مراقبون: انخفاض وتيرة التضخم يدل على تباطؤ اقتصادي

على هامش المشهد

 


اختيار برلين رفض لـ "الإسرائيلية"!

 


وجهة نظر إسرائيلي هاجر إلى ألمانيا

 

 

 


بقلم: نعمان هيرشفيلد (*)

 

تحول "بوست" نشرته الأسبوع الماضي مجموعة (احتجاج) إسرائيلية ناشطة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك (في نطاق حملة تدعو الشبان للهجرة من إسرائيل بسبب غلاء المعيشة فيها) وتعمل تحت اسم "مهاجرون إلى برلين"، إلى قضية محورية في السجال العام في إسرائيل. ويستدل من موجة ردود الفعل التي ظهرت في المواقع الاخبارية الالكترونية، أن هذا المنشور أحدث بالفعل تأثيرا وأصداء واسعين. وقد نشرت دافني ليف (إحدى الناشطات في قيادة حملة الاحتجاج ضد غلاء المعيشة وأسعار السكن المرتفعة في إسرائيل في صيف العام 2001) مقالا تحت عنوان "بين ميلكي وبرلين: من هم الخونة حقاً؟!"، انتقدت فيه بشدة وزير المالية يائير لبيد. وعلى ما يبدو فقد أدرك لبيد بدوره أن مهاجمة "زمرة" المهاجرين (الإسرائيليين) إلى برلين بأسلوب "اعذروني ان كنت قليل الصبر والتسامح تجاه أشخاص مستعدون للتفريط بالوطن الوحيد لليهود لأن الحياة في برلين مريحة أكثر"، ليست سلوكاً سياسيا حكيما في ضوء وضعه الحالي (أي الوزير لبيد) ولذلك قرر أن الوقت قد حان كي يبين للجمهور من هو "العدو الحقيقي"، إذ صرح قائلا إن "هؤلاء الشبان على حق، فالأسعار غير محتملة، ويتعين على شبكات المواد الغذائية أن تعلم بأننا سنخضع أسعار السلع الغذائية للمراقبة" وأنه "يتفهم" هؤلاء الذين يغادرون إلى برلين، بل ويتفق معهم، ولكن من منطلق الفهم بأن الحديث يدور عمليا على مشكلة هوية، وقال "أريد أن أقول للمحتجين بأنني أدرك صعوبات الحياة اليومية، ولكنني أقول أيضا بأنه ينبغي مناقشة مسألة ما اذا كان الإسرائيلي الشاب لا يغادر إلى برلين فقط بسبب غلاء المعيشة وانما بسبب مشكلة هوية، ولماذا اخترنا اقامة دولة يهودية ومواضيع أخرى.. نحن نرغب في إقامة مجتمع نموذجي، ولا يجوز لنا اليأس".

 


وفي الواقع فإنني أوافق من جهتي على أنه توجد في إسرائيل مشكلة اقتصادية حقيقية وصعبة آخذة في التفاقم أكثر فأكثر، ولكن هل ذلك هو السبب الذي دفع كثيرين، وأنا واحد منهم، إلى مغادرة إسرائيل؟! إن يائير لبيد محق إلى حد ما في أن الحديث يدور على مسألة هوية، هوية إسرائيل كدولة، هويتها كمجتمع، والهوية التي يمكن ويسمح للفرد الاحتفاظ بها. في الوقت ذاته فإن الشق الثاني من جملة لبيد، والذي يتحدث عن "مجتمع نموذجي" في إسرائيل، يلامس جوهر الموضوع من الجانب الثاني: عملية توصيف الواقع في إسرائيل والتي تتم بواسطة لغة ايديولوجية مزيفة، كاذبة وسخيفة، تحرف أي نقاش جاد عن المشكلات الحقيقية، لتضعه في إطار الخطاب المثالي "الرائع" للصهيونية المؤسسية. إن هذه اللغة هي الغطاء الشفاف لكل أجهزة الدولة التي ينخر فيها الفساد، كما أنها تبرر العفن والفساد السياسي لمنتخبي الجمهور الذين يتواطئون في نسج صورة خادعة للواقع الداخلي. وتشكل هذه اللغة من ناحية عملية أداه تترجم هجرة الإسرائيليين إلى دول أخرى إلى نوع معين من المكان في الخطاب الإسرائيلي ("يريدا – نزول –من إسرائيل" بمعنى هجرة معاكسة) وتترجم المهاجرين من إسرائيل إلى نوع معين من الإسرائيليين، كجزء من الخطاب ذاته. ولكن بداية الحركة ( حملة تشجيع الهجرة) إلى برلين ليست في "النزول" وانما في الـ "ترك" (المغادرة) والشيء "المتروك" هو أولاً وقبل كل شيء حقل هذا الخطاب ذاته.

 


يضع السجال الدائر في إسرائيل حول (حملة) الهجرة إلى برلين، في مركزه مسألة رفاهية العيش والوجود المادي فيها مقارنة مع إسرائيل. ولكن، وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة، يبدو لي أن هذا النقاش قائم على عدم فهم جوهري للثمن الشخصي الكبير المترتب على مثل هذه الهجرة، فمغادرة إسرائيل في سن متقدم نسبيا، ليس بالأمر الهين على الاطلاق، إذ أن إسرائيل دولة صغيرة، معزولة سياسيا وثقافيا في الحيز الجغرافي، ولغتها لغة ثانوية ضعيفة، وبالتالي ليس من السهل على الانسان الذي نشأ فيها وتربى على ثقافتها أن يهاجر ويندمج في مجتمعات ودول أخرى، هذا فضلا عن الألم والمعاناة الشديدين المترتبين على ترك أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء، وكل ما يشكل الأساس للهوية الشخصية والوجود المادي للإنسان.

 


وحين يدخل أطفال إلى الصورة، كما حدث لي ولزوجتي، فإن الأمر يؤكد ويبرر أكثر الفجوة والثمن الباهظ الذي يزداد بمرور الوقت، طفل يولد في برلين بعيدا عن معظم أفراد العائلة والأقارب، وينشأ فيها بينما تكون لغته الأولى هي الألمانية وثقافة برلين الكوزموبوليتية، وليس لغة وثقافة والديه المهاجرين وأفراد عائلته في إسرائيل.

 


وينطبق ذلك بطبيعة الحال على الهجرة من إسرائيل إلى أية مدينة كوزموبوليتية كبيرة أخرى في العالم، ولكن لماذا (اختيار) برلين بالذات؟!

 


أولا، لا يجوز إنكار أن للعنصر المادي وسهولة الهجرة وزنا جوهريا، فبرلين هي العاصمة الأرخص أسعاراً وتكلفة معيشة في أوروبا الغربية. وبالنسبة للإسرائيليين الذين يحملون جواز سفر أوروبيا، فإن الهجرة إلى ألمانيا مسألة سهلة جدا من ناحية بيروقراطية، وهي غير معقدة أيضا حتى بالنسبة للإسرائيليين الذين لا يوجد في حوزتهم أي جواز سفر أجنبي، ففي المانيا قوانين خاصة تتيح إصدار تأشيرات دخول للإسرائيليين دون تعقيدات لأسباب تتعلق بـ "تصحيح" الظلم التاريخي (المحرقة النازية)، والتي تجعل برلين أسهل للهجرة (هجرة اليهود الإسرائيليين) من أي عاصمة أوروبية أخرى.

 


ثانيا، تتمتع برلين بصورة مدينة جذابة ذات أجواء مميزة، ولذلك فإنها تشكل هدفا مفضلا لأعداد كبيرة من المهاجرين من الولايات المتحدة ونيوزلندا والدول الاسكندنافية، وليس فقط من دول أوروبا التي تعاني من أزمة اقتصادية متدحرجة.

 


ولعل مصطلح "كوزموبوليتية" يحتاج هنا إلى مزيد من الايضاح: ففي مدينة مثل برلين تتألف غالبية السكان، في مناطق معينة على الأقل، من مهاجرين.. في المنطقة التي أقيم فيها غالبية السكان ألمانية، لكنها أغلبية نسبية، إذ يقيم فيها أيضا أتراك وعرب (فلسطينيون وسوريون ولبنانيون..) وإيرانيون، ومهاجرون أوروبيون من اليونان واسبانيا وايطاليا وانجلترا والولايات المتحدة واستراليا ودول كثيرة أخرى، بالإضافة إلى عدد متزايد من المهاجرين الإسرائيليين، وفي مثل هذا المكان لا يتجلى الاغتراب بصورة حادة، وإنما يشكل جزءا عضوياً من الحيز، وهذا أمر في غاية الأهمية، ويعني أنه يمكن للمهاجر أن يجد لنفسه مكانا في مدينة كهذه دون أن يشعر بأنه نبته غريبة.

 


مع ذلك فإن كل هذه الأمور ليست أهم من الحقيقة الحاسمة الكامنة في قرار الهجرة من إسرائيل إلى برلين، والذي ينطوي على تصريح سافر تجاه منظومة أيديولوجية كاملة تقبع في مركز الخطاب السياسي – الثقافي الإسرائيلي، الذي يضع "برلين"، في شكل خاص، و"المانيا" بشكل عام، كنقيض لـ "الإسرائيلية" والصهيونية. وبكلمات بسيطة، فإن القرار بالمغادرة (الهجرة) إلى برلين لا يماثل قرار المغادرة إلى لندن أو باريس أو لوس انجلوس وما إلى ذلك. فهذه الخطوة تنطوي على رفض مبدئي لشيء ما في "الإسرائيلية". وتحديد فحوى هذا الرفض ليس بالأمر القابل للتبسيط، ذلك لأن الحديث يدور على موقف ديناميكي يتسع تفسيره ويعاد فتحه مجددا طوال الوقت، لأن الإسرائيلي المغادر، مثلي، ما زال إسرائيليا، حتى في برلين.

 

 

 

المغادرة والسبب الحقيقي

 


إن قرار مغادرة إسرائيل هو قرار يتخذ داخل إسرائيل، ينشأ ويصاغ داخل الخطاب الإسرائيلي. صحيح أن المغادرة جرت على أرضية مستمرة وطويلة من الضائقة الاقتصادية التي عشتها مع غالبية الناس من حولي، ولكن ذلك ليس هو سبب المغادرة. السبب هو الشعور بعدم وجود مستقبل في إسرائيل: فالسلطة الإسرائيلية تقمع وتدوس الشعب الفلسطيني بوحشية فظيعة، فيما الأكثرية الساحقة من الإسرائيليين، ليس فقط لا تكترث نهائيا بهذا الواقع، بل إن الأمر لا يبدو لها إطلاقا على هذا النحو: و"نحن" الضحايا و"هم" يريدون إبادتنا، و"لا خيار سوى سحق الإرهاب الفلسطيني بكل قوة" والجيش الإسرائيلي هو "الجيش الأكثر اخلاقية في العالم"، و"لا يوجد شريك للسلام والحوار".. ذلك هو مضمون الخطاب العام الإسرائيلي الحافل بالدعاية والميثوغرافيا، والذي يسقط على الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال خطاباً قومياً تاريخيا، ويشكل بالنسبة للغالبية العظمى من الإسرائيليين الحقيقة المطلقة. فمعظم الإسرائيليين لا يريدون، ولا يستطيعون، السماح لأنفسهم برؤية ما يدور حولهم، ذلك لأن عالمهم بأكمله مرتبط بتبرير الجماعية التي تُرتكب باسمها الجريمة المتواصلة بحق الفلسطينيين. والواقع هو أن بنيامين نتنياهو يبدو بالنسبة لأكثرية الإسرائيليين، الخيار الأفضل، فهو غير "مزيف" مثل يائير لبيد، وليس "مستوطنا" مثل نفتالي بينيت، وليس "روسيا" مثل ليبرمان.

 


خلال الـ "لاحرب" الأخيرة في غزة، سيطر اليمين على الخطاب العام الإسرائيلي. وقد بدا لي ذلك، ولكثيرين آخرين، بمثابة مقارنة تاريخية مع "ليلة تحطيم زجاج الواجهات" (ليلة التاسع من تشرين الثاني 1938 التي نظم فيها النازيون أعمال الشغب ضد يهود ألمانيا)، فقد تم اجتياز خط أحمر، واختارت الأكثرية في إسرائيل الإذعان والالتزام بالخط الرسمي. ولعل من الطريف أنه جرى استبدال مصطلح "اليسار الهاذي"، الذي دُمغ به جميع اليساريين الذين يعتقدون أن "النزاع" ما هو إلا "احتلال" وظلم واضطهاد، بل و"جريمة ضد الانسانية"، بمصطلح "اليسار المتطرف" الذي يؤكد الرجعية العنيفة لـ "محافل اليسار"، والتي توازي تماماً الرجعية العنيفة لعناصر اليمين التي أحرقت فتى فلسطينيا وهو على قيد الحياة كعمل "انتقامي"، أو ترغب في إزالة المسجد الأقصى وإقامة الهيكل الثالث مكانه. ومن ناحية عملية فقد أخذت تتنامى في إسرائيل في الأعوام الأخيرة، لغة سياسية تقصي اليسار من الخطاب العام المشروع، وفيما يزداد شلل وعجز اليسار، تشتد حدة هذه اللغة التي أخذت تسيطر على المركز السياسي.

 


لقد شعرت في العام 2012، الذي قررت فيه مغادرة إسرائيل، بأنه لم يعد هناك مخرج من هذه العملية التي تمر بها الدولة، والتي تفضل فيها أكثرية الجمهور الإسرائيلي تسليم زمام الحكم لأشخاص يدمرون بصورة متعمدة أية فرصة للتوصل إلى تسوية، والحل الوحيد من وجهة نظرهم هو دولة الأبارتهايد. إن الظلم المتواصل للجمهور الإسرائيلي (وأزمة "غلاء المعيشة") إنما يتم لصالح مشروع الاستيطان واستمرار الاحتلال والوضع الذي تحتاج فيه إسرائيل إلى جيش كبير ومتطور، بدعوى أنها في حالة حرب مع أغلب جيرانها، وهذا في الوقت الذي يخلو فيه السجال العام في إسرائيل حول الوضع الاقتصادي من أي نقاش لهذه المسائل، كما أن معظم الصحف وقنوات الأخبار الإسرائيلية تخلو من أية تغطية حقيقية لما يحدث في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولمعاناة الفلسطينيين سواء تحت الاحتلال الاعتيادي، أو في أحوال "اللاحرب" مثل عملية "الجرف الصامد" وكل ما سبقها من عمليات عسكرية. ويمكن للمرء أن يهتف في المظاهرات ويكتب على صفحات الفيسبوك منشورات، كما يحلو له، مثل هذا المنشور، دون أن يكون لذلك أي تأثير على الغالبية العظمى من الإسرائيليين.

 


لدي أخ غير شقيق، وهو رجل شجاع انخرط في نشاطات يسارية في إطار منظمة "مقاتلون من أجل السلام". سألته في حديث معه: لماذا يواصل التظاهر والنشاط في الوقت الذي يدرك فيه أن ما يقوم به لن يغير الواقع السائد في إسرائيل؟ فأجابني بسؤال: "ما هو الأفضل؟ أن تكون هناك مظاهرات يسارية أم لا؟ إذا غادر الجميع فإن إسرائيل ستفعل ما يحلو لها دون معارضة من أي إسرائيلي". إنه محق، فقد كنت وما زلت أرغب في التغيير، ولكنني أشعر وأعتقد بأنني لا أستطيع القيام بذلك في إسرائيل دون أن أُسحق، وحتى في هذه الحالة فإن مغزى هذا التضامن ما هو إلاّ مشاركة جزئية ومشوهه في المصير، ليس إلاّ.

 


إن الهجرة إلى برلين تعني الاعتراف باستحالة البقاء في إسرائيل، وبعدم القدرة على التغيير.. تعنى الإقرار بحقيقة أنه لا وزن لصوتي، وأن أعمالي ليس لها أي تأثير، ما عدا أن أكون ورقة التوت لكل أولئك الذين يدعون بأن إسرائيل دولة ديمقراطية، يمكن حتى لكارهيها من يساريين أشكناز ومتهربين من الخدمة العسكرية ومحبين للعرب، أن يعبروا عن رأيهم دون أن يجدوا أنفسهم في زنازين تحقيق شرطة سرية!. كلا، ليس لي دور أو مكان هنا، ربما باستثناء أن أكون ملاحظة هامشية في التاريخ الذي سيُكتب: كان هناك إسرائيليون أيضا عارضوا اغتصاب الشعب الفلسطيني!

 


لقد اخترنا مغادرة مكاننا وثقافتنا ولغتنا نتيجة الشعور بالعجز، والاختيار هو بين القدرة على التأثير على محيطنا ومستقبلنا، وبين الحياة كجزء من دولة قومية، ومن غير الممكن القيام بالأمرين في آن واحد، جنبا إلى جنب. وفي المغادرة في حد ذاتها اختيار لـ"ما بعد الإسرائيلية"، وهذا لا يشكل خروجا عن السرد الصهيوني بشأن ما بعد الصهيونية أو مناهضة الصهيونية. والصهيونية كميدان خطاب انتقلت في العقود الأخيرة إلى هيمنة اليمين التي استبدلت عمليا مضمون المصطلح التاريخي "صهيونية". لقد استبدلت الصهيونية بـ "الاستيطان". فأن تكون صهيونيا، يعني حاليا تأييد المشروع الاستيطاني لليمين الصهيوني، وقبول هذه اللغة السياسية باعتبارها لغة تصف الواقع.

 


إن قرار المغادرة إلى برلين ينطوي على قبول لتناقض داخلي يشكل الأرضية لـ " ما بعد الإسرائيلية"، والانتقال إلى مكان يمثل النقيض لـ "الإسرائيلية" ينطوي في حد ذاته على رفض للإسرائيلية. إن المغادرة إلى برلين لها قطعاً مغزى سياسي.. فأنا هنا لأنني لست مستعداً للاستمرار في وضع مصيري في أيدي حكومات إسرائيل ولست مستعداً للمساهمة والمشاركة في الحياة والممارسة السياسية لدولة إسرائيل، ولم أغادرها من أجل تأييدها من الخارج، ولن أكون جزءا من لوبي مؤيد لإسرائيل على غرار الجالية الإسرائيلية في لوس أنجلوس.

_______________________________

 


(*) أكاديمي إسرائيلي مقيم في برلين. المصدر: شبكة الانترنت. ترجمة خاصة.