رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون : شارون هو تعبير صارخ عن مفهوم الجدار الحديدي

على هامش المشهد

 

 

رُبع الحريديم في إسرائيل يعيشون في السرّ حياة علمانية

 

 

كتب ب. ضـاهر:

 

 

تطورت في السنوات الأخيرة ظاهرة جديدة في المجتمع الحريدي في إسرائيل، وهي آخذة في الاتساع، وتتمثل بأن نساء ورجالا حريديم، في مظهرهم الخارجي وسلوكهم اليومي داخل مجتمعهم وبيوتهم، يبتعدون عن الديانة اليهودية وعن الإيمان ويعيشون في السر حياة علمانية، وهم يشككون في كل شيء يتعلق بالإيمان ويقرأون كتب الفلسفة الغربية ويأكلون الطعام غير "الكاشير" [الحلال]، مثل المزج بين الألبان واللحوم. وتشير التقديرات، وفقا لتقرير نشره موقع "واللا" الالكتروني، في مطلع شهر كانون الثاني الحالي، إلى أن نسبة هؤلاء "المقهورين"، كما يُسمون وهي التسمية التي تطلق على اليهود الذي أرغموا على التنصر إبان فترة محاكم التفتيش في اسبانيا في القرن الخامس عشر، هي ما بين 20% إلى 30% من المجتمع الحريدي في إسرائيل.

 

ومن بين الحالات التي أوردها تقرير "واللا"، حالة الزوجين شيفرا وأهارون، في الثلاثينات من عمرهما وهما والدان لستة أولاد، ويسكنان في حي حريدي وينتميان إلى مجتمع مسياني متعصب دينيا. وهما يعيشان منذ عدة سنوات حياة مزدوجة: حريديم تجاه الخارج وعلمانيان في السر. وقالت شيفرا "لم أؤمن بوجود الرب منذ أن كنت فتاة صغيرة. وحتى في روضة الأطفال، عندما علمونا عن الخروج من مصر ونزول الوصايا العشر في سيناء، بدا ذلك لي على أنه هلوسة. لكن لأني كبرت وعشت في هذا الإطار، فقد تماشيت مع الأمور، وأقمت كافة الفرائض الدينية".

 

وأضافت شيفرا أنها بدأت تنظر إلى العالم العلماني قبل ثماني سنوات، ومنذئذ لم تعد حريصة على إقامة الفرائض الدينية كما كانت معتادة في الماضي. وقد أخفت حقيقة أنها تدنس قدسية يوم السبت، ليس عن مجتمعها فقط، وإنما عن زوجها وأولادها. إذ لم تكن تعلم أن زوجها يمر بأزمة مشابهة. واعترف أهارون بأنه اتخذ قراره في أعقاب دراسة عميقة، رغم أنه قضى حياته في دراسة التوراة، ولا يزال يخصص القسم الأكبر من وقته لذلك، لكنه وجد نفسه يفقد الإيمان. وفقط قبل عامين اعترف الزوجان لبعضهما. والمفارقة هي أنه على الرغم من أن شيفرا كانت قد فقدت إيمانها، إلا أنه بعد أن علمت بأن زوجها يواجه حالة كحالتها، كان صعبا عليها تقبل الأمر. وقالت إنه "في البداية، عندما اكتشفت أن زوجي مقهور، انهرت. لم أعرف ماذا سيكون مصير الأولاد وكيف سننجح في مواصلة العيش داخل المجتمع الحريدي وفيما كلانا لا نؤمن".

 

ويرى هذان الزوجان أن الصعوبة الكبرى هي في تربية أولادهما بطريقة لا يؤمنان بها. وقالت شيفرا "لقد فهمت طوال الوقت أننا سنحيا كمقهورين، وأننا سنكذب على الأولاد. وأنا أشمئز من طريقة حياة الحريديم، وعندما تقود أولادك إلى المكان نفسه، وفيما تشعر بأنك لم تعد جزءا منه، فإن هذا أمر مؤلم. وعلى سبيل المثال، في يوم السبت، وبعد أن يخلد الأولاد إلى النوم، نغلق على أنفسنا الباب ونشاهد فيلما على الكمبيوتر. وحلمي هو أن أعيش بشكل مكشوف ووفقا لإيماني وأن أربي أولادي بالطريقة التي أريدها".

 

ويتبين أن هناك صعوبات تمنع الحريديم "المقهورين" من الكشف عن معتقداتهم الجديدة، وهذه الصعوبات تتعدى مواجهة المجتمع الذي يعيشون فيه. وتحدثت شيفرا عن ذلك قائلة "لدينا مسؤولية تجاه الأولاد وتربيتهم. فقد تعلم زوجي في الييشيفاة [المعهد الديني اليهودي] طوال الوقت. وليس لديه مهنة. ماذا سنفعل في الخارج؟ ليست لدينا إمكانية لأن نفعل شيئا. ولا شك لديّ بأنه لو درس للبجروت [شهادة التوجيهي] واكتسب مهنة لنجح في الحياة، لكن في الوضع القائم، وفيما يتعين علينا الاهتمام بكسب الرزق، فإنه لا يمكننا تمويل دراسة مهنة، ولذلك نحن عالقون". وتعتاش معظم العائلات الحريدية، التي يتعلم فيها رب الأسرة في "الييشيفاة" من مخصصات تمنحها الدولة ولذلك فإن معظم هذه العائلات تعيش في فقر.

 

بين "الييشيفاة" ومكتبة الجامعة

 

هناك أسباب عديدة ومتنوعة تدفع المرء في المجتمع الحريدي إلى الانضمام لجماعة "المقهورين". وقسم منهم لا يزال يحتفظون بإيمانه، لكنه يريد الاستمتاع في العالمين، الحريدي والعلماني، بينما قسم آخر فقد إيمانه ولكنه لا يغادر المجتمع الحريدي لأسباب اقتصادية وعائلية واجتماعية. لكن القاسم المشترك لجميعهم هو حقيقة أنهم "اختلسوا النظر" إلى العالم الواقع خلف "الأسوار" التي يحيط المجتمع الحريدي نفسه بها، ولذلك "فقدوا براءتهم". وقسم منهم فقط يكمل هذه العملية وينتقل إلى ما وراء هذه "الأسوار"، شريطة أن يتمكن من التغلب على المصاعب.

 

ودافيد، وهو أب لستة أولاد وفي الثلاثينات من عمره، يواجه وضعا كهذا لوحده، لأن زوجته لا تعرف سرّه. وهو يقضي قسما من وقته في مكتبة إحدى الجامعات الإسرائيلية، من أجل الحصول على المعرفة التي يُمنع من الاطلاع عليها بسبب انغلاق المجتمع الحريدي. وقال "أنا أنتمي إلى مجتمع متعصب جدا، ومن جميع النواحي. والتوجه فيه هو أن الرجل يجب أن يتعلم التوراة طوال حياته. والتعارف بين رجل وامرأة يتم وفق مواصفات متشددة، وبعد عدة لقاءات يتم تعيين موعد الزواج. والانغلاق في كل شيء. ولا يمكنك معرفة العالم العلماني أبدا، بل وأكثر من ذلك، فأنت تتعلم طوال الوقت أن هذا عالم سلبي".

 

وفقد دافيد إيمانه قبل أقل من سنة، لكن التفكير في ذلك بدأ قبل فترة أطول، "وكانت لدي عدة مراحل من الأسئلة حول الإيمان، وفي كل مرة درست فيها الموضوع كنت أكبت الشكوك. وفي المرة الأخيرة تعرفت إلى منتدى في الانترنت لحريديم لا يؤمنون وقد صدمني هذا الأمر. ولم أنجح في فهم هذا الأمر. وقادتني الصدمة إلى بحث ودراسة عميقة. وبدأت أدرس كل شيء من الأساس، بدءا من التورة وحتى نظرية النشوء والارتقاء. واختفى الإيمان لدي بسرعة كبيرة. وأدركت أن هذه هلوسة وببساطة توقفت عن الإيمان". وبعد ذلك، ورغم أنه استمر في إقامة الفرائض الدينية، إلا أنه أخذ يوزع وقته بين "الييشيفاة" ومكتبة الجامعة. وقال "يصعب عليّ أنه ينبغي أن أخفي هذه الأمور. وليس بإمكاني القول من أين جئت وإلى أين أذهب حتى لأقرب الناس إليّ. وعندما يطرح ابني عليّ أسئلة تتعلق بالشريعة اليهودية أو مثلا عندما أقدس البيت في السبت، فإني لست مرتبطا بهذه الأمور، ولكن لا خيار أمامي".

 

لكن دافيد لا يستطيع مغادرة مجتمعه الحريدي، "وحتى لو تماشت زوجتي معي، فإني أخاف هزة يتعرض لها أولادي جراء هذه التجربة، إذ لا فكرة لديّ كيف سيواجهون هذا الأمر. كذلك فإن العلاقة مع عائلتي قوية جدا، ولا غفران في أمور كهذه. وإذا قمنا بخطوة وغادرنا المجتمع فإنه لا توجد طريق للعودة. وسيجلسون علينا سبعة أيام [حدادا] وهذا ليس بالأمر البسيط أبدا. وأنا أسأل نفسي طوال الوقت ما إذا ثمة ما يستحق الإقدام على خطوة كهذه". وأضاف أن "هذه ليست حياة في الكذب، وإنما هذا هو الواقع وينبغي التعايش معه. والأمر المهم هو أنني أتحرك قليلا وطوال الوقت. وفي نهاية الأمر، ربما سنقوم بهذه الخطوة [الخروج من مجتمعه] حتى النهاية ولكني لست مسرعا. ينبغي علي أن أفكر بنفسي وبعائلتي. وواضح لي أن العيش إلى الأبد مثلما عشت حتى فقدت إيماني هو أمر مستحيل. وواضح لي أنه سيحدث تغيير. كذلك واضح لي أني سأخرج للعمل، رغم أن هذه خطوة ليست هينة بالنسبة لعائلتي. وحلمي هو أن نتمكن من الانتقال إلى الجانب العلماني، لكنني لست متأكدا أن هذا حلم واقعي الآن".

 

وأشار دافيد إلى أن "المقهورين" ليسوا حريديم يطمعون بالحصول على ملذات الحياة، "فمن أجل الاستمتاع من الحفلات وملذات الحياة الغربية لا يتعين عليك أن تفقد الإيمان. وهناك حريديم يريدون تذوق الثقافة العلمانية وهم يفعلون ذلك. والمقهورون هم الأشخاص الذين فقدوا الإيمان، وهذا وضع وصلنا إليه وليس ثمة ما يمكن فعله بهذا الخصوص. وآمل كثيرا أن تفهم قيادة الجمهور الحريدي أن الحديث هو عن ظاهرة واسعة وأن يتعلموا الاعتياد على ذلك وعدم محاربتها لأنه لا أمل في ذلك".

 

"لا أحد بانتظاري في الجانب العلماني"

 

شنيئور هو أب لأربعة أولاد ويعيش في حي حريدي، لكنه يعرف نفسه بأنه "كافر مطلق" منذ عدة سنوات. وهو لا يصلي ولا يحافظ على تناول الطعام والشراب الحلال ويعتبر أن إقامة الفرائض هو أمر غير ضروري أبدا. وتعرف زوجته أفكاره لكنها امرأة متدينة. وخلافا لشيفرا وأهارون ودافيد، فإن شنيئور لا يواجه صراعا داخليا. وقال "أنا لا افهم ما الفائدة من الخروج من العالم الحريدي ومن أجل ماذا يجب القيام بخطوة كهذه. وبإمكاني أن أفعل كل ما أريده، وإضافة إلى ذلك فإني لا أفقد العائلة والمجتمع الذي أنتمي إليه. فإذا أردت أن أتناول طعاما ليس حلالا فإنه بالإمكان القيام بذلك في أماكن معينة. وإذا أردت الذهاب إلى حانة فإن هذا ممكن. ولا جدوى من المواجهة. وأنا أحب الحالة المجتمعية لدى الجمهور الحريدي، فلماذا عليّ أن أفقد هذا".

 

وأضاف شنيئور "أين يمكن العثور على حياة كما في المجتمع الحريدي؟ فنحن نلتقي كل يوم سبت في الكنيس. وبعد الصلاة نقوم بتقديس البيت ونأكل ونتحدث. لا يوجد شيء كهذا لدى الجمهور العلماني. وأنا أحب هذا ولا أجد سببا كي أخسره. وليس ثمة من ينتظرني في الجانب العلماني، والصعوبات كبيرة جدا بالنسبة لمن يخرجون من المجتمع الحريدي، ولا توجد بذلك أية منفعة".

 

من جانبه، قال زلمان، وهو مطلق وأب لولدين، إنه لم يفقد إيمانه بالكامل وإنما لديه شكوك حيال هذا الإيمان، وأنه واضح له أنه سيعود إلى أحضان الدين لأن الابتعاد عنه ليس مجديا. وأضاف أنه "بالنسبة لي، فإن كل شيء يتعلق بالنِسب. خمسون بالمئة أن الرب موجود ولذلك يجب إقامة الفرائض الدينية بنسبة خمسين بالمئة. والأفضل هو السير في طريق مضمونة وعدم ارتكاب آثام. ويناسبني الآن أكثر أن أستمتع من جميع العوالم ولذلك فإني أستمتع بوقتي، ولكن من الواضح لي أنه بعد عدة سنوات سأعود لأحرص على أداء الفرائض... ولا أعتقد أن حياتي الآن معقدة ومحبطة. فأنا جزء من الجمهور الحريدي، لكنني أفعل ما أراه صائبا في اللحظة نفسها ومن دون أن أحسم في الأمور. وأنا لا أفهم ما الجدوى من حسم الأمور، وبالنسبة لي هذا نوع من التطرف ولا أرى أنه يفيد في شيء".

 

ويرى زلمان بأن "التربية والتعليم الحريديين أفضل مما هما عليه في الجانب العلماني، ومن جميع النواحي. ويتم التعبير عن ذلك من خلال القيم وانعدام العنف وبكافة المقاييس. وبعد أن اكتسبت ثقافة واسعة فإني أفضل أن يتعلم أولادي في جهاز التعليم الحريدي، ولكن مع تدريس المواضيع الأساسية [اللغات والرياضيات والحاسوب]".

 

ولخص موقع "واللا" الحالات التي طرحها في التقرير بأنه "سواء كان الحديث يدور عن فقدان الإيمان أو عن الرغبة بالانفتاح إلى عوالم أخرى مع الحفاظ على نمط حياة حريدي، فإن المقهورين يواجهون مصاعب يومية، كونهم يعيشون في مجتمعات مغلقة ولا تنظر بالإيجاب إلى التوجه نحو العلمانية".

 

وقال دافيد إن "علينا أن نرقص بحذر شديد بين كلا العالمين. بين العالم الذي نريد أن نكون فيه والواقع الذي نعيش فيه فعلا، وبين الواقع الذي لا نريد مغادرته حتى الآن. وهذه مهمة ليست سهلة وترافقها مخاوف دائمة مع محاولات حذرة للعيش بموجب ما يمليه الضمير. وهذا رقص ليس هينا ويشغلنا في كل يوم وفي كل ساعة".