انتخاب الحل الأحادي الجانب وترسخ مقولة غياب الشريك

وثائق وتقارير

 كتب وديع عواودة:

 طالما تشدّقت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية بما تسميه "طهارة السلاح" اثناء الحروب والمواجهات مع العرب والفلسطينيين. وكان قد أعلن في نهاية العام عن قيام لجنة خاصة برئاسة البروفيسور آسا كشير بوضع منظومة اخلاقية محتلنة للجيش تلزم القادة والجنود بمراعاتها لتأمين تحقيق الاهداف الامنية والحفاظ على وجهه الاخلاقي في الآن نفسه.

 

 

الا ان ما يعلن شيء والتطبيق على أرض الواقع شيء آخر، بل ان ما يقترفه الاحتلال بشكل منهجي في الاراضي الفلسطينية يفضح زيف المزاعم الاسرائيلية بالكامل. وقد اكتسبت اتهامات نائب رئيس "الموساد" السابق، شموئيل طوليدانو، لقائد هيئة الاركان وللجيش الاسبوع الماضي اهمية خاصة من هذه الناحية باعتبارها شهادة دامغة صادرة عن شخصية امنية اسرائيلية مرموقة لا مجال للطعن فيها واتهامها بالعداء او الترويج لدعاية فلسطينية. هذا المسؤول الأمني السابق فتح النار على قائد الجيش، موشيه يعلون، متهما اياه بافساد الجيش وتلطيخه عبر ارتكاب الفظائع ضد المدنيين العزل. ولم تمض ايام على هذه الشهادة/ الادانة حتى تبعتها وثيقة هامة نشرتها "معاريف" حول العذابات اليومية التي يتعرض لها الفلسطينيون في حاجز حوارة سيء الصيت بالقرب من نابلس.

 

وضمن تقرير مطول جدا اعترفت مجموعة كبيرة من جنود وحدة "الباز" (وحدة مظليين تابعة لفيلق 202) بالتنكيل بالفلسطينيين وسلبهم ابسط الحقوق، خارقين بذلك كافة المواثيق الدولية والاعراف الانسانية لا من اجل الضرورات الامنية المزعومة انما نتيجة "حالة الملل والضيق" التي تلازم تنفيذ المهام المنوطة بالجنود. هؤلاء الجنود، الذين يحمّلون المسؤولية الاساسية لما يقترفونه للجهاز والدولة، يعترفون بما لا يقل عن الجرائم ويسردون "قصصا" عن الرجال الفلسطينيين، شبابا وشيبا، الذين يتعرضون للضرب المبرح ولاستيقافهم ساعات طويلة ومنع النساء والاطفال من الوصول لبيوتهم حتى لو بقوا تحت المطر ساعات.

 

وتساهم مؤخرا جمعية "شوفريم شتيكا" ("يكسرون الصمت") في اخراج حقيقة جرائم الاحتلال الى النور من خلال نشر شهادات يقدمها جنود سرحوا لتوهم بعد انتهاء خدمتهم العسكرية التي شهدوا خلالها مختلف انواع الفظائع كما يؤكدون. وتنشر هذه الجمعية الشهادات التي تجمعها في موقع تابع لها على "الانترنت" (www.shovrimshtika.org) وفي سلسلة محاضرات تواصل تقديمها في الكيبوتسات والمدن، كان آخرها ندوة بعنوان "شهادات وعبر" عقدت في معهد "فان لير"- القدس يوم 17.08.04 بمشاركة البروفيسور افيشاي مرجليت، من الجامعة العبرية والبروفيسور يرمياهو يوفال واللواء نوعم تيخون، قائد وحدة " الناحل" والجنرال شاي افيطال، القائد السابق للوحدة الخاصة "سييرت متكال" والصحفية عميرة هس من "هآرتس"، الذين تطرقوا إلى أثر ممارسات الاحتلال على الجنود انفسهم وعلى المجتمع الاسرائيلي برمته والعبر المستخلصة منها.

 

وافادت الجمعية ان شهادات الجنود تؤكد الازمة الاخلاقية العميقة التي ترافق الجنود خلال وبعد اداء الخدمة الاجبارية في الاراضي المحتلة، لافتة الى ان الناطق بلسان الجيش يواصل زعمه ان الفظائع الواردة في شهادات الجنود تشكل احداثا شاذة فيما تواصل هي بفضح اكاذيبه واثبات الحقيقة بان اعمال التنكيل في الحواجز هي امور "يومية وعادية". وتشير " شوفريم شتيكا"، في بيان اصدرته أخيرًا، الى حقيقة ما يحدث في الواقع عندما تعلن وسائل الاعلام الاسرائيلية ان "قواتنا اجرت عمليات تمشيط او تفتيش للبيوت الفلسطينية" فتقول "هذا يعني اعاثة الفساد والتخريب في منازل الفلسطينيين واستخدام الملابس والستائر داخله كبديل لاوراق "التواليت" واطلاق الرصاص على المصابيح الكهربائية قبالة المنزل او في الشارع ودوس السيارات الخاصة وتدميرها بالدبابات والجرافات وسرقة الاغراض والاموال". ويختتم البيان بالقول "كل الحديث الجاري حول الاخلاق في الجيش او المنظومة الاخلاقية العسكرية هو محض تضليل وانكار ذاتي".

 

ويستهل التقرير - الوثيقة المنشور في "معاريف" بالقول على لسان الجنود "يدنو المئات من الفلسطينيين منا أكثر فأكثر حتى يجتازون خط التوقف. كنا نحول السلاح الى حالة التأهب لاطلاق النار لكن ذلك لا يخيفهم فيبدون لامبالاة واضحة وحتى قنبلة دخانية وصوتية لم تحركهم . وعندها كنا نبدأ بالصراخ عليهم ودفع النساء والاولاد والشيوخ عنوة الى الخلف ونشرع بالضرب. من هنا يبدو ذلك امرا جنونيا لكن هناك، في الحاجز، فانه شرعي". ويستمع معدا التقرير، حين كوتس وايتان رابين، الى افراد الوحدة الذين يعترفون بما تقترفه اياديهم من فظائع بصراحة متناهية محملين الجهاز العسكري والدولة المسؤولية نتيجة الضغوطات الناجمة عن عملهم في ادارة حاجز حوارة سيء الصيت الذي يصفونه بالجحيم وفيه تتم اعمال تعذيب ضد المارة الفلسطينيين (7000 فلسطيني يمرون منه يوميا). الجندي سارجي زمنسكي،21 عاما، من جيش المظليين انهى قبل اسبوعين خدمته في حاجز حوارة التي استمرت بضعة شهور. وعما كان يجري هناك يقول "لم اتمكن من القيام بواجبي كقائد. حتى الانسان ذو المناعة الاخلاقية الاقوى يتشظى وينهار في الحاجز الذي تلازمه اجواء صعبة وفيه الايادي تضغط على الزناد بسهولة. من اللحظة التي تعبر بها الحدود يمكنك ان تفعل ما تشاء، ضربات وصفعات وركلات. ان تكون اخلاقيا هناك مهمة مستحيلة". ويتمحور التقرير في قضية الجندي "ب"، الذي اقصي من الوحدة التي تدير حاجز حوارة بعد ان ضبطته الكاميرا يضرب فلسطينيا بكل انحاء جسمه وينكل به بشكل خطير رغم كونه موثق اليدين. وفي حادثة اخرى اعتدي على شاب آخر امام زوجته واطفاله لانه اصر على اجتياز الحاجز نحو بيته. وسيمثل الجندي المذكور وفقا للتقرير قريبا امام محكمة عسكرية ما دفع زملاؤه الذين انهوا خدمتهم في "حوارة" للتضامن معه واستئجار خدمات محام مرموق للدفاع عنه. ويفيد تقرير "معاريف" ان هؤلاء يعتقدون ان زميلهم قد غمط حقه، ورغم انهم لا يبررون تصرفه لكنهم يعتبرونه ضحية "الوضعية التعيسة التي تميز عمله" وان لائحة الاتهام المقدمة ضده يمكن تقديمها ضد كل واحد منهم. "هو ليس مذنبا انما الجهاز بل المجتمع برمته. "ب" ربما اندفع او تهور في الحادثة اياها لكنه لم يكن شاذا"، يقول هؤلاء الجنود لمراسلي الصحيفة ويكشفون انهم عازمون على قيادة حملة علاقات عامة لتوضيح ما مر على زميلهم وعليهم جميعا في حاجز حوارة. وبدلا من البدء "برحلة العمر" بالنسبة لهم الى الشرق الاقصى او امريكا اللاتينية، والتي يقوم بها كل جندي فور انتهاء الخدمة الالزامية، فانهم فضلوا التظاهر امام وزارة الدفاع في تل ابيب بعد ان وقع 50 من افراد وحدة "الباز" المظلية على عريضة وجهت الى قائد هيئة الاركان ولوزير الدفاع ورئيس الدولة وفيها يشرحون "الظلم" اللاحق بزميلهم المبعد والمرشح للمثول امام المحكمة. ويزعم هؤلاء الجنود، الذين لا تتعدى اعمار معظمهم ال 22 عاما، ان ما يقومون به من مخالفات لا ينبع من سادية او رغبة مبيتة لاذلال الفلسطينيين في الحاجز انما هذه هي "الضرورة" لاستخدام القوة لتأمين نجاح مهامهم في مراحل معينة من الخدمة على الحاجز.

 

ويتهم الجنود قادة الجيش بان احدا منهم لم يحصل على تحضير مناسب لمواجهة الاوضاع المركبة التي يصطدمون بها في الحاجز : "لقد اعدونا لنكون مقاتلين لا لأن نؤدي مهام شرطة الحدود للفصل بين نابلس، عاصمة الارهاب، وبين تل ابيب. لم يهيّأ احد منا لمعاجة مشاكل انسانية ونحن نعرف من تجربتنا ان الضغط في"حوارة" غير معقول وان كل ضابط خدم هناك قدم تقريرا اكد فيه في مرحلة معينة تعرضه الى انهيار جسماني ونفسي".

 

واكد الجنود ممن قدموا الشهادات للصحيفة ان ما ارتكبه "ب" ليس شاذا وانه في كل حاجز تحدث خروقات اكثر سوءا. ويروون احداثا تم فيها المس بالفلسطينيين بهدف اذلالهم وتوجيعهم. ويفيد الجندي ميخائيل امان، الذي يتهم الجيش بارساله لاداء مهمة مستحيلة في "حوارة" ودون تزويده بأدوات مناسبة، انه شاهد كيف قام احد افراد وحدته بارغام مسن فلسطيني على الدوران حول مكعب الاسمنت في 30 ثانية كامتحان او شرط لاجتياز الحاجز لافتا الى ان هذه "العادة" اصبحت روتينا. واضاف "يعتبر الجنود هذه الممارسات والمنافسات فيما بينهم حول لقب من هو"صاحب اكثر الضربات للعرب" امرا شرعيا ومسليا.. قصص التنكيل هذه تسلي الجنود وتضحكهم". ويؤكد الجندي "زمنسكي" ان 70% على الاقل من الجنود القتاليين الذين يسرحون من خدمتهم من الجيش اليوم لا يستطيعون ان يقولوا انهم لم يرتكبوا امورا كهذه مشيرا الى انه يتفهم ما ارتكبه الجندي المبعد "ب". وينوه الجندي اوري ريدنيك الى سهولة القيام بعرض الفرد البسيط كمتهم معتبرا ان هذه هي الطريقة لتطهير الجهاز كله واعفائه من المسؤولية. واضاف "هكذا ابعدوا "ب" وحملوه كل آثام الجهاز". ويسهب الجنود في افاداتهم حول انتهاك ابسط الحقوق للمواطن الفلسطيني وانتشار ظاهرة التنكيل به بعيدا عن لغة الدبلوماسية وانتقاء الالفاظ الملطفة مشددين على "الطبيعة القاسية" لخدمتهم العسكرية في حاجز حوارة منذ ان بدأوا فيها مطلع الشتاء المنصرم والتي يرون ان مهمتهم الاساسية فيها هي منع عبور "المخربين" الى اسرائيل. ويدير هذا الحاجز عشرة جنود في ورديتين من السادسة صباحا الى الثامنة مساء كل يوم. الضابط "سارجي"، الذي اشغل وظيفة قائد الحاجز، يقول ان الجيش يطلب اليهم ان يكونوا انصاف "روبوت" فلا يفكرون اكثر من اللزوم وعليهم الا يستشعروا بشيء. واضاف "المشكلة ان الحواجز تمتد على مساحة رمادية واسعة واغلب قرارات الجنود فيها تنم عن تقديرات ومراجحات. انا كنت ذاك الذي يقرر من هو مريض ام لا .هذه حالة صعبة وفيها شيء يجر شيئا آخر. تحاول ان تكون لطيفا وأن تمرر من هو بلا ترخيص بعد ان تخابر الشاباك وتتأكد انه غير خطير. من هذه اللحظة تكون قد فتحت ثغرة. يحيط بك العشرات ولا تستطيع معالجة كافة شؤونهم فيغدو جنودك امام خطر حقيقي وعندها تضطر لدفعهم مستخدما القوة. لديك 3000 شخص بحاجة الى فحصهم قبل تمريرهم وبنفس الوقت تتحمل مسؤولية الا يهرب الموقوفون جانبا والا يتعرض الحاجز الى هجوم جانبي مفاجىء علاوة على مسؤولية نظافة المكان".

 

ويضيف الجندي "امان" ان الكل يدرك وجود مشكلة وان "العنوان مكتوب على الجدار" في ظل عدم وجود حواجز الكترونية بين الجنود وبين المارة ما يؤدي الى ولادة "المشاكل الاخلاقية"، ثم يضرب امثلة على ما يفعله اولئك: نطلب الى الفلسطينيين الامتثال الى تعليمات بلغة غير مفهومة فيجيبون بأجوبة تثير ضحكنا وبعد الضحك يمكن ضربهم ايضا جراء الملل . في هذه الوضعية يتمتع الجندي بكثير من القوة التي تعاقبهم "بمن في ذلك الذين تحجرت قلوبهم".. وردا على سؤال الصحيفة عما اذا شاهد عمليات ضرب في الحاجز قال "زمنسكي": "في احدى المرات حاول شخص ان يجتاز الحاجز عنوة فأمسك جندي بثوبه ووجه لكمة لوجهه وسرعان ما انقض سائر الجنود عليه واوسعوه ضربا حتى "فجروا" جسمه بعد ان طرحوه ارضا وركلوه وداسوه بأرجلهم، ولولا تدخلي لاجهزوا عليه. اوثقت يديه واجلسته على مقعد امامي فكان ينظر الى ويشتمني وكنت مضطرا ان ابدي رباطة جاش". ويروي "زمنسكي" قصة سيدة نابلسية ظلت وطفلها تحت المطر ساعات في محاولة للوصول الى بيتها: "اذكر أنه كان يوما ماطرا. تساقط البرد بغزارة . ضابط الحاجز اصدر تعليماته بعدم السماح لاحد بالمرور وفجأة وصلت امرأة برفقة طفلها من نابلس. طلبت الوصول الى بيتها في حوارة . الضابط الذي قرر منع مرورها وقف تحت حافة السقف الحديدي كي لا يبقي لها متسعا من المكان ويضطرها إلى الوقوف تحت المطر واجبارها على العودة. هو رجل طيب القلب لكنه نظامي جدا . ولو سمح لها بالمرور لما حصل اي خطر لكنه تمسك بالمبدأ اذ بلغته تعليمات باغلاق الحاجز. مثلت السيدة وطفلها قبالته تحت المطر مدة ساعتين حتى استشاطت غضبا وانهالت عليه بالضرب ثم وقفت هناك ساعات اضافية الى ان حضرت سيارة اجرة واعادتها الى نابلس".

 

ويقول معدا التقرير ان الجنود وافقوا على التحدث وكشف حقيقة ما يجري في الحاجز بعد تسريحهم "حفاظا على وحدتهم وبعد ان ادركوا الهوة الواسعة بين ما يشاهده الناس في التلفاز من هنا وبين ما هو على ارض الواقع هناك". ويؤكد الجندي "امان" وجود عشرات عمليات التنكيل بالفلسطينيين داخل الحواجز. ويضيف "من الواضح ان شيئا ما يصرخ هناك الى السماء، لكن الجيش يواصل معالجة الامور بشكل عيني فقط بعد ضبط عملية تنكيل بالصدفة. الاوضاع داخل الحاجز تدفع الجنود الى الوقوع في مخالفات صعبة، فهي مثيرة للخوف وهم متركزون في الجانب الامني. وقد حدث لي ان قمت بضرب شخص فلسطيني بعد ان انزوت الناحية الاخلاقية جانبا".

 

وردا على سؤال عما اذا تساوره مشاعر الندم لضربه انسانًا فلسطينيًا عاديًا قال امان "لا. الحاجة الامنية اقتضت ذلك. الخوف من أن يبادر الفلسطيني الى ضربك او طعنك تدفعك أحيانا الى خطوة استباقية. انا فخور بعملي وانا احب الجيش واعتز بمهماته وسؤالك هذا يشبه السؤال عما اذا كان قتل" المخرب" أمرا سيئا؟ ولكن في المقابل هناك حاجة لاصلاح أخطاء عينية".