في سابقة قضائية - المحكمة العليا الإسرائيلية تمنع نشر رواية أدبية

على هامش المشهد

 


بعد قرار إلغاء قانون المتسللين للمرة الثانية: موجة يمينية جديدة تستهدف محاصرة المحكمة العليا الإسرائيلية

 

 

 

*حملة، رسمية وشعبية من التحريض السافر على المحكمة العليا وقضاتها تتضمن اتهامهم بـاعتماد نهج "ما بعد صهيوني يحمل آثارا مدمرة على وجود إسرائيل كدولة يهودية صهيونية" و"التخلي عن مواطني إسرائيل" و"التعدي على سيادة الكنيست" و"تفضيل اللاجئين الأفارقة على مواطني إسرائيل وأمنهم"!*

 


كتب سليم سلامة:

 

 


موجة أخرى من الغضب والتحريض اليميني ضد "المحكمة العليا" الإسرائيلية تعلو وتتفاعل في إسرائيل هذه الأيام تبتغي، كما في المرات السابقة أيضا، ترسيم حدود جديدة لهذه المحكمة ووضع قيود عليها، بما يفضي إلى "تقليص صلاحياتها" ـ وهو العنوان المُعلن لهذه الموجة، صراحة وجهاراً دونما حرج أو مواربة – من خلال نص قانوني يُصار إلى تبنيه، سياسيا وجماهيريا، ثم تكريسه، تشريعيا ورسميا.

 


والحقيقة أن "المحكمة العليا" الإسرائيلية ليست في حاجة إلى توفير أية حجج، أو ذرائع، لأوساط اليمين الإسرائيلية، سواء الحزبية الرسمية منها أم الشعبوية غير الرسمية، لكي تعلن هذه الحرب عليها، من حين إلى آخر، على الرغم من كل شهادات "حسن السلوك" التي تقدمها هذه المحكمة عن نفسها في كل ما يتصل بحقوق الإنسان الفلسطيني أيا كان، بمن في ذلك الفلسطيني المواطن في دولة إسرائيل (يمكن الإشارة هنا إلى جملة منوعة من القرارات التي أصدرتها هذه المحكمة بوصفها "محكمة العدل العليا" في إسرائيل في قضايا عديدة جدا تشرعن المسّ السلطوي، العسكري والمدني، بالفلسطينيين، الاعتداء على حقوقهم ومصادرتها!).

 


ورغم هذه الحقيقة، المعروفة للبعيد والقريب من متابعي "الرأي العام" الإسرائيلي ووسائل التعبير عنه، إلا أن اليمين الإسرائيلي يتصيّد "الفرص" التي يراها "ذهبية" كي ينقض على هذه المحكمة ويشن الهجوم عليها، كلما صدر عنها قرار لا يتماشى مع توجهاته وطروحاته الفكرية ولا ينسجم مع ممارساته السياسية، بل لا يشرعنها ويصدّق عليها. وفي كل معركة من هذه الحرب المتواصلة التي يشنها اليمين الإسرائيلي ضد المحكمة العليا، تحت غطاء كونها "معقلا لليسار"، يُشاع حولها وعنها جو عام مناوئ، بل معادٍ، لا يمكن التغاضي عن تأثيره، غير المباشر أو المباشر حتى، على أداء قضاة هذه المحكمة، توجهاتهم وقراراتهم القضائية.

 


أما الفرصة الأخيرة التي "وفرتها" المحكمة العليا لأوساط اليمين الإسرائيلي هذه لتنقضّ عليها معتبرة إياها "صيدا ثمينا" فتمثلت في قرار هذه المحكمة الذي صدر يوم 22 أيلول الأخير وقضى بإلغاء قانون شرّعه الكنيست الإسرائيلي (البرلمان/ السلطة التشريعية)، وهو القانون الذي أصبح يُعرف في إسرائيل ـ إعلاميا وسياسيا ـ باسم "قانون المتسللين". لكن الجديد وغير المسبوق في هذه الهجمة المتجددة على هذه المحكمة هو انخراط عدد لافت من المسؤولين الحكوميين الرسميين، وفي مقدمتهم عدد من الوزراء يتقدمهم رئيس الحكومة نفسه، الذين سارعوا إلى "البحث في السبل البديلة لتجاوز قرار المحكمة العليا"!

 

 

 

تحريض سافر "المحكمة العليا = داعش"!

في أعقاب قرار المحكمة العليا هذا، وتنفيذا له، ستضطر السلطات الحكومية في إسرائيل ـ رسميا، على الأقل! ـ إلى إطلاق سراح 2200 لاجئ أفريقي معتقلين في "حولوت" في غضون مدة أقصاها 90 يوما، إضافة إلى إطلاق سراح 500 آخرين من اللاجئين المعتقلين في معتقل "سهرونيم". غير أن النتيجة الأصعب المترتبة على قرار المحكمة هذا، من وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية، تتمثل في أنها (الحكومة) ستكون ملزمة الآن بوضع وتنفيذ سياسة جديدة، مختلفة تماما عما سبق، في كل ما يتعلق بالتعامل مع اللاجئين الأفارقة في إسرائيل، والذين تشير معطيات رسمية إلى أن عددهم يبلغ حاليا نحو 60 ألف إنسان، غالبيتهم الساحقة من إريتريا والسودان، ممن لا تستطيع إسرائيل طردهم بصورة رسمية، لما في ذلك من خرق للقانون الدولي ولاتفاقية حماية الأسرى، التي وقعت عليها إسرائيل. ولأن الأمر كذلك، فهي تلجأ إلى ممارسة الضغوط الشديدة والمختلفة عليهم (السجن، الاعتقال الإداري، التحريض الدموي ضدهم وحرمانهم من أبسط الخدمات وأكثرها حيوية) لاضطرارهم إلى المغادرة "بصورة طوعية واختيارية" (!!) – وهو ما نجحت في تحقيقه مع آلاف من هؤلاء اللاجئين الذين غادروا إسرائيل، فعلا.

 


وفي تعقيبه الأولي على قرار المحكمة العليا هذا، فور صدوره، وما يترتب عليه من استحقاقات قانونية وسياسية قد تثير، أيضا، قلاقل في داخل ائتلافه الحكومي، قال رئيس الحكومة، بنيامين نتيناهو، إنه "مصمم على الاستمرار في قيادة واعتماد الإجراءات الحكومية المختلفة لمعالجة ظاهرة التسلل ومواجهتها"، مضيفا أنه "إلى جانب احترام قرار المحكمة العليا، سأتباحث مع وزير الداخلية والمستشار القانوني للحكومة لإيجاد السبل الكفيلة بتطبيق سياستنا الحازمة التي نجحت في لجم سيل المتسللين وإعادة الآلاف منهم"!

 


لكن حراك "الشارع" وعدد من الوزراء وأعضاء الكنيست الأساسيين في الائتلاف الحكومي، الذي ابتغى ممارسة الضغط على الحكومة، ورئيسها بالذات، لم يتأخر، مستخدما لغة التحريض الأرعن والمباشر على قضاة المحكمة العليا من خلال توجيه اتهامات خطيرة لهم. وكان أول المتصدّين لقرار المحكمة العليا وزير الداخلية، غدعون ساعر، صاحب التعديل (الثاني) الذي قررت المحكمة العليا إلغاءه، فشن هجوما على هذا القرار ووصفه بأنه "مغلوط" لأنه "يُبقي إسرائيل من دون أدوات ملائمة لمواجهة ظاهرة التسلل غير القانوني". ودعا ساعر (من حزب "الليكود") إلى "تقييد الصلاحية القضائية في ما يتعلق بمسألة التسلل إلى إسرائيل" من خلال "تعديل قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته (القانون الذي اعتمدته المحكمة العليا في قرار إلغاء التعديل) على نحو يحدّ من قدرة المحكمة العليا على التدخل في تشريعات الكنيست الرامية إلى مواجهة ظاهرة التسلل إلى إسرائيل"!

 


وتبعه رئيس الائتلاف الحكومي، عضو الكنيست ياريف ليفين (من "الليكود")، الذي وصف قرار المحكمة العليا بأنه "ما بعد صهيوني له تأثير تدميري على مجرد وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية ويتعدى، بفظاظة، على سيادة الكنيست"! وأضاف ليفين: "قضاة المحكمة العليا تخلوا عن سكان تل أبيب وإيلات وعن مواطني إسرائيل عامة... قضاة المحكمة العليا منقطعون عن الواقع، منقطعون عن الشعب ويزدرون المبدأ الأساس في وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية ذات نظام ديمقراطي"!

 


وأعلن ليفين أنه سيبادر إلى جملة من الإجراءات الرامية إلى "لجم المحكمة العليا وتقليص صلاحياتها"، من بينها: تغيير تركيبة "لجنة اختيار القضاة" بما يضمن ضم قضاة "ذوي مواقف أكثر تنوّعاً وأكثر التزاما بمستقبل إسرائيل"!!

 


واستخدم وزير الاقتصاد، نفتالي بينيت (من "البيت اليهودي") الكلمات نفسها في الحديث عن "انقطاع المحكمة العليا وقضاتها عن الشعب" و"التخلي عن سكان تل أبيب"، ثم قال: "علينا احترام سلطة القانون، لكن المحكمة العليا تبدي فائضا من الفاعلية القضائية إلى درجة الاستيلاء على صلاحيات هي للحكومة حصريا، بوصفها تتحمل المسؤولية العليا عن أمن إسرائيل ومصالحها"!

 


واتهم وزير البناء والإسكان، أوري أريئيل (من "البيت اليهودي") قضاة المحكمة العليا بـ "كسر رقم قياسي جديد في إدارة الظهر لدولة إسرائيل والتخلي عنها"!! وقال: "من الصعب أن نصدق أن المحكمة العليا الإسرائيلية تقوّض، بيديها، قدرة دولة إسرائيل على الدفاع عن نفسها في مواجهة ظاهرة المتسللين... إنه يوم أسود لسلطة القانون في إسرائيل"!

 


ووصف رئيس "لجنة الخارجية والأمن" البرلمانية، عضو الكنيست زئيف إلكين (من "الليكود") قرار المحكمة العليا بأنه "فضائحي" واتهم قضاتها بـ "تفضيل مصلحة المتسللين غير القانونيين على أمن مئات الآلاف من مواطني إسرائيل الملتزمين بالقانون"! وقال: "ليس من حق الجهاز القضائي، وليس في وسعه، الحلول محل الكنيست والحكومة من أجل حماية منتهكي القانون والمسّ بطابع دولة إسرائيل اليهودي وبأمن مواطنيها"! وخلص إلكين إلى القول إنه "حان الوقت لأن يقوم الكنيست بتذكير الجهاز القضائي بأن صاحب السيادة في دولة إسرائيل هو الشعب الذي انتدب ممثليه في الكنيست لكي يقوم هؤلاء برسم وتوجيه السياسة التي تقرر وتصوغ حياتنا جميعا... ولا مناص من أن نحدد، مرة وإلى الأبد، في قانون أساس: القضاء، قواعد اللعبة ما بين الكنيست والمحكمة العليا بما يتيح للكنيست تجاوز ما تقرر المحكمة العليا شطبه من قوانين"!!

 


أما رئيسة لجنة الداخلية البرلمانية، عضو الكنيست ميري ريغف (من "الليكود")، فوصفت قرار المحكمة العليا بأنه "عارٌ ومخزِ"، مرددة هي أيضا تهمة انقطاع المحكمة وقضاتها عن الشعب، وخلصت إلى أن "قرار إلغاء القانون يعكس أزمة ثقة عميقة بين السلطة التشريعية (الكنيست) والسلطة القضائية (المحاكم) وعلى الكنيست أن تقرر تقييد صلاحية المحكمة العليا في مجال إلغاء قوانين يسنّها الكنيست"!

 


واعتبرت رئيسة كتلة "البيت اليهودي" البرلمانية ورئيسة "اللوبي لإعادة المتسللين إلى بلادهم"، عضو الكنيست أييلت شاكيد، أن قرار المحكمة العليا يمثل "انهيار عالَم مئات الآلاف من مواطني دولة إسرائيل. فالمحكمة العليا تدعو سكان إفريقيا إلى القدوم إلى إسرائيل. إنها تمسّ بأمن الدولة وبأمن مواطني تل أبيب وتدوس السلطة التشريعية"!

 


وأعلنت شاكيد أن "اللجنة الوزارية لشؤون التشريع" ستبحث، خلال الأسبوع الأول من دورة الكنيست الشتوية القريبة (التي تبدأ يوم 26 تشرين الأول الجاري)، اقتراحا تقدمت به هي (شاكيد) لتعديل قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته، بما يضمن تقييد صلاحية المحكمة العليا في مجال شطب قوانين سنتها الكنيست.

 


وتزامنت تصريحات السياسيين هذه مع مظاهرة نظمتها حركتان يمينيتان متطرفتان هما: "لهافاه" اليمينية المتطرفة ("لمنع الاختلاط في الأراضي المقدسة"!) و"كاخ" وشارك فيها سكان الأحياء الجنوبية في مدينة تل أبيب، حيث يتركز معظم اللاجئين الأفارقة، ضد المحكمة العليا واحتجاجا على قرارها الأخير ولمطالبة الحكومة بتجاهل هذا القرار ومواصلة "الحرب ضد التسلل والمتسللين". ورفع المشاركون في المظاهرة أعلاما سوداء قصدوا من خلالها توجيه رسالة مفادها: "قرار المحكمة العليا خطيرة مثل داعش"، بينما "أوضح" عدد من المشاركين، في تصريحات لوسائل إعلام إسرائيلية، أن "المحكمة العليا الإسرائيلية وقضاتها أكثر خطورة على دولة إسرائيل من حماس، حزب الله وداعش معاً"!!

 


وتحدث في المتظاهرين نائب رئيس بلدية تل أبيب ـ يافا، أرنون غلعادي، فقال إنه "يوم أسود لسلطة القانون في إسرائيل... لقد ثبت، بصورة قاطعة ونهائية، أن لا قضاة في القدس... المحكمة العليا تثبت، مرة تلو أخرى، أنها قادرة على كسر أرقام قياسية جديدة في الانغلاق والانقطاع عن الشعب الإسرائيلي"! وقال: "نحن نرى في رئيس الحكومة، شخصيا، المسؤول الأول والأساس الذي يتعين عليه إيجاد حل آخر وبصورة فورية لكي يعود السكان إلى حياتهم الطبيعية"!

 


"السبل البديلة" = الالتفاف على قرار المحكمة وتقليص صلاحياتها

وحيال هذا الحراك الضاغط، "اضطر" نتنياهو إلى الكشف عن حقيقة "السبل البديلة" التي قال إنه يعتزم "إيجادها"، فبادر إلى عقد جلسة تشاورية خاصة، الأسبوع الماضي، بحضور وزير الداخلية، ساعر، والمستشار القانوني، يهودا فاينشتاين، ووزيرة العدل، تسيبي ليفني، فضلا عن ممثلين لأجهزة حكومية مدنية وأمنية مختلفة، خصصت للبحث في هذه "السبل"، ارتكازا إلى تصريح نتنياهو بأن "المصلحة القومية العليا تحتم علينا منع دخول متسللين جدد إلى إسرائيل وتشجيع المتسللين المتواجدين فيها على المغادرة. وهذا ما سنفعله" (!) وانطلاقا من الإجماع على أن قرار المحكمة الأخير "سيعيق الجهود الحكومية الجبارة للمحافظة على طابع الدولة اليهودي ـ الصهيوني ولتجنب تحويل دولة إسرائيل إلى دولة جميع مواطنيها"!

 


ويتضح مما رشح عن نتائج تلك الجلسة أن الحكومة، ورئيسها تحديدا، تتكئ على هذا "الحراك الضاغط"، بل تستخدمه، كما تتكئ على رأي رئيس المحكمة العليا، آشير غرونيس (الذي عارض قرار المحكمة) بأن "المحكمة، بتبنيها هذا الموقف، تضع نفسها مكان المشرِّع" (إقرأ عنه في مكان آخر على هذه الصفحة)، وذلك للمضي في تطبيق السياسة نفسها، من خلال الالتفاف على قرار المحكمة العليا الأخير، بل خرقه بصورة جلية، عبر إدخال تعديلات جديدة على "قانون المتسللين" نفسه، إلى جانب تعديلات أخرى على "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" تتيح للكنيست إعادة سنّ أي قانون تقرر المحكمة العليا إلغاءه، بدعوى عدم دستوريته نظرا لانتهاكه حقوقا أساسية.

 


ففي ختام تلك الجلسة، أمر رئيس الحكومة بتكليف الجهات الحكومية المختصة، وعلى رأسها وزير الداخلية، ساعر، بإعداد مسوّدة جديدة لـ "قانون المتسللين" يتيح للحكومة مواصلة إجراءاتها في "محاربة ظاهرة التسلل غير القانوني"، بما فيها الإبقاء على "منشأة حولوت" وإمكانية احتجاز (اعتقال) المتسللين فيها لفترة تتراوح بين 6 أشهر و 9 أشهر، من دون محاكمة، وذلك خلافا لقرار المحكمة القاضي بإغلاق هذه المنشأة في غضون 9 أشهر وبمنع اعتقال أي إنسان من دون تقديمه إلى المحاكمة.

 


وتقرر في الجلسة إياها، أيضا، "مواصلة تشجيع طالبي اللجوء على المغادرة الطوعية"(!) إلى جانب "تكثيف الإجراءات العقابية" ضد مشغّلي هؤلاء اللاجئين!

 


ونشير هنا إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تحاول فيها الحكومة والكنيست الالتفاف على قرارات المحكمة العليا عامة، وفي شأن "المتسللين" خاصة. فقبل نحو عام تقريبا، وإثر قرار المحكمة العليا الذي قضى بعدم دستورية اعتقال اللاجئين وسجنهم في معتقل "سهرونيم" لمدة تصل حتى ثلاث سنوات، أقر الكنيست ـ بمبادرة من الحكومة ـ تشغيل "منشأة حولوت" بوصفها "منشأة مفتوحة"(!) لاحتجاز اللاجئين فيها لمدة سنة واحدة من دون محاكمة.

 

 

 

المحكمة العليا، للمرة الثانية: "قانون المتسللين" – غير دستوري!

القرار الذي أصدرته المحكمة العليا يوم 22 أيلول وقضت فيه بإلغاء "قانون المتسللين" بصيغته الجديدة، بجريرة عدم دستوريته، حظي بتوصيفات استئثنائية (من بينها: "قرار دراماتيكي"، "قرار نادر"، "هزة أرضية"، "دراما قضائية رهيبة") وذلك على خلفية كونها المرة الثانية التي تصدر فيها هذه المحكمة قرارا يؤكد عدم دستورية "قانون المتسللين" ويقضي بإلغائه، وعلى خلفية كون القرار الأخير صدر عن المحكمة بهيئة موسعة تألفت من تسعة قضاة وعلى خلفية حقيقة أنها المرة العاشرة فقط منذ قيام الدولة التي تُقدِم فيها المحكمة العليا على هذه الخطوة غير العادية المتمثلة في شطب قانون أقره الكنيست، نظرا لعدم دستوريته: أي، تعارضه مع أحد "قوانين الأساس" التي تشكل، في الممارسة القضائية الإسرائيلية، "دستورا" إسرائيليا غير مكتوب.

 


فقد توصل القضاة التسعة في قرارهم الأخير إلى الخلاصة التالية: "التعديل موضوع الالتماس غير دستوري، لأنه ينطوي على مسّ حاد وغير تناسبي بالحق الدستوري في الحرية، والذي يضمنه قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"! وتصيب هذه الخلاصة بندين أساسيين في التعديل المذكور: البند الأول ـ ينص على حبس كل إنسان يتسلل إلى إسرائيل بطريقة غير قانونية لفترة أقصاها سنة واحدة من غير تقديمه إلى محاكمة. وهنا، رأى ستة قضاة أن هذا البند غير دستوري فأمروا بإلغائه وبمنع الحكومة الإسرائيلية من سجن أي إنسان دون تقديمه إلى المحاكمة أولا، بينما رأى القضاة الثلاثة الآخرون أن هذا البند "لا يتعارض مع قانون الأساس". والبند الثاني ـ ينص على الزج بجميع طالبي اللجوء الأفارقة المقيمين في مدن إسرائيلية مختلفة في "منشأة حولوت" ("مركز إقامة للمتسللين") في صحراء النقب. وهنا، رأى سبعة من القضاة أن هذا البند غير دستوري فأصدروا أمرا بإغلاق هذه المنشأة (وهي، في الحقيقة، عبارة عن سجن تديره "سلطة السجون الإسرائيلية"، أقيم بتكلفة بلغت أكثر من نصف مليار شيكل!) في فترة لا تتعدى الـ 90 يوما، بينما عارض اثنان من القضاة هذا القرار.

 


وكما أشرنا سابقا، هذه هي المرة الثانية التي تقضي فيها المحكمة العليا بعدم دستورية "قانون المتسللين" هذا. ففي حزيران من العام 2012، بدأ سريان مفعول هذا القانون بصيغته الأولى كما أقرها الكنيست في كانون الثاني من العام نفسه. وكانت تلك الصيغة بمثابة تعديل (أول) على "قانون منع التسلل" الإسرائيلي الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في 16 آب من العام 1954 لمحاربة ما كانت تطلق عليه إسرائيل آنذاك اسم "المتسللين" الفلسطينيين، من خلال رفع درجة خطورة "مخالفة التسلل" في التدريج الجنائي الإسرائيلي ومن خلال إنشاء جهاز قضائي عسكري خاص يستطيع محاكمة "المتسللين" بأقصى السرعة الممكنة (راجع مقالنا حول القانون الأصلي والتعديل الأول، في ملحق "المشهد الإسرائيلي"، العدد 303، الثلاثاء 19/3/2013).

 


وتضمن التعديل إضافة بندين أساسيين على القانون الأصلي، يسمح أولهما باحتجاز / سجن أي شخص يعبر الحدود دون تصريح، اعتقالا إداريا، لمدة تصل إلى ثلاث سنوات دون محاكمة، بدلا من 60 يوما كما كان في السابق، ويمكن في بعض الحالات تمديد فترة الاحتجاز هذه إلى أجل غير مسمى. بينما نص البند الثاني، الذي تضمنه التعديل، على إمكانية فرض عقوبة السجن الفعلي لمدة تتراوح من 5 سنوات إلى 15 سنة على أي شخص يُدان بمساعدة هؤلاء "المتسللين"، سواء في عملية "التسلل" نفسها أو بعد دخولهم إلى البلاد.

 


وفي كانون الأول 2012، قدمت مجموعة من منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية التماسا إلى المحكمة العليا ضد هذا التعديل مطالبة بإعلان عدم دستوريته وإلغائه، استنادا إلى حقيقة أن الضحايا الأساسيين الذين سيخضعون للاعتقال الإداري المنصوص عليه في هذا التعديل هم مواطنون من إريتريا والسودان، أقرت الحكومة الإسرائيلية بأنه "لا يجوز طردهم" (وفقا لنصوص القانون الدولي، وخاصة الاتفاقية الدولية الخاصة بحماية اللاجئين). وعليه ـ قال الملتمسون ـ فإن المُراد بهذا الاعتقال الإداري هو الردع وليس الطرد، ولذا فهو يتعارض مع حق الإنسان في الحرية.

 


وفي أيلول 2013، أصدرت المحكمة العليا قرارها في هذا الالتماس فأعلنت ـ بإجماع تسعة قضاة ـ أن التعديل غير دستوري لأنه "ينطوي على مسّ غير تناسبي بالحق في الحرية كما يضمنه قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته". وتأسيسا على خلاصتها هذه، حددت المحكمة مهلة 90 يوماً ليتم بعدها النظر في وضعية كل واحد من المعتقلين، بصورة عينية.

 


وعلى ضوء قرار المحكمة هذا، وما تضمنه من "رسالة مبطنة" إلى الحكومة، سارعت هذه الأخيرة إلى عرض تعديل آخر على القانون نفسه، أقره الكنيست في إجراء تشريعي سريع، في كانون الثاني 2013. وقضى هذا التعديل بتقليص مدة الحد الأقصى المسموح بها لاعتقال أي شخص يعبر الحدود دون تصريح، اعتقالا إداريا بدون محاكمة، إلى سنة واحدة فقط، بدلا من ثلاث سنوات كما نص التعديل الأول. وقد دخل هذا التعديل (الثاني) حيز التنفيذ في كانون الثاني 2014.

 


وردا على هذا التعديل، عادت المنظمات الحقوقية المعنية وقدمت التماسا جديدا إلى المحكمة العليا طالبتها من خلاله بإقرار عدم دستورية هذا التعديل، ثم إلغائه، بادعاء أنه "لا يلبي الشروط التي وضعتها المحكمة العليا ولا ينسجم مع المبادئ التوجيهية التي أرستها في قرارها السابق". وأكدت المنظمات الملتمسة أن "منشأة حولوت" هذه هي "سجن بكل معنى الكلمة وبكل المعايير". وهذا هو الالتماس الذي صدر على أساسه قرار المحكمة العليا الأخير، يوم 22 أيلول الأخير، كما بيّنّاه آنفا، فقضى بإلغاء "قانون المتسللين"، للمرة الثانية.

 


رئيس المحكمة العليا: المحكمة تضع نفسها مُشرِّعاً!

لم يكن مفاجئا ولا مستغربا اختيار رئيس المحكمة العليا، آشير غرونيس، موقف التأييد لـ "قانون المتسللين" بصيغته الجديدة وبقاؤه في عِداد الأقلية (في هيئة المحكمة التي نظرت في الالتماس ضد القانون) التي عارضت رأي الأغلبية التي رأت عدم دستورية هذا القانون، بما يحتم عليها إصدار قرار يقضي بإلغائه، وهو ما فعلته في نهاية الأمر. لكن اللافت في الأمر، تحديدا، هو ما اختاره غرونيس من حجج لتسويغ موقفه هذا، بالرغم من تأكيده على عدم دستورية الاعتقال بدون محاكمة لفترات طويلة كتلك التي نص عليها القانون. وقد شكلت هذه التسويغات متكأ جيدا للأوساط المعارضة لقرار المحكمة العيني والمناوئة لنهجها العام في "الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية"، سواء على المستوى الرسمي، الحكومي والبرلماني، أو على المستوى الشعبي في إسرائيل.

 


فقد ذهب غرونيس إلى حد "اتهام" المحكمة العليا بأنها، في قرارها هذا، "تجعل نفسها الهيئة التي تقرر القاعدة المعيارية، على نحو دقيق، فلا تبقي للمشرِّع (الكنيست) مجالا حقيقيا للمناورة"! ويتساوق رأي غرونيس هذا، إلى حد التماهي التام، مع الحجج التي ترفعها الأوساط المذكورة في حربها المتواصلة ضد المحكمة العليا وضد أي قرار تتخذه بشأن حماية حقوق الإنسان، بما بتعارض مع نهج هذه الأوساط ورؤاها.

 


ورأى غرونيس إنه "لا مكان" لقرار يقضي بإلغاء البند في القانون الذي يتيح للسلطات الحكومية اعتقال اللاجئين الأفارقة في "منشأة حولوت" لمدة تصل حتى سنة واحدة من دون محاكمة!! وأنه لا مكان، بالتالي، لقرار يقضي بإغلاق هذه "المنشأة"!

 


وادعى غرونيس بأن "التعديلات الجديدة التي تم إدخالها على نص القانون الأول، في أعقاب قرار المحكمة العليا السابق (في أيلول 2013) تماشت مع ملاحظات المحكمة"، وعليه فإن "على المحكمة التزام الحذر المضاعَف لدى استخدامها المصفاة الدستورية لئلا تضع، بنفسها، تشريعات جديدة"! وزاد: "لا ينبغي استخدام سلاح غير تقليدي ـ إلغاء نص قانوني ـ طالما كان من الممكن استخدام سلاح تقليدي ـ تفسير القانون على نحو يوصل إلى النتيجة نفسها"!!
وختم غرونيس بالقول: "إذا ما تبنت المحكمة رأي الأغلبية (كما تقرر في نهاية الأمر) فإنها تجعل من نفسها مشرِّعا، بصورة فعلية، وهو ما لا يمكنني القبول به من الناحية الدستورية"!

 

 

 

المنظمات المُلتَمِسة: على الحكومة احترام قرار المحكمة

 


من جانبه، اعتبر المحامي عوديد فيلر، رئيس "قسم الهجرة والمكانة القانونية" في جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، إحدى المنظمات المشاركة في تقديم الالتماس، أن على الحكومة أن تُحدِث الآن تغييرا جوهريا في سياستها حيال اللاجئين الأفارقة، مبديا تخوفه من أنها ستلجأ، كما في مرات سابقة، إلى تجاهل قرار المحكمة العليا والالتفاف عليه "رغم أن الخيار الوحيد المتاح أمامها الآن هو احترام هذا القرار". وهذا ما رآه أيضا، المحامي أساف فايتس، ممثل "مركز حماية المهاجرين واللاجئين" (وهي أيضا إحدى المنظمات المشاركة في تقديم الالتماس)، فقال إن "المحكمة العليا أرغمت الدولة على التعامل مع طالبي اللجوء بكونهم بشرا واحترام حقوقهم وأية سياسة جديدة تقرر الحكومة اعتمادها في هذا المجال ينبغي أن تأخذ قرار المحكمة هذا في الاعتبار".

 


وفي بيان تعقيبي مشترك أصدرته المنظمات الحقوقية التي قدمت الالتماس، قالت إن "المحكمة العليا، بقرارها هذا، أوضحت للحكومة، مرة أخرى، وبصورة حازمة لا لبس فيها، أن السياسة المطلوب اعتمادها حيال طالبي اللجوء لا يمكن اختزالها بالاعتقالات الجماعية بحق أشخاص أبرياء".

 


ودعت المنظمات الحكومة إلى "العمل، بصورة جدية وحقيقية، لمصلحة سكان جنوب تل أبيب وطالبي اللجوء، معا، من خلال رصد الميزانيات اللازمة لتحسين الخدمات المختلفة المقدمة لهؤلاء اللاجئين ورفع مستوى حياتهم، إلى جانب توزيعهم جغرافيا من خلال منحهم تراخيص العمل ومنح المشغلين وأصحاب المصالح في مختلف أنحاء البلاد محفزات كافية لاستيعاب هؤلاء اللاجئين وتشغيلهم".