه، ولا سيما منذ تنفيذ خطة الانفصال (الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة)، في تشوش وخلط خطير يتجلى بالأساس في طمس الحدود الدقيقة بين السياسة والدين" . واستطردت موضحة أن "حلم أرض إسرائيل الكبرى بهت بريقه في نظر غالبية الجمهور، وقد انكوى فشل زعامة حاخامات (ييشع) عشية الانفصال في الوعي الديني- الوطني" في إشارة إلى فشل دعوات حاخامات وزعامات الصهيونية الدينية والمستوطنين التي طالبت الجنود الإسرائيليين برفض تنفيذ أوامر إخلاء المستوطنات في قطاع غزة. وخلصت الصحيفة إلى القول "يخيّل أن حاخامات الصهيونية- الدينية يفتشون الآن، بسبب ضعف زعامتهم، عن بؤرة جديدة لحشد الجمهور حولها".