على هامش المشهد


"تدفيع الثمن" - "تنظيم غير قانوني" لا تنظيم إرهابي

إسرائيل الرسمية، المستوطنون ومحاربة الإرهاب اليهودي

 

 

*حسابات ائتلافية تضع المستوطنين وممثليهم (في الكنيست والحكومة) في رأس المعادلة، وقلق من تضرر صورة إسرائيل دوليا، بالإضافة إلى مواقف "مبدئية" متسامحة، تمخضت عن رسالة واضحة: ثمة اعتبارات ومصالح أكثر أهمية من شن حرب جدية ضد الإرهاب اليهودي!*

بقلم: سليم سلامة

قرر وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعلون، يوم الأول من تموز الجاري، الإعلان عن منظمة "تدفيع (جباية) الثمن" ("تاغ محير") "تنظيما غير قانوني"، وذلك في ختام جلسة خاصة عقدها الوزير لهذا الغرض، بمشاركة ممثلين عن الشرطة الإسرائيلية، "جهاز الأمن العام" (الشاباك)، منسق شؤون الاحتلال في المناطق الفلسطينية وممثلين عن جهات قضائية رسمية. وقد جاء هذا تنفيذا للقرار الذي اتخذه "المجلس الوزاري المقلص" (الكابينيت) يوم 16 حزيران الماضي تخويل وزير الدفاع صلاحية إصدار هذا الإعلان.

وأصدر مكتب وزير الدفاع بيانا إلى الإعلام قال فيه إن مندوبي الشرطة و"الشاباك" قالوا، خلال الجلسة، إن "ممارسات منظمة تدفيع الثمن مماثلة لممارسات منظمات إرهابية حديثة، تستند إلى إلهام أيديولوجي وتشمل أنشطة سرية تهدف إلى ممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية لردعها عن اتخاذ خطوات سياسية وعن اعتماد إجراءات لتطبيق القانون في المناطق" الفلسطينية.

وأوضح مندوبو الشرطة و"الشاباك" أيضا ـ طبقا للبيان المذكور ـ أن الاعتداءات الإرهابية التي تنفذها منظمة "تدفيع الثمن" ضد المواطنين الفلسطينيين، سواء في داخل إسرائيل أو في المناطق الفلسطينية، "ترمي إلى دبّ الخوف في نفوس قادة الدولة وردعهم عن اتخاذ قرارات محددة، فضلا عن أن بعض تلك الأعمال غايتها الانتقام من المواطنين العرب"!

ونقل البيان عن وزير الدفاع، يعلون، قوله خلال الجلسة إن "الحديث يدور هنا على ظاهرة خطيرة جدا تشمل أعمال عنف موجهة ضد مواطنين عرب، دون تمييز، بما في ذلك تخريب ممتلكات وتشكيل خطر حقيقي على حياة الناس، وكل ذلك بغية ثني حكومة إسرائيل عن العمل في اتجاه محدد. إنني أعلن أن هذه المنظمة هي تنظيم غير قانوني، على كل ما يستتبع ذلك ويترتب عليه، من حيث النصوص القانونية وتطبيقاتها تجاه واضعي هذه الأيديولوجيا، مروجيها، مموليها ومنفذيها".

وأضاف يعلون: "من واجبنا التشديد في معاقبة مثيري الشغب هؤلاء، لأن نتائج أعمالهم كارثية"! وقال: "علينا محاربتهم بلا هوادة، بدون أي تسامح وبأقصى الوسائل المتاحة، لأنهم لا يمثلون قيم الدين اليهودي ولا قيم دولة إسرائيل، بل إن مجمل نشاطهم هو الخروج عن القانون". وأعرب يعلون عن أمله في أن "مجرد هذا الإعلان سيمنح الجهات المختصة أدوات عديدة وأكثر جدية لمواجهة هذه الظاهرة المرفوضة".

وللتذكير، فقد كانت الأنباء التي تسربت عن مجريات البحث الذي أجراه الطاقم الوزاري المقلص حول المسألة خلال الأسابيع الأخيرة، أفادت بأن الوزير يعلون كان واحدا ممن دعوا إلى اعتماد منحى أكثر تشددا في التعامل مع تنظيم "تدفيع الثمن" وإعلانه تنظيما إرهابيا. وسانَدَه في ذلك كل من وزيرة العدل، تسيبي ليفني، ووزير الأمن الداخلي، إسحق أهرونوفيتش، ورئيس جهاز "الشاباك"، يورام كوهين. لكن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، هو الذي حسَم الأمر باتجاه عدم إعلان المنظمة "تنظيما إرهابيا"، بل الاكتفاء بإعلانه "تنظيما محظورا" (غير قانوني)، خشية الدخول في مواجهة مع ممثلي اليمين في الحكومة والتسبب بأزمة ائتلافية. والأمر نفسه، أيضا، فعله نتنياهو خلال دورة حكومته السابقة، حين رفض توصية قدمها جهاز "الشاباك" باعتبار هذه المنظمة تنظيما إرهابيا.

نتنياهو ... حسابات ائتلافية و"موقف مبدئي"!

 

منذ العام 1994، لدى الإعلان عن حركة "كاخ" بزعامة الفاشي مئير كهانا "تنظيما إرهابيا"، في أعقاب المجزرة في الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل، لم يتم اعتبار أي تنظيم يهودي في إسرائيل "تنظيما إرهابيا".

وكانت "تدفيع الثمن" قد ظهرت، للمرة الأولى، في مستوطنة "يتسهار" في العام 2008. ثم احتلت عناوين الإعلام في كانون الثاني 2009، حينما أقدم أفرادها على إحراق مسجد قرية ياسوف. وفي أعقاب هذه الجريمة، قام جهاز "الشاباك" باعتقال من اعتبرهم منفذي الجريمة، لكنه "اضطر" إلى الإفراج عنهم بعدما لم تفلح تحقيقاته معهم في انتزاع أي اعتراف من أي منهم. وعلى الرغم من تواصل الاعتداءات العديدة والمتكررة ضد الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية، لاحقا، إلا أن المبادرة إلى اعتبار "تدفيع الثمن" تنظيما إرهابيا لم تظهر، للمرة الأولى، سوى في شهر كانون الثاني 2011، في أعقاب الأحداث التي وقعت في قاعدة للجيش الإسرائيلي عند مدخل مستوطنة كدوميم، حيث اقتحم عشرات المستوطنين القاعدة العسكرية في محاولة لمنع إخلاء وحدات استيطانية في بؤرة استيطانية مجاورة وقاموا، خلال ذلك، بإعطاب عدد من الناقلات العسكرية. وفي أعقاب الضجة الجماهيرية التي أثارها اعتداء المستوطنين هذا، اقترح وزير الأمن الداخلي، إسحق أهرونوفيتش، سوية مع وزير العدل آنذاك، يعقوب نئمان، اتخاذ جملة من الإجراءات ضد هؤلاء، من بينها الإعلان عنهم تنظيما إرهابيا. لكن رئيس الحكومة، نتنياهو، رفض الاقتراح ووأده.

ومع انضمام تسيبي ليفني إلى الحكومة الجديدة وتسلمها حقيبة العدل، وتزامن ذلك مع اتساع وتزايد اعتداءات "تدفيع الثمن"، سواء في المناطق الفلسطينية أو في داخل إسرائيل، عاد طرح الاقتراح على جدول أعمال الحكومة، بتوصية من جهاز "الشاباك" وبدعم من الوزراء موشيه يعلون (الدفاع) وإسحاق أهرونوفيتش (الأمن الداخلي)، إضافة إلى ليفني نفسها. كما علم، أيضا، أن المستشار القانوني للحكومة، يهودا فاينشتاين، "لم ير مانعا من اعتبار أفعال منظمة تدفيع الثمن أعمالا إرهابية".

ورغم ذلك، بقي نتنياهو على موقفه المعارض لهذا الاقتراح، وخاصة على خلفية الضغوطات الشديدة التي مارسها المستوطنون وقياداتهم في الضفة الغربية وممثلوهم في الساحة السياسية ـ الحزبية في إسرائيل، فضلا عن الكنيست والحكومة، وفي مقدمتهم حزب "البيت اليهودي" وأعضاء بارزون في حزبه هو ("الليكود") وآخرون. ولأن الإعلان عن تنظيم ما "تنظيما إرهابيا" بموجب "أمر منع الإرهاب" ينبغي أن يتم، طبقا للقانون، بقرار تتخذه الحكومة، فقد امتنع نتنياهو عن طرح الموضوع على الحكومة للتصويت عليه، تلافيا للأزمة الائتلافية التي كان من المرجح أن تخلقها خطوة كهذه.

وللتعويض عن ذلك، وبغية الاستجابة لمطالبات عديدة، من جهات مختلفة على رأسها "الشاباك" والشرطة وأوساط قضائية رسمية، بـ "تحرك حكومي" ضد منظمة "تدفيع الثمن" وممارساتها الإرهابية، اختار نتنياهو اعتماد بديل "التنظيم غير القانوني"، الذي لا يتطلب سوى قرار من وزير الدفاع، بموجب "أنظمة الطوارئ الانتدابية". ولكن نتنياهو "تولى" الموضوع بطرحه على المجلس الوزاري المقلص لإصدار قرار يخول وزير الدفاع القيام بذلك، رغم عدم لزومه قانونيا، في محاولة منه لاستغلال الأمر وجني ما أمكن من ثماره السياسية ـ الحزبية، خارجيا وداخليا، من خلال الظهور كمن يتحمل "مسؤولية رسمية"، يرفض "تدفيع الثمن" الإرهابية ويسعى إلى محاربتها!

لكن ما نقلته بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عما دار في مداولات المجلس الوزاري المقلص حول الموضوع يلقي ضوءا كاشفا على حقيقة رأي نتيناهو وموقفه المبدئي من "تدفيع الثمن" وممارساتها. فقد نقلت هذه عن أحد الوزراء الذين شاركوا في تلك المداولات (التي وصفت بأنها "سرّيّة"!) أن نتنياهو "علل معارضته الإعلان عن نشطاء تدفيع الثمن تنظيما إرهابيا بالقول إنه لا يجوز مقارنة هذه بمنظمات إرهابية مثل حماس أو الجهاد الإسلامي"!

وأضاف ذلك الوزير إن نتنياهو قال، أيضا، إنه "إذا كان الإعلان عن نشطاء تدفيع الثمن تنظيما إرهابيا خطوة صحيحة من الزاوية الإسرائيلية الداخلية، فإنها ستكون بمثابة خطأ كبير من زاوية المجتمع الدولي"، موضحا أن "إعلانا كهذا من شأنه أن يسبب ضررا جسيما لصورة إسرائيل وسمعتها، وأن يعمق ويعزز حملات نزع الشرعية عنها وأن يشجع أطرافا مختلفة في العالم على المماثلة بين أعمال تدفيع الثمن وبين إطلاق القذائف أو العمليات التفجيرية التي تنفذها حماس ضد أهداف إسرائيلية"!! أما "الضرر الجسيم المحتمل على صورة إسرائيل وسمعتها" فيتمثل في أن إعلانا كهذا سيشكل إقرارا إسرائيليا رسميا بوجود تنظيم إرهابي يهودي ناشط في إسرائيل!

 

بين "المحظور" و"الإرهابي"

بونٌ شاسع!

 

لو ذهب الطاقم الوزاري المقلص إلى تبني رأي يعلون وليفني وأهرونوفيتش وكوهين وقرر الإعلان عن هذه المنظمة تنظيما إرهابيا، لكان أتاح المجال للعمل، الأمني والقضائي، ضده وضد أعضائه على أساس "أمر منع الإرهاب" وبموجبه، مما يعني تخويل الجهات المختصة، أمنيا وقضائيا، صلاحيات واسعة في محاربة هذا التنظيم الإرهابي وأعضائه، بما في ذلك تمكينها من اعتقال هؤلاء لفترات طويلة جدا وإخضاعهم لأوامر اعتقال إداري واتخاذ إجراءات أخرى أكثر صرامة وحدة وتأثيرا ضدهم، فضلا عن تمكين المحاكم من توقيع عقوبة السجن لمدة 20 عاما على كل من يُدان بالنشاط في إطار التنظيم ولمدة خمس سنوات على كل من يدان بالعضوية في التنظيم.

وقد يكون صحيحا، من الناحية النظرية، ما قاله وزير الدفاع يعلون بأن إعلان منظمة "تدفيع الثمن" تنظيما محظوراً (غير قانوني) "سيمنح الجهات المختصة أدوات عديدة وأكثر جدية لمواجهة هذه الظاهرة المرفوضة"، بما فيها تخويل جهاز "الشاباك"، الشرطة والنيابة العامة اعتقال أعضاء هذه المنظمة ونشطائها لفترات زمنية أطول مما يتيحه القانون الجنائي عادة، منعهم من التقاء محامين خلال التحقيق معهم، اعتقالهم حتى انتهاء الإجراءات القضائية بحقهم، الحجز على ممتلكات أو أموال، بما فيها حسابات بنكية، تابعة للتنظيم أو لأي من أعضائه، فضلا عن تخويل المحاكم إنزال عقوبات أكثر شدة بحقهم. وبموجب ما قاله يعلون، فإن هذه الإجراءات ستطال ليس مرتكبي الأعمال العدوانية الإجرامية المباشرين فحسب، بل كل من يبررها أيديولوجيا، يروج لها ويساهم في تمويلها.

لكن إعلان وزير الدفاع هنا يأتي بموجب "أنظمة الطوارئ" الانتدابية (من العام 1945). وهذا يضع الجهات المختصة المناط بها مراقبة ومحاربة هذه العصابات، وفي مقدمتها "الشاباك" والشرطة، أمام معضلات جدية في مجال التطبيق. المعضلة الأولى والأساسية هي التعريف القانوني الذي تضعه المادة 84 من هذه "الأنظمة" لـ "تنظيم ممنوع" (محظور/ غير قانوني)، وهو: "كل مجموعة من الأشخاص، سواء كانوا منظَمين أم لم يكونوا، وأيا يكن اسمها (إن كان لها اسم)، توصي، تحرّض أو تشجع، في دستورها أو في دعايتها، واحدا من الأعمال غير المسموحة التالية....". وهنا تعدّد هذه المادة سلسلة من "الأعمال غير المسموحة" التي "تسعى إلى ضرب دستور إسرائيل أو حكومة إسرائيل بقوة الذراع أو بالعنف، التسبب بكارثة أو تحقير، أو تحريض على الكراهية تجاه حكومة إسرائيل أو أحد وزرائها في مهمته الرسمية، إتلاف ممتلكات تابعة لحكومة إسرائيل، أو المس بها، وتنفيذ أعمال إرهابية موجهة ضد حكومة إسرائيل أو ضد عامليها".

وهنا، ليس من الواضح كيف سيطبق "الشاباك" هذا النص، علما بأن "تدفيع الثمن" هي عبارة عن عصابات لا تمارس اعتداءاتها الإرهابية، أساسا، ضد الحكومة أو ممتلكاتها أو عامليها (قوات الأمن هنا، تحديدا)، بل ضد الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية وداخل إسرائيل، ناهيك عن أن هذه العصابات غير منظمة، لا مكاتب لها، لا حسابات بنكية ولا مقرات ولا "قيادة" معروفة.

أما المعضلة الأخرى فهي ـ كما يقول الخبراء ـ الصعوبة الفائقة التي تعترض مهمة "الشاباك"، تحديدا، في جمع معلومات استخباراتية عن النشطاء وممارساتهم، على خلفية كون الغالبية الساحقة من هؤلاء في سن الـ 20 عاما، بالمتوسط، يتعلمون في المدارس الدينية ذاتها، تربط بينهم علاقات صداقة وزمالة وثقة وثيقة جدا، مما يجعل تجنيد عملاء من بينهم مهمة صعبة للغاية، إن لم تكن مستحيلة، فضلا عن أن اعتراف أي منهم على نشطاء آخرين خلال التحقيقات قد يكون شبه مستحيل.

وقد أكد هذا التقييم، أيضا، النائب السابق لرئيس جهاز "الشاباك"، إسحاق إيلان، الذي تحدث في مؤتمر حول العمل الاستخباراتي عقد في "معهد أبحاث الأمن القومي" في شهر أيار الماضي. فقد تحدث إيلان (أشغل في "الشاباك"، أيضا، رئيس قسم التحقيقات ورئيس "قسم شؤون إسرائيل والأجانب" المسؤول عن محاربة الإرهاب بين اليهود، وأنهى مهامه في الجهاز قبل نحو عام واحد) عن أنشطة الأمن الوقائي الرامية إلى إحباط محاولات تنفيذ عمليات تفجيرية في داخل إسرائيل. وتطرق، في معرض ذلك، إلى "عدم نجاح" جهاز الشاباك في إحباط اعتداءات نشطاء "تدفيع الثمن"، في الضفة الغربية أولا، ثم في داخل إسرائيل أيضا، فقال إن "السبب الرئيس يكمن في التزام نشطاء اليمين الصمت خلال التحقيقات معهم وفي صعوبة تجنيد العملاء بينهم"! واعتبر إيلان إن "الوسائل القضائية المستخدمة ضد هؤلاء النشطاء لا تتلاءم مع الواقع الحالي"!

واعتبر أحد المحللين الإسرائيليين أن قرار المجلس الوزاري المقلص وقرار وزير الدفاع الإعلان عن "تدفيع الثمن" "تنظيما غير قانوني" هو بمثابة "انتصار مدوٍ يسجله بضع عشرات من الشبان، متوسط أعمارهم 18 عاما، على جهاز الأمن العام / الشاباك. فهذا الجهاز القادر على العثور على أحمد الجعبري في غضون الثواني العشر التي انتقل خلالها من مخبأ إلى آخر في غزة المكتظة ثم توجيه صاروخ نحوه، لم يفلح في غضون السنوات الخمس الأخيرة في اجتثاث الوباء الداخلي واضطر إلى مطالبة الحكومة بمزيد من الوسائل الفعالة، لكنها ردته خائبا"!