مؤشر الفساد الدولي في القطاع العام - إسرائيل في الثُلث الأدنى
إسرائيل ليست "جمهورية موز" بعد لكنها "في ذيل الأُسود"!!
*"الأجهزة الأمنية في إسرائيل لا تتخذ تدابير وإجراءات أساسية لمنع الفساد في داخلها، كما أنها لا تبث ولا تكرس رسائل واضحة وحازمة ضد الفساد في أنشطتها المختلفة وعلى كافة المستويات، بل تتهرب من التعاون في هذه المسألة في الحالات التي يحتم القانون فرض وإجراء مراقبة عليها"!*
كتب سليم سلامة:
القطاع العام في دولة إسرائيل هو أحد القطاعات العامة الأكثر فسادا في العالم! - هذه هي الحقيقة الفاقعة التي تبرز من بين معطيات التقرير السنوي الذي نشرته، في مطلع كانون الأول الجاري، منظمة "الشفافية الدولية" (Transparency International - TI) - وهو تقرير سنوي عن مؤشرات الفساد والإفساد في العالم تنشره هذه المنظمة في هذا التوقيت من كل عام منذ العام 1995، وذلك بناء على مؤشرات مختلفة، من بينها تقييم البنك الدولي للدول المختلفة، تقييم المنتدى الاقتصادي العالمي للدول، تصنيفات البنك الإفريقي للتنمية بشأن مدى سيادة الحكم الرشيد في البلدان الإفريقية وتقييم منظمة الشفافية الدولية بشأن تقديم الرشى وتلقيها في مرافق القطاعات العامة المختلفة.
وشملت هذه الدراسة 177 دولة، اعتمادا على مصادر وبيانات مستمدة من مؤسسات مستقلة متخصصة في رصد مؤسسات الحكم، بالإضافة إلى آراء خبراء محليين (على مستوى كل واحدة من الدول) وخبراء عالميين بشأن الفساد في القطاع العام. ومن بين هذه، يعتمد المؤشر، مثلا، على معطيات دائرة الأبحاث في مجلة "إيكونومست"، التي تضع تدريجا لمخاطر المعاملات المالية في أنحاء العالم وتفحص، أيضا، مدى إساءة استغلال الأموال العامة ومدى مهنية القطاع العام؛ "مؤشر الحكم المستقر" الذي يعده "صندوق برتلسمان" ويفحص مدى استغلال أصحاب المناصب في القطاع العام قوتهم وسلطتهم لأغراضهم السياسية الخاصة؛ "استطلاع المديرين" الذي يعده "المنتدى الاقتصادي العالمي" ويفحص، من بين أشياء أخرى، مدى تفشي الرشى في القطاع العام؛ معطيات "شركة IHS" الأميركية، التي تزود رجال الأعمال بمعلومات حول المخاطر السياسية، الاقتصادية والقضائية في دول العالم المختلفة؛ كلية إدارة الأعمال في سويسرا (IMD)، التي تنشر "مؤشر التنافسية العالمية" الذي يشمل معطيات عن الفساد والرشى في القطاع العام في الدول المختلفة.
وتنطلق "منظمة الشفافية الدولية" من تعريف الفساد بأنه: إساءة استغلال القوة / السلطة الممنوحة لمنتَخَبي الجمهور، التعاملات السرية و/ أو غير الشفافة وتبذير الأموال العامة. وتوضح المنظمة، أيضا، أن "الفساد يتشكل، في الغالب، من أنشطة ومعاملات غير قانونية تتم في السرّ ولا يتم الكشف عنها إلا من خلال الفضائح، التحقيقات والمُحاكمات". "ومن هنا ـ تضيف المنظمة ـ من الصعب تقدير المستوى العام للفساد الحقيقي المتفشي في الدول المختلفة استنادا إلى معطيات عينية فقط"!
وقد أكد معدو التقرير أن "أكثر الدول التي تنتشر فيها حالات الفساد هي الدول التي تعاني من انعدام الاستقرار السياسي وانتشار العنف الذي يسمح بانتشار الانتهاكات على جميع المستويات"، مع الإشارة، بشكل خاص ومحدد، إلى منطقة الشرق الأوسط.
وقال مدير "منظمة الشفافية الدولية" لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كريستوف ويلكي، إن "هناك إحساسا عاما بتفشي الفساد في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك في أجهزة الشرطة والقضاء والإدارات الحكومية المعنية بالمشتريات العامة"! موضحا "أن الحل والطريقة الناجحة للقضاء على الفساد يكمنان في وجود مؤسسات يديرها أشخاص يتحلون بمستويات عالية من النزاهة ووجود نظام إشراف ومراقبة يتمتع بالاستقلالية، بالإضافة إلى حل حالة الصراع والعنف التي تسبب انعدام المسؤولية والفوضى على الساحة السياسية"!
وترى "منظمة الشفافية الدولية" أن هذه النتائج تبين أن "البلدان التي 'تعاني من نزاعات طويلة الأمد وتصدع بعض آليات الحكم الرشيد هي البلدان ذاتها التي يستشري فيها الفساد على نطاق واسع. إذ عندما تضعف مؤسسات الدولة أو تنعدم من الأساس، يخرج الفساد عن نطاق السيطرة ومن ثم تُهدر الموارد العامة. ويؤدي هذا الوضع إلى حالة اللا استقرار وشيوع ثقافة الإفلات من العقاب''.
وتضيف المنظمة أن انتشار الفساد يؤدي أيضا إلى "انحسار ثقة أفراد الشعب في مؤسسات الدولة والحكومات الناشئة التي يُفترض أنها تحمي استمرار الدولة واستقرارها". ولاحظت المنظمة أن من الأسباب التي تدعو إلى القلق البالغ "استمرار شبح الفساد عندما تعم حالة اللا شفافية في الممارسات العامة وتحتاج المؤسسات إلى دعم ومساندة وتعجز الحكومات عن تطبيق الآليات القانونية لمكافحة الفساد".
وتقدر الأمم المتحدة أن حجم الأموال العامة التي تتعرض للنهب والاختلاس بسبب فساد الأنظمة السياسية في العالم يزيد عن تريليون ونصف التريليون دولار سنوياً، ويتم تحويل هذه الأموال إلى حسابات شخصية أو ودائع سرية في الخارج.
ويرتب "مؤشر الفساد" الصادر عن هذه المنظمة الدول المختلفة على سلم من 100 درجة، يبدأ بـ 100 (وجود تصور بأن الدولة نظيفة تماما من الفساد) وينتهي بـ صفر (وجود تصور بدرجة عالية جدا من الفساد)، بحيث تكون الدول التي تحصل على درجة أعلى أقل فسادا بينما تكون الدولة أكثر فسادا كلما انخفضت الدرجة التي تحصل عليها.
أما الدول التي احتلت المراتب الأولى (حصلت على أعلى الدرجات)، مما يعني أن الفساد في القطاع العام فيها قليل جدا، فهي: الدانمارك (91 درجة)، نيوزيلندا (90 درجة)، السويد (89 درجة)، النرويج (86 درجة) ثم سنغافورة (86 درجة)، وهي الدولة الآسيوية الوحيدة التي احتلت مرتبة متقدمة جدا، لتسبق بذلك دولا ديمقراطية غربية عريقة مثل ألمانيا (في المرتبة 12 - 78 درجة)، بريطانيا (المرتبة 14 – 76 درجة) والولايات المتحدة الأميركية (المرتبة 19 – 73 درجة) وفرنسا (المرتبة 22 – 71 درجة). وأما المراتب الأخيرة في سلم تفشي الفساد في القطاع العام، فقد احتلتها ثلاث دول هي أفغانستان، كوريا الشمالية والصومال، التي لم تحصل كل منها سوى على 8 درجات!
إسرائيل - واحة "للديمقراطية" و... الفساد!!
احتلت دولة إسرائيل، التي تعتبر نفسها وتعتبرها دول أخرى أيضا (!)، "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، المرتبة الـ 36 في سلم تفشي الفساد في القطاع العام، برصيد 61 درجة، لتتخلف بذلك عن العديد من الدول الغربية، التي تعتبر نفسها جزءا منها، بل لتتخلف، أيضا، عن دولتين عربيتين في الشرق الأوسط هما الإمارات العربية المتحدة (المرتبة 26 - 69 درجة) وقطر (المرتبة 28 - 68 درجة).
واللافت أن هذه النتيجة التي "حققتها" إسرائيل هذه السنة في مجال تفشي الفساد في قطاعها العام ليست جديدة، بل تشكل استمرارا متسقا للنتائج التي تواصل "تحقيقها" في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة، وخاصة خلال العقد الأخير، على الأقل.
ففي التقرير السنوي الذي نشرته المنظمة ذاتها في العام الماضي، 2012، احتلت إسرائيل المرتبة الـ 39 (برصيد 60 درجة) في سلم تفشي الفساد في القطاع العام، برصيد 60 درجة، مما يعني أن أي تحسن جدي لم يطرأ فيها على هذا الصعيد خلال السنة المنصرمة. وهي "تتفوق" في هذا على دول عديدة، منها، مثلا، بورتوريكو والبرتغال (المرتبة 33) وقبرص (المرتبة 31)، فضلا عن الإمارات العربية المتحدة وقطر، كما أسلفنا.
ويتم إعداد "مؤشر الفساد" في القطاع العام وترتيب الدول المختلفة على سلّمه، طبقا لمنهجية العمل التي تعتمدها "منظمة الشفافية الدولية"، بناء على النتائج التي يتم الخلوص إليها من خلال مقابلات، استطلاعات، مسوحات وتحليلات تجريها معاهد ومراكز أبحاث دولية والتي تعكس، بصورة أساسية، مواقف ورؤى قطاع واسع من رجال الأعمال والخبراء في شتى أنحاء العالم حيال القطاع العام في كل دولة ودولة. ومن هنا، فإن التدريج يجسد الآراء المختلفة بشأن مدى تفشي الفساد في القطاع العام في كل واحدة من الدول التي يشملها التقرير.
وينوه التقرير إلى أن تدريج إسرائيل على سلم الفساد قد تحدد طبقا لنتائج ستة استطلاعات مختلفة أجرتها معاهد الأبحاث ذات العلاقة. ومن بين الأسئلة التي وُجِّهَت إلى المستطلعة آراؤهم بالنسبة لإسرائيل: إلى أي مدى يمتنع أصحاب المناصب العامة عن استغلال مناصبهم لخدمة مصالحهم الخاصة؟ هل ثمة تعليمات واضحة ومنظومات مراقبة وتبليغ تنظم تخصيص الأموال العامة وطرق استخدامها؟ هل ثمة إساءة استغلال للموارد العامة؟ هل ثمة "نمط سائد" من دفع الرشى لضمان الفوز بمناقضات أو عقود وبامتيازات؟ هل ثمة ظواهر سرية من المحسوبية، ضمان الوظائف، الامتيازات، تمويل الأحزاب أو العلاقات الوثيقة بين السياسة والأموال، بصورة مثيرة للشكوك؟
ومن بين الدول الـ 34 الأعضاء في "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" (OECD)، احتلت إسرائيل المرتبة الـ 23، ما يعني أن ثلثيّ الدول الأعضاء في هذه المنظمة (64%) هي "أقل فساداً" من إسرائيل.
سرّيّة الأمن ... غطاء
للفساد في أجهزته!
وكانت "منظمة الشفافية الدولية" قد نشرت، في أواخر شهر كانون الثاني من العام الحالي، تقريرا خاصا حول مستويات الفساد وأخطار الفساد في أجهزة الأمن في دول مختلفة، تبين منه أن "إسرائيل واحدة من مجموعة من الدول التي لا تبذل جهودا كافية لمنع ومحاربة الفساد في أجهزة الأمن التابعة لها، والتي تعمل تحت غطاء كثيف وواسع جدا من السّرّيّة"!
وأكد التقرير إن "أجهزة الأمن في إسرائيل لا تتخذ تدابير وإجراءات أساسية لمنع الفساد في داخلها، كما أن هذه الأجهزة لا تبث ولا تكرس رسائل واضحة وحازمة ضد الفساد في أنشطتها المختلفة وعلى كافة المستويات، بل إنها تتهرب من التعاون في هذه المسألة في الحالات التي يحتم القانون فرض وإجراء مراقبة عليها"!
ودعا التقرير إلى توسيع وتعزيز الشفافية في الأجهزة الأمنية "التي تمتاز بتعاقدات عامة ضخمة جدا"، نظرا لأن "غياب الشفافية يتيح تفشي وتصاعد ظاهرة الرشى".
ومنح التقرير دولة إسرائيل تدريجا متدنيا جدا في كل ما يتصل بالشفافية والمراقبة على ميزانية "الأمن" وعلى الأنشطة الأمنية، علما بأن "ميزانية الأمن" المعلنة تبلغ أكثر من 20% من إجمالي الميزانية العامة لدولة إسرائيل. ونوه التقرير إلى أنه "على الرغم من وجود منظومات مؤسساتية لمراقبة وزارة الدفاع وأدائها، مثل لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، إلا أن وزارة الدفاع تمتنع، كما يبدو، عن التعاون معها، مما يجعل تأثير الكنيست على إدارة الأجهزة الأمنية محدودا جدا".
وأشار التقرير، أيضا، إلى أن الحكومة الإسرائيلية "تبدي، في السنوات الأخيرة، درجة متدنية جدا من التسامح تجاه المنظمات الاجتماعية التي توجه النقد العلني للأجهزة الأمنية وطرق إدارتها، أو لميزانية الأمن وغياب الشفافية حيالها أو لعدم توفر أية معلومات عن نفقات سرية ومصروفات استثنائية أخرى". وأضاف أن قوى الأمن لا تمتلك الأدوات اللازمة لمواجهة الفساد باعتباره معضلة استراتيجية وأنها لا تعتمد برامج إرشادية لضباط وقادة الجيش الإسرائيلي في مجال منع الفساد ومحاربته.
وأوضح التقرير، أيضا، أن المسؤولين السياسيين لا يمارسون الرقابة اللازمة على الأجهزة الأمنية وأن قوى الأمن "تخشى التحذير والتبليغ عن الفساد"، الأمر الذي يبقي المواطنين في إسرائيل "منقطعين تماما عن كل ما يتعلق بالأجهزة الأمنية وأنشطتها"!
وعقبت وزارة الدفاع الإسرائيلية، رسميا، على ذلك التقرير بالقول إنه "تقرير سطحي، ليس واضحا لنا ما هي المعطيات التي يستند عليها، لكن الواضح تماما هو أن معدي التقرير لا يعرفون أجهزة الأمن الإسرائيلية وأنشطتها، بل ينثرون شعارات لا أساس لها... ونتمنى ألا يكون هذا نابعا من موقف مسبق وأوتوماتيكي تجاه إسرائيل"!!
ووفقا للتقرير إياه، فإن 73% من الجمهور في إسرائيل يعتقدون بأن الأجهزة السلطوية تدار، بدرجة كبيرة أو بصورة مطلقة، من قبل فئة ضيقة من أصحاب المصالح الذين "يعتمدون اعتبارات غريبة" ويسعون إلى خدمة "مصالح غريبة". ولم تكن نسبة المواطنين الذين يعتقدون ذلك عن مؤسسات الحكم في دولهم أعلى منها في إسرائيل سوى في دولة واحدة فقط هي اليونان (83)!! زد على ذلك، أن 96% من الإسرائيليين عبروا عن اعتقادهم بأنه "من الضروري استغلال العلاقات الشخصية لدفع مصالح وإجراءات في القطاع العام" ـ وهي النسبة الأعلى من المواطنين الذين يعتقدون ذلك من بين جميع الدول التي شملها التقرير. كما أفاد التقرير، أيضا، بأن 12% من الإسرائيليين دفعوا الرشى لجسم أو مسؤول سلطوي معين خلال السنة المنصرمة للتغلب على حواجز بيروقراطية مختلفة!
وكان رئيس فرع منظمة "الشفافية الدولية" في إسرائيل، القاضي المتقاعد ومراقب الدولة السابق ميخا لندنشتراوس، قد قدم تقرير المنظمة الأخير حول "مؤشر الفساد" إلى وزيرة العدل، تسيبي ليفني، ووجه خلال ذلك نقدا لاذعا وحادا لرئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، على خلفية الفضائح المتعلقة بمصروفات عائلته والتي كشفت عنها وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرا. وقال لندنشتراوس: "إنها اعتبارات شخصية وغريبة، أو بصورة أدق هي استغلال للموقع الجماهيري من أجل الحصول على منافع شخصية محظورة. وهذا أمر في غاية الخطورة"!
أما الوزيرة ليفني فعقبت على معطيات التقرير بالقول إنها "معطيات غير مطرية... فإسرائيل تقبع في الثلث الأدنى من دول OECD وهذه بشرى غير سارة"! وأضافت: "إنني أومن بأن نور الشمس هو المعقّم الأفضل. وهذا ما ينبغي تطبيقه، لا ترديده مجرد شعار، لأن الفساد يزدهر في الأماكن المظلمة ولدى من يمنعون نور الشمس من كشف أعمالهم"! وهو ما اعتبرته أوساط قضائية إسرائيلية نقدا تلميحيا لممارسات ديوان رئيس الحكومة الذي وضع عراقيل عديدة أمام المطالبات بالكشف عن حساب نفقات مقر رئيس الحكومة الرسمي وحساب مصروفات منزله الخاص في مدينة قيسارية.
ومن جهته، عقب المراقب السابق على البنوك في إسرائيل، يوآف لهمان، على معطيات "مؤشر الفساد" بالقول: "نحن لم نصبح جمهورية موز بعد، لكننا ما زلنا ذيلاً للأسود، في الثلث الأدنى من دول OECD... البيروقراطية وانعدام الشفافية والحاجة إلى علاقات شخصية ومحسوبيات ـ جميعها تولّد لدى المواطن شعورا بأنه لن يستطيع الحصول على ما يستحقه وفقا للقانون إلا إذا كان على علاقة شخصية مع أحد أصحاب النفوذ والسلطة"!