في سابقة قضائية - المحكمة العليا الإسرائيلية تمنع نشر رواية أدبية

على هامش المشهد

 

عن إرث الزعيم الروحي لشاس: تكريس الصبغة الأشكنازية للجمهور الشرقي المتدين

 

 

 

بقلم: دافيد شاشا (*)

 

يتعيّن علينا الآن أن نبدأ في تقويم ومراجعة الإرث الذي تركه الحاخام عوفاديا يوسيف (الزعيم الروحي لحركة "شاس" الدينية الشرقية الذي توفي مؤخرا). ولعل من المؤسف أن فيض الكلام الذي قيل وكتب منذ وفاته لم يتضمن ما يعبر عن وجهة النظر الشرقية فيما يتعلق بسيرة حياته الحاخامية (الدينية).

 

أود في هذا المقال اقتراح عدد من النقاط للتفكير تتعلق بالتراث والتقاليد اليهودية الشرقية. ومما لا شك فيه أن الحاخام يوسيف ألمّ بصورة لافتة للنظر بمخزون هائل، وموسوعي، من المعرفة ذات الصلة بالشريعة الدينية اليهودية، وعلى الأرجح لن يظهر منافسون له من حيث عمق وسعة وغزارة ما أنتجه من مؤلفات وكتب فقهية في شؤون الدين. وبطبيعة الحال، فقد تمثل إنجازه المهم الآخر في تأسيس حزب "شاس"، الذي سعى إلى تمثيل مصالح اليهود الشرقيين في إسرائيل وإلى الدفاع عنها، بعد عقود طويلة من الإقصاء الثقافي والتمييز والغبن الاجتماعي.

 

 

هذان هما الإنجازان الرئيسان للحاخام يوسيف في سيرة حياته الطويلة.

 

فغزارة مؤلفاته وإصداراته الفقهية الدينية تدل على جذوره في مدرسة "فورات يوسيف" الدينية، وعلى الكيفية التي قوضت بها طريقة التعليم في هذه المدرسة التقاليد السفارادية- الشرقية المتعلقة بالقيم الإنسانية الدينية. وقد تبنت مدرسة "فورات يوسيف"، في الواقع، التقاليد الشرقية الكلاسيكية التي تطرح بصورة عامة موقفا دينيا أقل تشدداً وصرامة من نظيرتها الأشكنازية، غير أن فلسفة هذه المدرسة أهملت التعليم العام.

 

وجدير بالذكر أن الحاخام عوفاديا يوسيف دعي في العام 1947 لترؤس المحكمة الدينية في مصر، بعدما تعذر على الحاخام الرئيس (ليهود مصر) حاييم ناحوم أفندي مواصلة الاضطلاع بمنصبه من جراء فقدانه للبصر. ويشير متتبعون لسيرة حياته إلى أن الحاخام يوسيف وجد أن التزام يهود مصر الديني كان "ضعيفا للغاية"، ويشكل ذلك نقطة حاسمة في محاولتنا الرامية لفهم الحاخام يوسيف بصورة أفضل، وكذا الطريقة التي فهم بها (هو ذاته) اليهودية التوراتية.

 

وكما بين مقال أفيراما غولان في صحيفة "هآرتس" (والذي دعت فيه قراءها إلى تذكر الحاخام يوسيف كرجل دين ثوري وليس كـ "مهرج") فقد كانت "الثورة" التي قادها ثورة فقهية (دينية) في جوهرها. ويعني "الفقه" هنا التأكيد الاستحواذي على أدق تفاصيل القوانين والأعراف الدينية. فآلاف الأسئلة والأجوبة التي نشرها الحاخام يوسيف تركز على هذه التفاصيل الصغيرة، وتقدم المشورة للقراء بشأن كيفية تطبيقها.

 

ويبين كتاب يعقوب يدغار، الرائع، حول التقليديين في إسرائيل- وهم في غالبيتهم الساحقة من اليهود الشرقيين- النتيجة المباشرة لهذا الوضع. وكما يظهر يدغار بوضوح، من خلال المقابلات الكثيرة التي أجراها مع يهود شرقيين، والذين تحدثوا عن الكيفية التي يفهمون ويجسدون بها يهوديتهم، فإن معظم الشرقيين في إسرائيل ما زالوا يعيشون في تخبط وبلبلة وصراع فيما يتعلق بهويتهم، ويشعرون بأنهم مهددون في ضوء النزعة المحافظة لدى المؤسسات الدينية. ولعل الحقيقة المهمة والمثيرة في شكل خاص، في هذا السياق، تتمثل في أن هؤلاء الشرقيين لا يفقهون شيئا فيما يتعلق بالتراث الأدبي للماضي الشرقي. وهم منقسمون الآن بين فئات وطوائف مختلفة، بناء على الفرضيات الأساس والمفاهيم الأشكنازية التي تتبناها وتعمل بهديها حركة "شاس"، والتي تهيمن في الوقت ذاته على الكتابات والمؤلفات الفقهية (الدينية) للحاخام يوسيف. وفي هذا الصدد فإن الأجندة السائدة حاليا (في المدارس الدينية الشرقية) هي أجندة المدارس الدينية الأشكنازية (الليتوانية)، والتي تتجاهل كليا التراث الفكري والعلمي والفلسفي الغني والرحب لليهود الشرقيين. بالإضافة إلى ذلك هناك التوجه القومي الصهيوني، الذي يصل إلى ذروته في راديكالية الحركة الاستيطانية، والذي تبناه كثيرون من الشرقيين التقليديين.

 

وعموما، فإن الإسرائيليين الشرقيين التقليديين يرون في الصهيونية الدينية نموذجا يجدر الإقتداء به، ويواصلون البحث عن طريقهم في "تدوير زوايا" دينية- توراتية، غير أن رجالات الدين الذين يمثلون حركة "شاس" يعتقدون أن مثل هذه "الطرق المختصرة" غير منطقية، وقد امتدح الحاخام عوفاديا يوسيف من جهته ما أسماه بـ "نهج أرض إسرائيل" كوسيلة لتوحيد وجمع صفوف كل اليهود في إسرائيل، وهو موقف مثير للجدل، ذلك لأنه يؤكد على تفوق وأفضلية التقاليد التي أرساها الحاخام يوسيف كارو- في كتابه "شولحان عروخ" والذي جمع فيه جميع الفرائض والفتاوى اليهودية- على التقاليد الأشكنازية- وهو أمر لا يقبل به المتدينون الحريديم- كما أنه يرفض ويقيد في الوقت ذاته الإطار الأوسع للمفهوم الديني الإنساني.

 

لقد نجح الحاخام يوسيف، بصورة عامة، في فرض مفاهيمه ووجهات نظره فيما يتعلق باليهودية الشرقية على جمهور اليهود الشرقيين في إسرائيل. وفي هذا السياق، فقد سعى الحاخام يوسيف، حين دعا إلى "إعادة المجد التليد"، إلى تقويض ونسف ثقافة اليهود الشرقيين الذين كتبوا الشعر والفلسفة، وكل ما يعتبره اليهود المتدينون، الأرثوذكس، شؤونا "دنيوية". ومن هنا لا غرابة في أن السياق الفكري والثقافي الرحب للتقاليد الشرقية الكلاسيكية وكل ما لها من تراث لم يجد له مكانا في نهج وبرامج حركة "شاس" بزعامة الحاخام يوسيف. ولعل السر الخفي لظاهرة "شاس" يكمن في صلات الكثيرين من قادتها مع مدرسة "فونيباج"، وهي مؤسسة دينية (ليتوانية) أشكنازية تتبنى نهجا صارما ومتشدداً، أسسها الحاخام (الأشكنازي المتوفي) إليعازار شاخ، والذي تحدثت مقالات الرثاء التي كتبت بعد وفاته عن أنه (أي الحاخام شاخ) هو المؤسس الحقيقي لحركة "شاس". هذه الحقيقة، ظهرت بجلاء في العام 1992، حين صرح الحاخام شاخ قائلا إن الشرقيين ليسوا ناضجين بصورة كافية من أجل تزعم وقيادة حزب سياسي. ويشار في هذا السياق إلى أن الكثيرين من قادة حزب "شاس" تلقوا تعليمهم وتربيتهم في مدارس ومعاهد دينية أشكنازية، ومن هنا فإن وجهة النظر الحريدية التي اكتسبوها في تلك المدارس هي التي قادت ووجهت حزب "شاس"، وهي التي أرست رؤيته اليهودية. وما زال التصادم بين التقاليد الدينية الشرقية وبين الأصولية الأشكنازية الأرثوذكسية، يشوه الثقافة الشرقية لحركة "شاس". صحيح أن لحركة "شاس" وأعضائها لونا شرقيا معينا، غير أن هذه الهوية سطحية للغاية. ومن ناحية عملية فإن يهودية "شاس" مرتبطة بوشائج راسخة ومتينة بالأجندة الأشكنازية الحريدية، باستثناء فوارق طفيفة فقط في مواضيع شكلية.

 

وقد اتضح بمرور الوقت أن موقف الحاخام عوفاديا يوسيف فيما يتعلق بالمسألة العربية والنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني بات هامشيا وغير ذي شأن، وذلك عندما انزاحت حركة "شاس" بصورة حادة نحو المعسكر الحريدي- اليميني. صحيح أن الحاخام يوسيف أبدى، في الماضي، مواقف وآراء تعبر عن استقلالية وشجاعة تجاه المسائل المرتبطة باتفاقيات السلام والحلول السلمية للنزاع، غير أن مواقفه تطورت فيما بعد في اتجاه مختلف. وقد أدلى الحاخام يوسيف (في السنوات الأخيرة) بالعديد من التصريحات والآراء، التي تنم عن تطرف قومي، بعيد كل البعد عن الفكرة القائلة بأنه يمكن لليهود الشرقيين (من الدول العربية والإسلامية) أن يشكلوا جسرا للتفاهم والسلام بين الشعبين. وقد شكل هذا التراث، الذي جمع بين التحريض المعادي للعرب، واليهودية الحريدية، سمة جليه لحزب "شاس" وزعيمه الروحي (المتوفي) الحاخام يوسيف. ويمكن العثور على جذور هذا التشدد في التقلبات التي شهدها العالم الديني الشرقي بتأثير الراديكالية الأشكنازية. وقد أمضى الحاخام يوسيف عدة سنوات بعيدا عن مركز العالم الحريدي (الأشكنازي)، إلا أنه تم بمرور الوقت رأب الصدع، وقبل اليهود الأشكناز، على مضض، بالمكانة الرفيعة للحاخام يوسيف، غير أنه كان لهذا القبول ثمن باهظ، فمن خلال رفضه للتراث الثقافي الغني والمتنوع لليهودية الشرقية أبقى الحاخام يوسيف حركة "شاس" حبيسة قالب رسمي، وبدت الحركة التي تخلت عن العبقرية الفكرية لكبار المبدعين والأدباء الشرقيين مجردة من القيم "العلمانية" التي تعتبر جوهرية بالنسبة لمجتمع متمدن. كذلك فإن حركة "شاس" التي تعيش وتتحرك داخل سياق الشرخ الديني- العلماني الذي ما انفك يتسع ويتعمق، تشكل الآن جزءا من المشكلة عوضا عن قيامها بجسر الفجوة واقتراح الحلول الملائمة، والتعبير عن صوت عقلاني مؤيد للسلام.

 

ويمكن القول في هذا السياق أيضا إن مشكلة التمييز ضد الشرقيين في مؤسسات التعليم الحريدية الأشكنازية كانت منذ البداية نتاج الرؤية الاجتماعية- الدينية للحاخام يوسيف. لقد كانت العلاقة الحميمة بين حركة "شاس" وبين المتدينين الحريديم الأشكناز سمة ثابتة ومستمرة للحركة، ظهرت منذ اللحظات الأولى التي تمتع فيها الحاخام إليعازار شاخ بمكانة الزعيم والمرشد لهذه الحركة. وهكذا فقد كرس الحاخام عوفاديا يوسيف، بالرغم عن كل ما قيل ويقال عن حبه للتراث اليهودي- العربي، الصبغة الأشكنازية للجمهور الشرقي المتدين، وقد فعل ذلك عندما اقتلع المكون الإنساني من الحاخامية الإنسانية الشرقية، وركز فقط على المسائل الشكلية والسلوكية. لذلك، لا غرابة في أن حركة "شاس" غارقة في فضائح وصراعات داخلية. صحيح أن فضائح الفساد ليست غريبة أو شاذة في السياسة الإسرائيلية، لكن غياب زعامة أخلاقية في "شاس" تحوّل إلى سمة جلية لعقلية "سر وراء القطيع"، التي تغلغلت في أروقة السلطة.

 

مما لا ريب فيه أن الحاخام يوسيف ترك بصمة فكرية عميقة على اليهودية الأرثوذكسية بواسطة مؤلفاته وكتاباته الفقهية الغزيرة وأنه تمتع، كزعيم لحركة "شاس"، بنفوذ وتأثير مشابهين على المؤسسة السياسية الإسرائيلية، غير أن اليهودية الشرقية تجد نفسها، بعد ولايته الطويلة كحاخام شرقي أكبر لإسرائيل، وكزعيم روحي لأهم حزب سياسي يهودي- شرقي في تاريخ الدولة، مفرغة من مضمونها الأهم قيمة، فيما يجد اليهود الشرقيون أنفسهم أيضا يفقدون تراثهم السامي بصورة مستمرة.

 

إن الوضع الراهن لليهود الشرقيين في إسرائيل بات في أسوأ حال، ونحن عندما نقيم الوضع لا بد لنا من أن نتفحص ونراجع عن كثب دور الزعماء في عملية الهدم والمحو.

 

________________________________

 

(*) مؤسس ومدير "مركز تراث اليهودية الشرقية" في بروكلين- نيويورك والذي يهدف إلى بعث وزيادة الوعي والمعرفة بتاريخ وثقافة اليهود العرب. ترجمة خاصة. المصدر: موقع "هعوكتس" الإلكتروني.