تقرير جدير لمركز "كيشف": تفاقم التهديدات لحرية الصحافة في إسرائيل خلال العام الأخير

على هامش المشهد

 

 

 

حول سياسة التعامي والصمت في إسرائيل تجاه المذبحة في غزة

 

 

 

 

 

بقلم: عيدان لاندو (*)

 

 

أحجية: إذا كنا محقين إلى هذه الدرجة، وإذا كانت كل غارة من الغارات الجوية على غزة هي "جرف أخلاقي صامد " وقوي، وإذا كان أهالي غزة وسكانها يستحقون كل ذلك، فلماذا إذن يخفون عنا المعطيات والنتائج؟! لماذا لا يطلعوننا على ما يستطيع سكان العالم قاطبة معرفته بكبسة زر؟!

 

يتحدثون هنا (في إسرائيل) عن ديمقراطية مزعومة في الظاهر، لكنهم يمارسون من ناحية عملية، سياسة تعتيم وتستر على الوقائع، على غرار الصحافة في العهد السوفييتي. هذا ما يبدو عليه حال وسائل الإعلام الإسرائيلية طوال الأيام الماضية (منذ بدء العدوان العسكري الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة). لا يبدو أن ما يجري قد فاجأ أحدا، وعلى الأقل كل من شهد هنا عمليتي "الرصاص المصبوب" (عدوان 2008- 2009) و"عمود السحاب" (2012) ضد قطاع غزة، وما زالت التجربة تبرهن على أن سياسة "كم الأفواه" لم تزل صالحة ومجدية! ولأن الإسرائيليين لا يعرفون حقا، وغير مطلعين على حقيقة ما يجري، فإنه يمكن الاستنتاج بناء على ذلك بأنهم لا يسارعون أيضا إلى الاستيضاح وتوجيه الأسئلة حول ما يدور، ولعله ليس من مصلحتهم معرفة ما يجري.

 

ويعيدنا ذلك إلى اللغز أو الأحجية: لماذا يخفون؟! لماذا يصر من يقف الحق والعدل إلى جانبه، على التعامي؟!

 

في مثل هذه الأوضاع فإن ما يمكن للإسرائيليين المتزنين الذين يتحلون بقدر من النزاهة، القيام به، وهذا أضعف الإيمان، هو قول الحقيقة، والمساهمة قدر ما يستطيعون في كسر طوق الصمت واللامبالاة والجهل. وفي مثل هذه الأوقات فإن "التوثيق" هو "المهمة الأكثر إلحاحاً" أمام اليسار الإسرائيلي.

 

***

 

ملاحظة تحذير: إذ كان الواقع في غزة لا يهمك، فيستحسن ألا تواصل القراءة، وألا تكلف نفسك أيضا عناء شرح وتفسير لماذا لا يعنيك، فالناس الذين لا يعبأون بالحقائق، لا يهمونني. وإذا كانت الصور والمشاهد "القاسية" للمعاناة لدى الطرف الآخر، تفوق قدر ة احتمالك (وما سأتحدث عنه لاحقا يعتبر في الحقيقة ناعما وبسيطا جداً مقارنة مع ما يشاهد على شاشات محطات التلفزة والشبكة العنكبوتية) فمن الأفضل أن تتوقف عن المشاهدة وإذا كنت تعتقد أن القصة الحقيقية هي ساعي البريد (اليسار) وليس الرسالة، فمن الأفضل عندئذ أيضا أن توفر على نفسك العناء.

 

***

 

إن ما يجري في غزة في الأيام الأخيرة هو مذبحة، وقد بات من الممكن استخدام هذا التعبير من دون وضعه بين هلالين، ومن دون حذر، ذلك لأن المعطيات القاسية لن تتغير. ففي نهاية اليوم الرابع من العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية، بلغت الحصيلة 105 قتلى و785 جريحا، في صفوف الفلسطينيين في قطاع غزة، ويفوق هذا الرقم (عدد القتلى ) مرتين، عدد القتلى الفلسطينيين في الأيام الأربعة الأولى من عملية "عمود السحاب". غير أن المعطى الصادم في العملية العسكرية الحالية ("الجرف الصامد") يتعلق بالأعداد المرتفعة للضحايا غير الضالعين (أولئك الذين يسمونهم لدينا خطأ "مواطنين" مدنيين، على الرغم من أنه لا توجد لسكان قطاع غزة أية مواطنة). فقد تحدث التقرير الأخير الصادر عن منظمة الأمم المتحدة عن 58 قتيلا مدنيا من أصل 80 قتيلا، فيما تحدث التقرير الأخير للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن 73 قتيلاً من أصل 86، أي أن نسبة الأبرياء الذين قتلوا (في الأيام الأولى من العملية الحالية) تراوحت بين 72% و84%، علما أن نصف عدد القتلى تقريبا هو من النساء والأطفال. وللمقارنة، ففي الأيام الأربعة الأولى ("الناعمة") من العملية العسكرية السابقة ("عمود السحاب") بلغت نسبة القتلى في صفوف المدنيين الأبرياء في غزة 35%.

 

وعليه، فإن ما يجري الآن هو مذبحة إسرائيلية جديدة في غزة لكنها في هذه المرة تجري بشكل أسرع وأكثر وحشية من أي وقت سابق. أما الأضرار التي لحقت بالممتلكات فتقدر بآلاف البيوت المدمرة. وكما حدث في المرات السابقة، لم تتوان إسرائيل عن قصف العيادات الطبية والمستشفيات، التي يحتاجها سكان غزة الآن أكثر من أي وقت مضى. فقد تعرض المستشفى الأوروبي في خانيونس لقصف الطيران الحربي الإسرائيلي، مما تسبب بإصابة 17 مريضا من نزلاء المستشفى بجروح بعدما انهارت أسقف الجبص في قسم العناية المركزة وقسم الأطفال، وغرفة الانتظار في المستشفى. كذلك لحقت أضرار شديدة جراء القصف بعيادة طبية في خانيونس، تديرها منظمة تطوعية (Pmrs). وفي مخيم جباليا أغارت الطائرات الحربية على عيادة تابعة لمنظمة "الهلال الأحمر " الفلسطيني، مما أوقع 15 جريحا في صفوف الطاقم الطبي، فضلا عن تعطيل سيارتي إسعاف.

 

***

 

هذه المعطيات الأولية غير معروفة لدى غالبية مستهلكي وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تتخمهم بسيل من الصور والمشاهد لأطفال إسرائيليين يرسمون على جدران الملاجئ والغرف المحصنة، ولمدنيين يوجهون أنظارهم للسماء لمشاهدة عمليات اعتراض الصواريخ، وتحجب عنهم في الوقت ذاته أي مشهد غير لطيف في الطرف الآخر (الفلسطيني).

 

إن حقيقة أن قراء صحيفة "هآرتس" فقط يطالعون تقارير حول أعداد القتلى والجرحى في صفوف الفلسطينيين في غزة، تبرهن على أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تعمل في غالبيتها العظمى كفرع للمتحدث الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي.

 

***

 

تتبع إسرائيل (خلال العملية الحالية) سياسة عقوبات من نوع جديد: فهي لا تستهدف فقط منشآت عسكرية أو أماكن يشتبه في أنها تستخدم كمخابئ للوسائل القتالية، وإنما تستهدف أيضا منازل وبنايات سكنية اعتيادية تعود لمسؤولين وقادة عسكريين في حركة "حماس".

 

إن مثل هذه الأعمال هي جرائم حرب بكل معنى الكلمة، وعلى ما يبدو، ربما لم يسمع الإسرائيليون شيئا عنها.

 

لعل الحادث الذي نجح في "اختراق وسائل الإعلام الإسرائيلية، هو حادث الإجهاز على ثمانية أفراد من عائلة كوارع في خانيونس، كـ "عقاب" لهم على صلة القرابة العائلية مع عودة كوارع، أحد نشطاء الذراع العسكرية لحركة "حماس". في الثامن من تموز الجاري طبق الجيش الإسرائيلي على بيت العائلة إجراء "طرق السقف" الذي يستخدم فيه صاروخا خفيفا يطلق على سقف المبنى كتحذير مسبق حول نية قصفه وذلك عند الساعة 50ر14، وفي الساعة 00ر15، استهدف البيت بصاروخ ثقيل أطلقته طائرة حربية من طراز إف 16، مما أوقع 8 قتلى بينهم ستة أطفال. وقد آثر أصحاب البيت عدم إخلائه ومغادرته رغم التحذير، وهو ما "وثقته" بالطبع صور الطائرة الصغيرة بدون طيار. وقد ادعى الجيش الإسرائيلي في تعقيبه على الحادث أنه لم يكن في الإمكان حرف الصاروخ عن مساره. لكن هذا إدعاء لا أساس له، يستشف منه أن الصاروخ يحتاج 10 دقائق من لحظة إطلاقه من الطائرة وحتى إصابته للهدف.

 

إن الاستنتاج المنطقي هو أن أحد الطيارين "كبس" على زر فتاك وهو يعلم مسبقا أن هذه "الكبسة" ستقتل مدنيين أبرياء.

 

ثمة حادث آخر وقع في "بيت حانون" في الثامن من تموز. فقد قصفت الطائرات منزل الناشط في حركة الجهاد الإسلامي حافظ حمد (بدون إنذار مسبق) قبيل منتصف الليل، مما أسفر عن مقتل ستة من أفراد العائلة، بينهم فتاة عمرها 16 عاما.

 

في التاسع من تموز "شطر" صاروخ إسرائيلي إلى شطرين بيت عائلة مغازي في خانيونس فقتل صالح نواصرة (23 عاما) وزوجته الحامل "عائشة"، وابني شقيقه الطفلين نضال/ 4 سنوات ومحمد/ رضيع عمره سنتان/ قطع رأسه وعثر عليه لاحقا في باحة المنزل. في العاشر من تموز وعند الساعة 25ر1 بعد منتصف الليل أصاب صاروخ إسرائيلي بيت عائلة "الحاج" في خانيونس، ليتسبب بقتل كل من ياسر الحاج (ناشط في "حماس") ووالده محمد (58 عاما) وشقيقيه سعد (17 عاما) وطارق (19 عاما) وشقيقته أسماء (22 عاما)، إضافة إلى فتاتين أخريين من أقاربه، وشقيق آخر (عمره 20 عاما) دفن تحت الأنقاض.

 

وفي ليلة العاشر من تموز أيضا، كان تسعة مدنيين فلسطينيين يجلسون في أحد المقاهي على شاطئ خانيونس، لمشاهدة مباراة نصف النهائي في مونديال البرازيل بين الأرجنتين وهولندا، وعندئذ اخترق صاروخ إسرائيلي بسهولة سقف المقهى المعمول من القش وقتل على الفور سبعة أشخاص وهم: محمد فوانة، الشقيقان أحمد وسليمان الأسطل (16 و18 عاما) وابن عمهما موسى (16 عاما)، الشقيقان محمد وإبراهيم غنام (24 و25 عاما)، والشقيقان حمدي وإبراهيم صوالحة (20 عاما و28 عاما).

 

***

 

وفيما يجري كل ذلك، يتنافس محللون وسياسيون إسرائيليون في كيل المديح لـ "ضبط النفس" من جانب المستوى السياسي ومن جانب المستوى العسكري وسلاح الجو الإسرائيلي، وفي الثناء على "الدقة الجراحية" المدهشة للإصابات.

 

إن ما يمكن هذا "العالم الخرافي" من البقاء والاستمرار هو فقط عدم مواجهته بالحقائق والوقائع النازفة من غزة، وهو لا يواجه بها نظرا لأن الذراع العامة المؤتمنة على نقل الحقائق (وسائل الإعلام الإسرائيلية) تتقاعس عن القيام بمهمتها. وإذا كان ثمة من مثال ساطع على الخيانة في زمن الحرب، فتلك هي الخيانة بعينها.

 

_______________________

 

(*) أستاذ جامعي إسرائيلي. المصدر شبكة الانترنت. ترجمة خاصة.