نحو خمسة عقود مرت ولسان حال أهالي كفرقاسم وجميع الفلسطينيين يقول "ما اشبه اليوم بالبارحة"، فالطريق من هناك عبر الدوايمة وصبرا وشاتيلا والاقصى والحرم الابراهيمي وقانا الى خان يونس، مرصوفة بالدماء وهي مكتظة بمواطن الوجع جراء المذابح التي طالما انتهجتها سياسة اسرائيلية تهدف إلى حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني واستلاب وطنه وارادته. لكن ما يميز هذه المجزرة الرهيبة كونها نفذت بحق من اعتبرتهم اسرائيل مواطنيها بأيدي وحدة تابعة لشرطتها فيما تحرم المواثيق الدولية قتل المدنيين بدم بارد حتى في حالة حرب
48 عامًا على مجزرة كفر قاسم
كتب وديع عواودة:
مع حلول الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة 29/10/2004 اكتمل العام الثامن والاربعون على مجزرة كفر قاسم التي إقترفها حرس الحدود الإسرائيلي في كفر قاسم، القرية الفلسطينية في أقصى جنوب منطقة المثلث داخل إسرائيل.
تسعة وأربعون شهيداً وشهيدة من أطفال وشيوخ، نساء ورجال، فتية وفتيات، سقطوا شهداء شهوة عسف حرس الحدود الإسرائيلي. مشاهد تضرم نيران الإنسانية التي تستنجد طالبة الرحمة، ولكن الرحمة لم تكن عند مدخل البلد فتتابع سقوط الضحايا عنده، وإمتزجت الدماء الزكية بالتراب وبثمار الزيتون التي حملها اولئك العائدون في طريق عودتهم من كرومهم عند المساء. نحو خمسة عقود مرت ولسان حال أهالي كفرقاسم وجميع الفلسطينيين يقول "ما اشبه اليوم بالبارحة"، فالطريق من هناك عبر الدوايمة وصبرا وشاتيلا والاقصى والحرم الابراهيمي وقانا الى خان يونس، حيث ارتكبت آخر مجزرة صهيونية حتى الآن، مرصوفة بالدماء وهي مكتظة بمواطن الوجع جراء المذابح التي طالما انتهجتها سياسة اسرائيلية تهدف إلى حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني واستلاب وطنه وارادته. لكن ما يميز هذه المجزرة الرهيبة كونها نفذت بحق من اعتبرتهم اسرائيل مواطنيها بأيدي وحدة تابعة لشرطتها فيما تحرم المواثيق الدولية قتل المدنيين بدم بارد حتى في حالة حرب.
في حديث لـ"المشهد الاسرائيلي" قال رئيس اللجنة الشعبية لاحياء المجزرة، وليد فريج، ان عشرات السنين مضت منذ ذاك اليوم الاسود غير ان المجزرة لا تزال جرحا نازفا ومحفورا في الذاكرة الجماعية الفلسطينية حيث يتم احياؤها في المدارس بفعاليات مختلفة عاماً بعد عام. وفي كفر قاسم وكما في سنوات خلت جرت يوم الجمعة مسيرة شعبية لزيارة ضريح شهداء المجزرة المقام وسط البلدة ووضع الزهور عليه وتلاوة الفاتحة على أرواحهم، شارك فيها الاهالي ووفود عن فلسطينيي 1948.
وتحت عنوان "لن ننسى دماء شهدائنا ولن نغفر" اصدرت اللجنة الشعبية لاحياء ذكرى المجزرة في كفر قاسم بيانا دعت فيه اهالي البلدة الى المشاركة في فعالياتها واكدت فيه على ان البارود والمدافع والطائرات لن تفلح بابادة الشعوب وان السلام لن يحل الا بعودة الحقوق المسلوبة.
وأوضح فريج ان مدارس كفر قاسم، التي يبلغ عدد سكانها اليوم 18 الف نسمة بعد ان كانت تعد 1600 نسمة عام 1956 ، احيت ذكرى المذبحة وشهدت المدرسة الثانوية حدثا استثنائيا مؤثرا حيث قام احد الناجين من المجزرة، عبد الرحيم صرصور (60 عاما)، باستعادة لحظات اعتراض طريق الاهالي ورميهم بنيران البنادق الرشاشة التي اصابته فتظاهر بالموت وهو ممدد بين جثث الضحايا في مداخل القرية.
صرصور وهو رجل اصم منذ الولادة نقل امام الطلاب صورة ما جرى بالاشارات ردا على اسئلة ميعاد صرصور طالبة صماء كانت تحاوره بلغة الاشارة ايضا، فيما ترجمت الحوار للغة الكلام مختصة باشارات المصابين بالصمم. وقبيل ذلك كانت رئيسة لجنة الطلاب في المدرسة، زينب ابراهيم طه، وهي حفيدة احد شهداء المجزرة، قد تلت كلمة بهذه المناسبة قالت فيها "48 عاما مضت على المجزرة الرهيبة ولم يجف شلال دم شعبنا الفلسطيني ظنا من السفاحين ان باستطاعتهم الاجهاز على هذا الشعب. ولكن كلما ازدادت المذابح ازداد شعبنا تمسكا بأرضه ووطنه وحقه فالمجازر لا تقضي على الشعوب بل تزيدهم اصرارا. فيا ايها الجزار ان احفاد جدي اكثر من 120 حفيدا..". واكد وليد فريج ان اللجنة الشعبية تعمل على اقامة متحف لحفظ كل الوثائق والموجودات الخاصة بالمجزرة وتكريس ذكراها لدى الناشئة.
وتنتصب وثائق ومحاضر المحكمة شاهدة على فظائع تلك الأيام. فقد حظيت كفر قاسم مثل صبرا وشاتيلا، والحرم الإبراهيمي، بلجنة تحقيق ومحكمة اسرائيلية دونت شهادات شهود العيان.. ولم تعاقب المجرمين ما اكد انها كانت صورية .
كيف اقترفت المذبحة؟
استنادا الى شهادات اللجنة الشعبية لاحياء ذكرى المذبحة وملفات المحكمة الاسرائيلية اقترفت الجريمة بدم بارد وبعلم المستوى السياسي ولأهداف سياسية، وتاليا وقائعها:
في صبيحة يوم 29 اكتوبر/ تشرين الأول 1956، اليوم الذي شن فيه العدوان الثلاثي على مصر من قبل إسرائيل بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا، أبلغ قائد المنطقة الوسطى، الجنرال تسفي تسور، العقيد شدمي الذي كان قائد أحد الألوية المسؤولة عن الحدود مع الأردن (التي شملت منطقة المثلث من بير السكة حتى كفر قاسم) أن سياسة الأركان العامة تجاه السكان العرب في المنطقة تقتصر على تمكين المواطنين من مزاولة أعمالهم العادية دون إزعاجهم أو المس بهم بهدف الحفاظ على الهدوء في منطقة الحدود مع الأردن إذ أن العدوان سيتركز في الجبهة الجنوبية ضد مصر.
لكن العقيد شدمي طلب فرض منع التجول لتسهيل إنتشار الجيش، ولمنع جنود الإحتياط، لدى إقترابهم من مواقع الجيش في الليل، من المساس بسكان القرى. وإستجاب قائد المنطقة لطلب شدمي، ويشار إلى أن القرى المذكورة كانت تحت نظام الحكم العسكري، وكان منع التجول الليلي يسري بشكل دائم بين الساعة العاشرة ليلاً والرابعة فجراً. وعند الساعة الواحدة من بعد ظهر ذاك اليوم عقد لقاء بين العقيد شدمي وملينكي، قائد وحدة حرس الحدود، وأمره شدمي بفرض نظام منع التجول في كفر قاسم، كفر برا، جلجولية، الطيرة، الطيبة، قلنسوة، بير السكة وإبثان، إبتداء من الساعة الخامسة مساءً وليس من الساعة العاشرة كالمعتاد.
وأصدر ملينكي أوامره بفرض منع تجول صارم مشددا على ضرورة تطبيقه بإطلاق النار. وعندما سأله ملينكي ماذا سيكون مصير المواطن العائد من عمله دون علم بأمر منع التجول، أجاب شدمي "الله يرحمه". وبعد ثلث ساعة من اللقاء بينهما اجتمع ملينكي بضباطه، وأبلغهم بسياسة منع التجول المعتمدة على عدم المساس بمن يستترون في بيوتهم، وإطلاق النار على كل من يخرج منها. وأوضح القائد ملينكي أنه يفضل وقوع بعض القتلى على إتباع سياسة الإعتقالات لحفظ منع التجول في الأيام القادمة. وعندما سأل أحد الضباط ملينكي، ماذا سنفعل بالمصابين؟ أجاب ملينكي، "لن يكون هناك مصابون"، وعن سؤال الجندي منشيه أرييه حول مصير النساء والأطفال، أجاب ملينكي: "بلا عواطف". وعندما سأله نفس الجندي عن العائدين من العمل قال ملينكي: "الله يرحمهم".
وقسم ملينكي القرى إلى قسمين، وسلم النقيب ليفي المسؤولية عن كفر قاسم، كفر برا، جلجولية والطيرة، بينما تسلم النقيب أليكسندروني المسؤولية عن الطيبة، قلنسوة، بير السكة وإبثان. وإجتمع النقيب ليفي مع ضباطه، ومن بينهم الملازم جبريئيل دهان الذي تسلم المسؤولية عن كفر قاسم، وكرر على مسامعهم أوامر ملينكي. ومباشرة بعد ذلك إجتمع دهان بجنوده قبل الوصول للموقع، وشرح لهم طبيعة المهمة التي ألقيت على عاتقهم، وأمرهم بفرض منع التجول، وإطلاق النار، وقتل كل إنسان يظهر من بعد الساعة الخامسة مساء خارج بيته دون التفريق بين رجال ونساء وأطفال وعائدين من خارج القرية، ونهاهم عن الدخول إلى البيوت وقتل نزلائها موضحاً لهم أن هذا سيعتبر عملية إغتيال، بينما قتل الناس خارج بيوتهم أثناء منع التجول يعتبر قتلاً، وهو عملية قانونية لجندي أثناء أداء مهمته. وهذا ما حصل حيث تم حصد العشرات من الشيوخ والنساء والاطفال من اهالي كفرقاسم الذين عادوا لبيوتهم بعد انقضاء يوم آخر بحثوا فيه عن ارزاقهم فتكدست الجثث على جانبي الطريق في مدخل البلدة. وقام الجيش الاسرائيلي بنقلها الى مستعمرة "راس العين" المجاورة وفي اليوم التالي استدعي رجال من قرية جلجولية الذين اجبروا على دفنها في قبر جماعي في كفر قاسم الا ان ذوي الضحايا عادوا واخرجوا الجثث بعد ايام ودفنت كل ضحية في ضريح خاص. ولم ينفضح امر المذبحة الا بعد نحو اسبوع بواسطة النائب توفيق طوبي وزملائه العرب في الكنيست ممن بلغوا الصحافة الاجنبية والمحلية.
ومن الجدير ذكره أنه بإستثناء كفر قاسم، تعامل الضباط في بقية القرى مع الأوامر الصارمة بمرونة، وكل حسب أسلوبه الخاص، ومنعوا وقوع مجازر بين العائدين من العمل الذين جهلوا الوضع داخل قراهم. وبشكل عام سمح الجنود لهم بدخول بيوتهم حتى بعد أن فرض منع التجول خلافا للأوامر العسكرية نصاً وروحاً كما شاء قائدهم ملينكي.
محكمة صورية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1958 إستهلت محكمة العقيد شدمي الضابط المسؤول عن المذبحة فصدر حكم هزيل بتبرئته من القتل وتغريمه بدفع قرش واحد بقي محفوراً في عمق الذاكرة الفلسطينية كرمز للمقاضاة الصورية. إلا أن المحاضر العلنية والسرية لهذه المحكمة كشفت وقائع لم تكشفها محكمة ملينكي من قبله مما أضفى ضوءاً جديداً على القضية. فقد تبين أن الجنود الـ 11 المتهمين بتنفيذ مذبحة كفر قاسم لم يكونوا سوى الأيدي المنفذة لعقول خططت ودبرت على أعلى مستوى من رئاسة الأركان ووزارة الدفاع، والمعنيان هما الجنرال موشيه ديان، رئيس هيئة الأركان ورئيس الحكومة ووزير الدفاع دافيد بن غوريون.
اسم العملية: "خلد" والهدف: تهجير
في 25 اكتوبر/ تشرين الأول عام 1991 الذي صادف مرور 35 عاماً على وقوع المجزرة، كشف الصحافي روبيك روزنتال في صحيفة "حداشوت" الاسرائيلية حقيقة ملابسات المذبحة، وذلك بعد إجرائه بحثاً حولها لغرض كتابة مسرحية حول الموضوع، فالتقى الكثير من الشخصيات الضالعة بالموضوع، وسمح له بقراءة محاضر محكمتي ملينكي والعقيد شدمي في الأرشيف التابع للجيش الإسرائيلي، ووثائق لم يكشف عنها قبل ذلك. ويقول روزنتال إنه ليس من الممكن فهم المذبحة دون معرفة "المخطط العسكري المذهل" الذي شكل الخلفية لها، والذي يحمل اسم "خلد". ويستهدف هذا "المخطط المبيت" إخلاء المواطنين العرب من المثلث، ليس واضحاً إلى أين، وذلك في إطار حرب محتملة مع الأردن عشية العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وتشير محاضر جلسات المحكمتين إلى تناقضات بين أقوال ملينكي وأقوال قائده المباشر شدمي حول طبيعة الأوامر التي صدرت بكل ما يتعلق بفرض منع التجول على القرى العربية. وكان المخطط الوحيد الذي علم به ملينكي بكل ما يتعلق بمنع التجول، مربوطاً بنشاط حرس الحدود في حالة حرب مع الأردن، وسمي هذا المخطط بإسم (س59) أو "خلد" وكان أساسه إخلاء عام لعرب المثلث في حالة وقوع حرب مع الأردن.
مخطط "خلد" لم يبق مجرد مخطط، بل أعدت العدة لتنفيذه في سياق الإستعدادات للحرب وكان منع التجول على قرى المثلث، والذي وافق عليه قائد منطقة الوسطى تسفي تسور حسب طلب قائد اللواء شدمي، جزء لا يتجزأ منه. وأكد ذلك العقيد حاييم هيرتسوغ، الذي أصبح رئيس دولة إسرائيل لاحقاً، في محكمة شدمي عندما قال إن أمر تسور بفرض منع التجول كان صحيحاً على ضوء مخطط (س59)، وإن الأمر في المنطقة الخاضعة لقيادة شدمي كان معقولاً، فمخطط (س59) ألغي ولكن الخلفية بقيت كما هي. رئيس الأركان آنذاك، الجنرال موشيه ديان، شهد في محكمة شدمي وأكد معرفته بهذه الوثائق، لافتا الى انه يرى بأمر المنع "مقبولاً بالتأكيد".
أما شدمي نفسه فقد شهد في محكمته أنه لم يطلب تقديم موعد بدء منع التجول للساعة الخامسة، بل طلب منع تجول كان مخططاً وسلم إليه من أعلى كأمر واقع حسب مخطط معين. ويقول شدمي في سياق شهادته: "وأنا أقصد مخطط خلد الذي أبلغت في لحظة معينة أنه قد ألغي، فسألت: وما البديل؟". وقال روزنتال في تحقيقه انه في أعقاب فرض منع التجول أصبح مخطط "خلد" الإطار العام لتصرف حرس الحدود في المنطقة.
وإتضح من أقوال الشهود والمتهمين في المحكمة أن المفهوم من منع التجول في حالة حرب عند كتيبة حرس الحدود كان التحضير لطرد عرب المثلث. هكذا شهد بنيامين كول، ضابط تحت إمرة ملينكي، أنه شعر مما جاء في المنشور أن الحرب ستكون على الجبهة الشرقية ضد الأردن، ويجب تسديد لكمة لعرب المثلث حتى يهربوا إلى الجانب الآخر للحدود، وليعملوا عندها ما شاؤوا.
وقال جبريئيل دهان، الضابط المسؤول في كفر قاسم، إن قائد كتيبة ملينكي أمره بإخلاء المكان في اليوم التالي في الساعة السادسة صباحاً، وترك السكان يعملون ما يشاؤون. ويضيف دهان: "لقد فهمت أن القصد هو أن يهربوا إلى الأردن". أما العريف عوفر الذي إتهم بالقتل المباشر لـ 14 من الضحايا، فقد قال إنه فهم أنه لا بأس في الأمر، ويجب تنفيذه، وأن الدولة تريد تخويف العرب وربما طردهم.
وفي مقابلة أدلى بها للصحافي روبيك روزنتال اقر أبراهام تامير، الذي شغل منصب ضابط العمليات في القيادة الوسطى، أن المخطط وضع بتوجيه من رئيس الأركان موشيه ديان، وأنه قام بتنفيذ المخطط التفصيلي. وأنكر تامير أن القصد كان الطرد شرقاً نحو الأردن، بل غرباً إلى داخل إسرائيل لأغراض أمنية بحتة، وهي إبعاد العرب عن الحدود. إلا أن شهادات كل المتهمين تناقضت مع أقوال تامير الذي حاول التخفيف من خطورة ووحشية المذبحة.
واللافت انه بعد نحو ستة عقود على النكبة وخمسة أخرى على مذبحة كفرقاسم لا تزال اوساط اسرائيلية غير قليلة تتمنى تحقيق الهدف الذي صوب اليه "مصممو" المجازر بتطهير البلاد من سكانها الاصليين. ولا ريب ان تمسك احفاد الضحايا في كفر قاسم وغيرها بحقوقهم في الوطن سيحول دون تحقيق تمنياتهم هذه.