المخفي أعظم
إدارة "أرشيف الجيش الإسرائيلي" ما زالت أشبه بإدارة وحدة عسكرية سريّة
يحتوي أرشيف الجيش الإسرائيلي على وثائق عسكرية تتعلق بالحروب والعمليات التي نفذتها قوات الجيش. لكن هذا الأرشيف يحتوي أيضا على وثائق غير عسكرية، بينها مذكرات دوّنها رئيس حكومة إسرائيل الأول، دافيد بن غوريون، ويدور نقاش حول ما إذا كان مكان هذه المذكرات في الأرشيف العسكري.
وكان بن غوريون قد أسس أرشيف الجيش الإسرائيلي خلال معارك حرب العام 1948. وطلب مديرو الأرشيف من بن غوريون، في رسالة بعثوا بها إليه في 12 كانون الأول العام 1948، الحسم في مسألة "صلاحية أرشيف الجيش الإسرائيلي في الاعتناء بالمنظمات العسكرية التي سبقت تأسيس الجيش في البلاد"، في إشارة إلى الميليشيات الصهيونية المسلحة التي نشطت في فترة الييشوف في فلسطين. ويشار إلى أن هذه الرسالة معروضة عند مدخل الأرشيف.
وفسر بن غوريون قراره بهذا الخصوص، في رسالة بخط يده وهي معروضة إلى جانب الطلب المذكور عند مدخل الأرشيف، بأن أرشيف الجيش الإسرائيلي "يجب أن يركز ليس فقط المواد حول جيش الدفاع الإسرائيلي وسابقيه في البلاد... وإنما تاريخ الدفاع عن الذات في جميع أماكن الشتات وكذلك مشاركة اليهود في حروب التحرير الوطنية وبين القوميات وإسهام اليهود في تطوير الفن والتقنيات العسكرية أيضا".
وثائق حول جرائم
حرب إسرائيلية
وقالت صحيفة "هآرتس"، في تقرير نشرته يوم الجمعة الماضي، إن هناك عدة أسئلة تتعالى من أقوال بن غوريون في رسالته. ولعل أهم هذه الأسئلة تتعلق بغاية ووظيفة أرشيف الجيش الإسرائيلي، واسمه الكامل الرسمي هو "أرشيف الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن". فمن جهة، واضح أن الأرشيف الذي يحفظ وثائق الجيش، ويعتبر في إسرائيل أنه "جيش الشعب"، يحتوي على وثائق وتفاصيل غير أمنية أيضا. ومن الجهة الأخرى فإنه ليس مؤكدا، أن المكان الطبيعي لدفاتر المذكرات الأصلية التي دونها بن غوريون هو الأرشيف العسكري.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين في أرشيف الجيش الإسرائيلي قولهم إنه تم الاحتفاظ بالدفاتر في هذا الأرشيف لأن هذا كان طلب بن غوريون. ولا يزال جزء من مذكرات بن غوريون يخضع للرقابة، وخاصة المقاطع التي تتناول جرائم حرب نفذها الجيش الإسرائيلي في العام 1948، وتلك المتعلقة بإقامة المفاعل النووي في ديمونا.
ويتبين أيضا أن جزءا من أرشيف الرئيس الإسرائيلي الحالي، شمعون بيريس، محفوظ في أرشيف الجيش الإسرائيلي. ويشار إلى أن بيريس كان قد تولى خلال ولاية بن غوريون في رئاسة الحكومة، مناصب مثل مدير عام وزارة الدفاع، ونائب وزير الدفاع. وهو يولي أهمية كبيرة لحفظ أرشيفه وحتى أنه يدون مذكرات شخصية بشأنه.
وأوضحت مديرة الأرشيف، إيلانا ألون، أن "الأرشيف يتلقى ودائع شخصية من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي والمسؤولين في جهاز الأمن... ومع تسريحهم من الجيش يسمح الأرشيف لهم بإيداع الوثائق التي كتبوها ووثقوا فيها أمورا كثيرة في الأرشيف، مثل الاحتفاظ بهذه الوثائق في خزنة شخصية في البنك".
من جانبه قال أمين محفوظات الدولة، الدكتور يعقوب ليزوفيك، إن بيريس ليس حالة استثنائية بتفضيله الاحتفاظ بوثائقه في أرشيف الجيش الإسرائيلي. وأضاف أنه "حدث أن شخصيات عامة تسلم توثيقا شخصيا إلى أرشيف الدولة، بينما تسلم شخصيات أخرى كانت خدمتها بالأساس في جهاز الأمن وثائقها إلى أرشيف الجيش الإسرائيلي".
ولا يزال أرشيف الجيش الإسرائيلي، ومقره بالقرب من قاعدة التجنيد الكبرى في تل هشومير، قرب تل أبيب، يحتفظ ويدير أرشيف بن غوريون. ويشمل هذا الأرشيف "مجموعة كبيرة ونادرة توثق نشاط اليهود في العمليات العسكرية، وفي النزاعات والحروب في أنحاء العالم".
سلوك يناسب
وحدة سرية
وقالت "هآرتس" إنه حتى بعد مرور 65 عاما على تأسيسه، يجد أرشيف الجيش الإسرائيلي صعوبة في التحرر من أنماط سلوكية تتناسب مع وحدة عسكرية سرية أكثر مما مع أرشيف ينبغي أن يكون مفتوحا أمام الجمهور الواسع ويشكل "فرعا لأرشيف الدولة"، مثلما يقول أمين محفوظات دولة إسرائيل.
ويطالَب زائرو أرشيف الجيش الإسرائيلي بعبور بوابتين مغلقتين والتعريف عن أنفسهم لدى المرور في كلا البوابتين أمام صوت صارم يصدر عن مكبر صوت خفي. وقالت الصحيفة إن الشعور لدى عبور البوابتين يكون غير مريح، حتى بالنسبة لزائر تمت دعوته لزيارة الأرشيف. ويطالب الزائرون عند مدخل الأرشيف بإبقاء كل حاجياتهم الشخصية لدى الحارس، وبضمن ذلك هواتفهم الخليوية وجهاز الحاسوب الشخصي.
ويجلس في موقع الحاسوب عند مدخل الأرشيف خمسة جنود وجنديات على الأقل، ما يزيد شعور الزائر بعدم الارتياح، وفقا للصحيفة. وقال مسؤول في الأرشيف إن "الجيش الإسرائيلي يدفع للأرشيف بالجنديات [وليس بالمال]. هذا هو المقابل الذي يعطيه الجيش الإسرائيلي لوزارة الدفاع كي تسمح له باستخدام الأرشيف".
وقالت الصحيفة إن "الشعور الغريب ازداد عندما رفض موظفو الأرشيف اقتباس أقوالهم بأسمائهم في التقرير، وأنهم أفراد الموساد أو الشاباك". ونقلت الصحيفة عن أحد الموظفين قوله "حتى في حفل زفافي لم تلتقط صور لي، وأنت تريد الآن أن أقول لك ما هو اسمي؟". والمواد المحفوظة في الأرشيف سرية للغاية، لدرجة أنه من أجل استعراض عدة صور، رغم أنها ليست سرية أبدا، تعين على مديرة الأرشيف التأكد من عدم استخدام لوحة مفاتيح حاسوب لا سلكية، وفسرت ذلك بأنه "من أجل الحفاظ على أمن المعلومات".
أكثر من
مليار وثيقة
ووفقا لمعطيات أرشيف الجيش الإسرائيلي، فإنه يحتفظ على رفوفه وفي حواسيبه بأكثر من مليار وثيقة، و5ر2 مليون صورة، و80 ألف ساعة تسجيل لشبكات الاتصال العسكرية ومداولات هيئة الأركان العامة و30 ألف خريطة. وكل هذه مخزنة في 450 ألف حاوية، وعشرة ملايين ملف و5ر3 تيرابايت من المواد الرقمية (ديجيتال).
وتحتوي هذه المواد على كافة مواد وزارة الدفاع والجيش الإسرائيلي منذ قيام إسرائيل. وأشارت "هآرتس" إلى أن غالبية هذه المواد مملة وتشمل توثيقا للأعمال العادية التي تقوم بها وحدات الجيش الإسرائيلي. وقالت مديرة الأرشيف إنه إلى جانب ذلك "توجد لدينا كنوز الدولة وليس فقط وثائق الجيش ووزارة الدفاع". وأضافت، من أجل إضفاء أجواء غامضة، "إننا نجلس هنا على كنوز ليس بإمكان الجميع الاطلاع عليها".
وأشارت الصحيفة إلى أن قسما من هذه "الكنوز" تعرض للتلف بسبب إهمال وحدات مختلفة في الجيش الإسرائيلي، لم تحرص على الحفاظ على المواد وإيداعها في الأرشيف العسكري. وأحد الأمثلة على ذلك هو وثائق متعلقة بتنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة في العام 2005. وقد فوجئ مندوبون عن الأرشيف تم استدعاؤهم إلى مواقع المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية في القطاع عندما اكتشفوا وجود حاوية كبيرة مليئة بالنفايات والوثائق الكثيرة التي وثقت نشاط الجيش طوال عشرات السنين من الاحتلال للقطاع.
"بإمكان ياسر عرفات
أيضا الاطلاع على المواد"!
بالإمكان الاطلاع على مواد الأرشيف فقط في حال الحصول على تصريح من "طاقم الكشف"، الخاضع للرقابة العسكرية والذي يحتم الحفاظ على وثائق من شأن الكشف عنها أن يشكل خطرا على أمن إسرائيل، وعلاقاتها الخارجية أو المس بخصوصية الفرد. والمواد المصنفة كسرية بشكل خاص يتم البحث بشأن الاطلاع عليها في "لجنة الاطلاع على مواد محدودة". وقد تمتد الفترة ما بين تقديم طلب وبين تلقي دعوة للاطلاع على مواد كهذه، في غرفة يتم عرض المواد فيها على شاشة حاسوب، إلى عدة شهور.
وقالت مديرة أرشيف الجيش الإسرائيلي ألون إن الموظفين ليسوا مذنبين في هذا التشديد. وأوضحت أنه "لدينا 36 وظيفة إضافة إلى 16 جندية. وللمقارنة فقط، ففي المكتبة الوطنية يعمل 560 موظفا ولديهم خمسة ملايين ملف فقط. وفي العالم الواسع، أرشيفات مثلنا، تحصل بهدوء على 250 موظفا".
ويعرض الأرشيف قسما ضئيلا جدا من الوثائق التي لديه في موقعه الالكتروني وفي صفحته في شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك". وفي رده على سؤال، قال طاقم الأرشيف إنه يُسمح للمواطنين العرب في إسرائيل بالاطلاع على المواد في أرشيف الجيش الإسرائيلي.
وقال أحد كبار الموظفين في الأرشيف إنه "لا يوجد تمييز لدينا. فعندما نفتح المواد للاطلاع عليها، بإمكان أي مواطن مشاهدتها. وحتى ياسر عرفات، إذا ما قام من بين الأموات، بإمكانه الحضور إلى غرفة المشاهدة هنا. ويوجد الآن عربي في غرفة المشاهدة، وهو يكتب رسالة دكتوراه هنا". وأضاف موظف آخر أن "الاستخبارات السورية مدعوة"، فيما تفاخرت مديرة الأرشيف بالقول "إننا نعمل مع [قناة] الجزيرة أيضا".
وقال الموظف الكبير إن الفلسطينيين يستخدمون أرشيف الجيش الإسرائيلي أيضا "ونحن نزوّد وثائق تستخدم في دعاوى عرب المناطق [المحتلة]، مثلا إذا كانت هناك حاجة لإثبات أن حدثا ما وقع أو لم يقع".