مسألة "من هو يهودي" تعرقل حياة مئات آلاف البشر في إسرائيل
*نحو 350 ألف شخص "من دون ديانة" في إسرائيل غالبيتهم الساحقة جدا من أصول يهودية والمؤسسة الدينية ترفض الاعتراف بيهوديتهم * 27% منهم معنيون بالتهود لكن غالبيتهم لا تتحمل إجراءات التهويد*
كتب برهوم جرايسي:
ظهرت من جديد في الأيام الأخيرة إحدى أبرز القضايا المزمنة في إسرائيل، ومنذ عشرات السنين، وهي مسألة "من هو يهودي"، إذ حسب التقديرات في إسرائيل ثمة قرابة 350 ألف نسمة يعيشون في المجتمع اليهودي، ولكن لا يتم اعتبارهم يهودا، وقسم منهم معني بتثبيت "يهوديته"، نظرا لما تخلفه هذه المسألة من مصاعب، وبشكل أساس في قضية الزواج، ومن ثم الأبناء، في كيان لا يمكن عقد زواج مدني فيه.
وحسب المعطيات ففي إسرائيل حاليا 350 ألف يهودي ترفض المؤسسة الدينية اليهودية الاعتراف بيهوديتهم، لعدة أسباب من بينها أنهم ليسوا من أمهات يهوديات بل من آباء يهود، وتعترف الديانة اليهودية بيهودية من أمه يهودية، بغض النظر عن ديانة والده، كذلك ترفض المؤسسة الدينية الاعتراف بيهودية من تهوّد وفق الطرق الليبرالية الإصلاحية اليهودية الجديدة، خاصة خارج إسرائيل، ويُعد هؤلاء بمئات الآلاف في العالم، وأكثرهم في الولايات المتحدة.
ويقول بحث جديد في وزارة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية، إن غالبية "من لا هوية يهودية لهم"، ويعيشون في المجتمع اليهودي في إسرائيل، هم ممن هاجروا إلى إسرائيل منذ مطلع سنوات التسعين وحتى اليوم. فقد وصل هؤلاء إلى البلاد، بموجب ما يسمى "قانون العودة"، الذي يسمح بالهجرة إلى إسرائيل فقط لمن هو من أصل يهودي، بمعنى ليس فقط يهوديا، بل قد يكون من أب أو جد يهودي، وحسب تفسيرات إسرائيلية وصهيونية لهذا النص في القانون، الذي هو أساسا جاء لمنع عودة الفلسطينيين إلى وطنهم، هو أن النازية الألمانية في القرن الماضي لاحقت أيضا من هم من أصول يهودية حتى وإن هم ليسوا يهودا وفق الشريعة اليهودية.
وتنبع قضية "من هو يهودي"، من إصرار اليهود المتزمتين (الحريديم) على التمسك بشكل مشدد، بتعريف "من هو يهودي"، والسيطرة الكلية على اجراءات التهويد. وكان الجدل في الماضي أكثر حدة مما هو اليوم، حينما كانت إسرائيل تشهد موجات هجرة يهودية "شحيحة"، مقابل ارتفاع نسبة المواطنين العرب الفلسطينيين، ولكن هذا الجدل تراجع في الحلبة السياسية وسدة الحكم، مع موجات الهجرة الضخمة، التي ضربت نسبة المواطنين العرب من اجمالي السكان في داخل إسرائيل، وباتت الاهتمامات الديمغرافية اليوم، هي "يهودية- يهودية"، أكثر منها يهودية عربية، بمعنى ارتفاع نسبة اليهود المتدينين المتزمتين، وغيرها من القضايا.
ويقول البحث المذكور إنه من أصل 330 ألف شخص هاجروا من دول الاتحاد السوفييتي السابق في العقدين السابقين ولا يعدون يهودا، هناك 112 ألفا هم يهود بكل مفاهيم اليهودية، إلا أن المؤسسة الدينية ترفض الاعتراف بيهوديتهم، وتطالبهم المؤسسة الرسمية بأن يجروا عملية تهويد، وحسب ما يقال عنها بشكل دائم، فهي عملية فيها الكثير من الإذلال لكل من هو ليس في وارد التدين، وإنما يريد "شهادة يهودي"، كي يسهّل على نفسه مسألة التأقلم والزواج، ومن ثم كي لا يواجه أبناؤه ما واجهه هو.
ويعرض تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في الأسبوع الماضي افادات أشخاص توجهوا للمؤسسة الدينية الرسمية (الحاخامية الكبرى) من أجل "اثبات يهوديتهم" تمهيدا لعقد القران، إلا أنهم جوبهوا بأسئلة واستفسارات، لا تقل عن التحقيقات البوليسية والاستخباراتية، وتعرضوا لمطالب شبه مستحيلة، أو أن تحقيقها سيكون له تكاليف باهظة.
وحسب البحث، فإن 90 ألفا من كل الذين لا تعترف المؤسسة بيهوديتهم، معنيون بتثبيت يهوديتهم لمجرد الحصول على الشهادة، وفقط 30 ألفا يختارون التهود لدوافع "إيمانية"، أما الباقي فهم ليسوا معنيين بأن يكونوا جزءا من الديانة اليهودية، ومن بين هؤلاء نسبة عالية لمسيحيين، وحسب التقديرات فإن ما يزيد عن 50 ألفا يجاهرون بمسيحيتهم رغم أنهم ليسوا كلهم يثبّتون هذا في السجل السكاني.
لكن البحث لا يتوقف عند هذا الحد، بل يحذر بشكل غير مباشر، من تكوّن بيئة لعشرات الآلاف من المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي، الذين يرفضون اليهودية ككل، ويجري الحديث، حسب البحث، عما بين 60 ألف إلى 80 ألف شخص، وهؤلاء يعرّفون أنفسهم بالهوية الوطنية التي هاجرت عائلاتهم منها، وحتى أن البحث يدعي أن من بين هؤلاء مجموعات شبابية، تتماثل مع حركات "حليقي الرؤوس"، أو حتى النازية الجديدة، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن البحث يبالغ، إذ واجهت إسرائيل مجموعة كهذه من بضعة أشخاص قبل سنوات قليلة، ولا توجد ظاهرة واسعة.
ويقول بحث آخر لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي، صدر في شهر أيار الأخير، إن نسبة المعنيين بالتهويد من بين مجمل الذين لا تعترف المؤسسة بيهوديتهم، هي 25%، فالغالبية ترى بعملية التهويد أنها لا تتماشى مع هويتهم الأصل التي يحملونها، كما أنهم يرفضون هذه العملية بسبب تفاصيلها، ويبيّن بحث المعهد أن 50% ممن يبدأون بعملية التهويد من خلال دروس دينية، يتسربون من هذا المسار، ويضيف أنه في نهاية المطاف فإن من يتسربون من كل عملية التهويد أعلى بكثير من 50%.
وينتقد بحث معهد الديمقراطية قيود وسطوة المؤسسة الدينية، وتراخي المؤسسة السياسية (الحكومة) أمام هذه الظاهرة، ويدعو إلى تخفيف هذه القيود، كي يفتح الباب أوسع أمام المعنيين بالتهود.
الزواج المدني
في ظل غياب قانون يسمح بالزواج المدني، فقد دلّت معطيات على أن 8% من اليهود الإسرائيليين، يضطرون لعقد قرانهم خارج حدود إسرائيل، بسبب رفض المؤسسة الدينية الاعتراف بيهوديتهم، او بسبب التقييدات الدينية المتشددة على من يختار الزواج وفق المراسيم الدينية اليهودية.
وحسب تقديرات مختلفة، فإن الغالبية الساحقة من "الممنوعين من الزواج" هم من اليهود المهاجرين الجدد الفقراء الذين ليست لديهم امكانيات مالية في السفر إلى الخارج لعقد زواجهم، ولهذا فإن الممنوعين من الزواج يشكلون 55% فقط من الذين يعقدون قرانهم في الخارج، أما الباقي، 45%، فإنهم من العلمانيين الذين يرفضون عقد زواجهم دينيا عبر المؤسسة الدينية التي تفرض عليهم شروطا غير معقولة في نظرهم، تتدخل في التفاصيل الدقيقة لحياتهم الشخصية، ومن بينها الزام كل زوجين بالمثول أمام حاخام يهودي لسماع "محاضرات" حول كيفية الزواج والمعاشرة والحياة الزوجية بشكل عام، وغيرها، الأمر الذي يعتبره الكثيرون من اليهود أمرا "مذلا ومهينا".
وعلى مدى العقدين الماضيين، جرت عدة محاولات في الكنيست لسن قانون كهذا، إلا أنه في كل واحدة من تلك المرات كان يفشل، فإن جاءت المبادرة من داخل الائتلاف، كان يفشلها قادة الائتلاف لئلا تؤدي إلى تفكك الائتلاف، خاصة إذا كان فيه شركاء من الأحزاب الدينية، بينما مشروع قانون كهذا يسقط فورا إذا ما كانت المبادرة من صفوف المعارضة.
فمثلا حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان، الذي يقتطع قسما كبيرا من اصوات المهاجرين الروس، يضع مطلب الزواج المدني في أولويات برنامجه الحزبي، ولكنه على مدى 14 عاما، استخدم هذا المطلب كأداة لتحقيق مصالح حزبية في الحكومات، أو كوسيلة ضرب من صفوف المعارضة، فعلى الرغم من مشاركة هذا الحزب في غالبية الحكومات التي ظهرت في السنوات الـ 11 الأخيرة على وجه الخصوص، إلا أنه لم يحارب لسن القانون، بل كان يتنازل عن كل مشروع قانون كهذا، مقابل تحقيق مطالب حزبية أخرى في الائتلاف الحاكم، ولم يكن يتردد في اسقاط مشاريع قانون كهذا إذا جاءت من صفوف المعارضة.
وبحسب التقديرات، فإنه سنويا يختار ما بين 6 آلاف إلى 8 آلاف شخص، عقد قرانهم بزواج مدني خارج إسرائيل، وبشكل خاص في قبرص، ومن ثم في روسيا الاتحادية وبلغاريا ودول أخرى، فالقانون الإسرائيلي يعترف بعقد زواج تم ابرامه خارج حدودها.
وفي إسرائيل عدة حركات مناهضة للإكراه الديني، تطالب بتخفيف القيود الدينية على اليهود، وايجاد صيغة جديدة لتعريف "اليهودي"، من أجل حل أزمة مئات الآلاف من الذين يعرّفون انفسهم يهودا، ولكن المؤسسة الدينية ترفض ان تعقد قرانهم، ومن بينهم من ليس لديه الاموال الكافية لسد النفقات المالية الباهظة لعقد قرانه خارج إسرائيل، وهم ينتظرون حلا لمشكلتهم منذ سنوات طوال.
وتقول عدة جهات يهودية وصهيونية في إسرائيل والعالم ان التشدد في تعريف "من هو يهودي" يساهم بشكل كبير في تقليص عدد اليهود في العالم، (أقل من 14 مليونا حاليا)، وتطالب هذه الجهات، ومن بينها الوكالة الصهيونية، بإجراء تغييرات في هذا التعريف، بهدف زيادة عدد اليهود في إسرائيل خاصة، إلا المتدينين يرفضون مثل هذا الأمر كونه مخالفا للشريعة اليهودية.
خفايا الجدل
عمليا فإن مسألتي "من هو يهودي" والزواج المدني، لأولئك الذين يعيشون في إسرائيل، هما الواجهة لقضية أوسع لا تتم المجاهرة بها، وهي التراجع الحاد في الهجرة إلى إسرائيل، من بين أولئك الذين ينطبق عليهم قانون الهجرة، إذ أن 90% من اليهود في العالم، وفق أبحاث الوكالة الصهيونية، يعيشون في دول مستوى المعيشة فيها أعلى من إسرائيل، ولهذا فإن الحافز الاقتصادي لم يعد دافعا لهم، وفي المقابل تحاول الحركة الصهيونية إثارة جوانب أخرى للتحفيز على الهجرة، بعد غياب عامل الانتماء الديني وعامل الأوضاع الاقتصادية، مثل ما يسمى بـ "اللاسامية"، وأن "اليهود خارج إسرائيل في خطر"، وأيضا هذا لا يأتي بالأعداد الكبيرة التي شهدتها إسرائيل في سنوات التسعين، وحتى النصف الأول من سنوات العقد الأول من القرن العشرين.
وحسب تقديرات رسمية إسرائيلية، وأخرى صادرة عن الوكالة الصهيونية، ففي العالم حاليا حوالي 8ر13 مليون يهودي، نحو 6 ملايين منهم يعيشون في إسرائيل، و2ر5 مليون في الولايات المتحدة الأميركية، ونحو مليونين في أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن حسب التقديرات ذاتها، في العالم ملايين كثيرة هم من أصول يهودية، بمعنى من جانب الأب أو الجد، ولهذا ليس معترفا بيهوديتهم، فمثلا يجري الحديث عن 10 ملايين شخص في الولايات المتحدة كهؤلاء.
كذلك فإن إسرائيل انشغلت قبل سنوات بقضية من يسمون بـ "الفلاشمورا"، وحسب الادعاء، فهم أثيوبيون يهود إما أنهم من أصول يهودية، أو "اضطروا للتخلي عن يهوديتهم وتنصروا"، وطالب الأثيوبيون اليهود (الفلاشا) في إسرائيل طيلة الوقت باستقدامهم، نظرا لكون غالبيتهم تشكل أجزاء من عائلات باتت في إسرائيل.
وترى أوساط يهودية علمانية أن تخفيف القيود عن تعريف "اليهودي"، أو تسهيل وتسريع اجراءات التهويد، قد يساهم في زيادة أعداد اليهود، ومن ثم استقدام أقسام منهم إلى إسرائيل، في إطار معركة الصهيونية الديمغرافية المزدوجة، أولا أمام العرب في فلسطين التاريخية، وليس فقط في إسرائيل، وثانيا، أمام التنامي الحاد لليهود المتزمتين "الحريديم".
من الواضح أن 5ر3% من إجمالي السكان، وبنسبة تكاثر سكاني بطيئة جدا، خاصة في هذه المجموعة، لن يشكلوا ذات يوم عاملا "مهددا" للديمغرافيا، ولا بالسياسة، فهؤلاء بغالبيتهم الساحقة يعيشون ويمارسون حياتهم اليومية في المجتمع اليهودي، وهم منتشرون في كافة أنحاء البلاد، وهذا ما يساهم بإبقاء قضيتهم معلقة دينيا وقانونيا.