وثائق وتقارير

ينافس الاعجاب الذي يحظى به أفري ران بين أوساط المستوطنين اليهود في تلال الضفة الغربية، مشاعر الخوف والكراهية الشديدة التي يثيرها في قلوب الجيران الفلسطينيين ونشطاء السلام الذين يقفون إلى جانبهم. ويوافق الطرفان على أن هذا "الكيبوتسي" التائب إلى الله، والذي أقام مزرعة فخمة على قمة التلة الواقعة أقصى شرقي المساحة التابعة لمستوطنة "إيتمار"، هو شخص غير إعتيادي ويعرّفونه على أنه واحد من أبرز الشخصيات في واقع المستمسكات (المناطر) والتلال الآخذ في الازدياد في السنوات الأخيرة.

لن ينسى صحفي إسرائيلي، خرج قبل عدة سنوات في جولة في التلال المرتفعة شرقي مستوطنة "إيتمار"، لقاءَه مع أفري ران: "لقد سحرني هذا الانسان. إنه شخص مذهل. هو لا يثير الانطباع من الناحية الشكلية، نحيف جدًا، لكنه من ذلك النوع من الناس النادرين الذين يرشحون كاريزما في اللحظة التي يفتحون فيها أفواههم. فيه نوع من الطاقة، نوع من القوة التي تزرعك في مكانك، طلاقة وشمولية. وعندما يتحدث عن <أرض إسرائيل> فإنه يصير كالداخل في وضع من الاضطراب النفسي، يرى الواقع بشكل لا نستطيع نحن تخيّله".

ودافيد نير أيضًا لن ينسى أفري ران. وصل نير، وهو دكتور في الفيزياء ومبادر "هاي تك" من تل أبيب، وناشط في "تعايش"، في الأول من شباط هذه السنة إلى قرية يانون في الضفة الغربية ليساهم في المساعدة التي يقدمها أعضاء الحركة لسكان القرية ضد تنكيلات المستوطنين، أو كما يسمونهم سكان المنطقة "الشباب من مزرعة أفري". في يانون التقى نير ناشطي سلام من "حركة التضامن العالمي" (ISM)، ستوشي أيتاكورا من اليابان وكولين كالسيل من إنجلترا. ويقوم أعضاء "حركة التضامن" في نصف السنة الأخيرة بالتواجد في القرية في دوريات، إنطلاقًا من الإيمان بأن مجرد وجودهم يلطّف من عنف المستوطنين، على الرغم من أنهم يقعون هم أنفسهم ضحايا لهذا العنف، في بعض الأحيان. أيتاكورا وكالسيل حدّثا نير عن أنهما صادفا قبل يومين مستوطنين في قمة التلة، عرّوهما من ملابسهما العلوية، بتهديد السلاح، وأضجعوهما على الصخور في المطر والوحل وأطلقوا سراحهما بعد عدة ساعات. وعندما عادا إلى القرية، إكتشف أيتاكورا أن كاميرا غالية كان يحملها بقيت فوق، عند المنحدر.

إقترح نير أن يتسلقوا للبحث عنها. حذره الياباني، والبريطاني والمضيفون الفلسطينيون من سطوة المستوطنين. من يقترب من جدران مزرعة أفري ران، وهم تعلموا ذلك، فإن دمه برأسه. "ممنوع". نير قرر أن ينسق البحث مع الجيش (الاسرائيلي). استجاب الجيش وبعث بسيارة "جيب" من وحدة الأمن التابعة لكتيبة "حواره". وبمرافقة خمسة جنود تسلق نير أعلى التلة وبدأ بمسح المنطقة. خلال دقائق معدودة وصل أفري ران، مصحوبًا بواحد من عمال مزرعته، يسسخار بندر، وكل منهما يحمل بندقية "إم 16". ولم يضيعا الوقت. وبحضور الجنود بدأوا بالركض وراء نير، الذي استطاع أن يسمع قائد الوحدة يصرخ في الجهاز اللاسلكي بأن "هذه المرة الأخيرة التي أقبل بها بمهمة كهذه، أنا لا أريد التورط". وقد حاول نير أن يختبئ من وراء أحد الجنود، ولكن ران كان أسرع منه. وانتهت المطاردة بلقاء بين فوهة بندقية أفري رون وبين وجه نير. ويصف التقرير الطبي بجفاف أنه "نتج شق عميق في جناح الأنف الأيسر وحتى الشفة العليا وتورم في المنخار الأيسر". ونُقل نير إلى مستشفى "أيخيلوف"، وخُيط الجرح تحت تأثير منوم موضعي، بعد أن قدم شكوى في شرطة "أريئيل". وقد تفاجأ حين عرف أن التحقيق انتهى بسرعة. ضمت لائحة الاتهام ضد ران بندين - "جَرح في ظروف مشددة" و"هجوم أدى لضرر حقيقي". وبدأت المحكمة في محكمة الصلح في كفار سابا في 12 آذار. وقد تقررت الجلسة القادمة لبداية حزيران.

وينافس الاعجاب الذي يحظى به أفري ران بين أوساط المستوطنين اليهود في تلال الضفة الغربية، مشاعر الخوف والكراهية الشديدة التي يثيرها في قلوب الجيران الفلسطينيين ونشطاء السلام الذين يقفون إلى جانبهم. يوافق الطرفان على أن هذا "الكيبوتسي" التائب إلى الله، والذي أقام مزرعة فخمة على قمة التلة الواقعة أقصى شرقي المساحة التابعة لمستوطنة "أيتمار"، هو شخص غير إعتيادي ويعرّفونه على أنه واحد من أبرز الشخصيات في واقع المستمسكات (المناطر) والتلال الآخذ في الازدياد في السنوات الأخيرة. "مؤسس رواية المستمسكات"، عرّفه هذا الاسبوع ناشط في "مجلس المستوطنات"، "يحقق بجسده وبنهج حياته العلاقة الثالوثية - الانسان، الأرض، الله". "يهودي جدي جدًا، يتكلم القليل ويفعل الكثير، خلافًا لقادة آخرين"، يطري عليه باروخ مارزل، الذي كاد أن يكون عضو كنيست عن قائمة "حيروت"؛ "هو يعتقد أنه ‘شيريف‘ لكنه يتصرف كما الارهابي"، يقول عبد اللطيف بني جابر، رئيس مجلس يانون، القرية التي شاء حظها العاثر أن تكون في قلب المرج الممتد من تحت مزرعة ران. في أكتوبر السنة الماضية، عندما تحولت تنكيلات ران وجماعته إلى غير محتملة، ترك أهالي القرية بيوتهم، تاركين من ورائهم المسنين فقط رافضين القبول بالقدر السيء. ومن وقتها، عاد عدد من سكان القرية، ولكن من الصعب عدم ملاحظة الرعب المنعكس من عيونهم عندما يُسألون عن "أفري".

"رجل ولا كل الرجال"!

إختيار عبد اللطيف بني جابر للقب "شيريف" ليس صدفةً. فسلسلة التلال شرقي "أيتمار" هي المكان الذي ينتهي فيه الاحتلال المنظم ويبدأ الغرب المجنون، أو، في سبيل الدقة، الشرق المجنون في "أرض إسرائيل". ويُقلل الجيش والشرطة من إبداء حضورهم هنا، ويتركون رجال المستمسكات التي على التلال والقرويين الذين في المروج ليتدبروا فيما بينهم، وهم يتدبرون بالفعل - بحسب أفضل ما في قوانين الغاب. المنظر مذهل: سلسلة جبال تقطعها عدة وديان، وكروم الزيتون، والمساحات الخضراء والثمار المهتزة بهدوء. في الشتاء سويسرا، في الصيف جزيرة يونانية. ولكن من تحت هذه الطبيعة الخلابة يغلي العنف والكراهية، خاصة في السنوات الخمس الأخيرة. ومنذ تشرين الثاني 1998، عندما بدأ أفري ران بإقامة مزرعته، لم تسد هنا إلا القليل من لحظات الهدوء.

وقبل أن يتحول إلى "شيريف" تلال "أيتمار" بكثير، كان أفري ران ولدًا في كيبوتس "نحشوليم". وقد تعلم وكبر في الكيبوتس إلى ما قبل حوالي السنة من خدمته العسكرية، حيث ترك عندها مع أمه وأخيه، الذي تحول إلى رجل "شاباك" فيما بعد. ويذكرون في الكيبوتس ولدًا "نغشًا" ومثيرًا للانطباع من الناحية الشكلية، حبيب البنات. ومنذ أن ترك، إنقطعت العلاقات معه بشكل شبه تام، وربما يعود ذلك لأنه لم يخلف من ورائه عائلة في الكيبوتس. وفد أدى خدمته العسكرية كقائد وحدة في المدرعات (اليوم هو نائب جنرال في الاحتياط)، وبعد تحريره من الجيش سكن في شقة صغيرة في شارع "مكابي" في تل أبيب، بجوار ملعب كرة السلة القديم التابع لفريق "مكابي تل أبيب". وفي تلك السنوات كسب رزقه من مصلحة لانتاج الصنادل والأحذية المساعدة في منطقة رمات غان.

وبعد أن تاب ران وزوجته، شارونا، في الأصل من موشاف "نفيه يريك"، إلى الله، قررا إحداث تغيير دراماتيكي في نهج حياتهما. وقبل التوقيع بقليل على إتفاق أوسلو إنضما إلى مستوطنة "أيتمار" المجاورة لنابلس. في البداية سكنا في المستوطنة نفسها، وهناك أقاما قنًا عضويًا كبيرًا للدجاج. وهذا لم يكن شاذًا عن المألوف. ففي "أيتمار" وجوارها يعيش عدد غير قليل من أعضاء الكيبوتسات السابقين، التائبون، ومن بينهم من اختار نهج حياة زراعيًا ويختصون في الزراعة العضوية. وتشكّل البندورة والخيار التي تنبت من دون تدخل صناعي، على "الأرض المقدسة"، دمجًا ناجحًا بين الصحة والخلق.

ومن أجل تقوية العلاقة مع الأرض، والتقرب من الله في ذات الآن، قرر الزوج ران الانتقال إلى قمة واحدة من التلال المرتفعة شرقي المستوطنة. وقد لاءمت رؤيتهما مطامح التوسع في "أيتمار". وحوّل إتفاق أوسلو "أيتمار"، مثل سائر المستوطنات في منطقة نابلس، إلى مرشحة جدية للترك في موجة الإخلاء الأولى. وقرروا في "أيتمار" مقاومة سوء القدر عن طريق خلق حقائق ميدانية: خلق تتابع من التوسعات باتجاه الشرق، في مطمح للاتصال ذات يوم بمستوطنات غور الأردن، التي أعلنت حكومات إسرائيل أنها لن تتنازل عنها حتى في الاتفاق الدائم. وحقًا، ومن خلال سلسلة خطوات ذكية في منتصف التسعينيات الثاني، وتحت حكومتي "الليكود" و"العمل" من دون إستثناء، ضُمت إلى "أيتمار" تلة وراء تلة، ما أصبح مستطيلا ضيقًا طوله خمسة كيلومترات شرقًا، بحيث حولت هذه التلال "أيتمار" إلى صاحبة مساحة تبلغ حوالي 6000 دونمًا، بحسب الخطة الهيكلية التي صودق عليها في تشرين الثاني 1999. وهناك عدة مئات من العائلات في "أيتمار". ومن أجل المقارنة: تبلغ مساحة مدينة "بات يام" (داخل اسرائيل) 8000 دونم.

وتحدثوا في المستوطنة عن الحاجة للتسلق شرقًا. أفري ران فعل ذلك. ويذكر موسي راز، عضو كنيست عن "ميرتس" في الكنيست الأخيرة، وقبل ذلك السكرتير العام لحركة "السلام الآن"، كيف تعقب بذهول تشكُل موجة الاستيطان الجديدة: "هو أب وأصل المستمسكات. في صيف 1996 عرفت للمرة الأولى عن إقامة مستمسك بالشكل الذي نعرفه اليوم - عدة ‘كرفانات‘ تُنقل سرًا إلى تلة وباص قديم. سمعت عن المستمسك من محقق يعمل في ‘بتسيلم‘، والذي حدثه سكان يانون عنه. فحصت الموضوع عن قرب ورأيت ما كان بحسب رأيي المستمسك غير القانوني الأول. إهتممتُ بأن ينشروا عن ذلك خبرًا في الراديو، وفي نفس اليوم نجحنا في إستصدار أمر بالهدم للمبنى. من المفروغ منه أنه ما زال قائمًا حتى اليوم".

قد يكون أمر الهدم لم يُطبق ربما، لأنه اتضح سريعًا أن هذه التلال هي أصلاً "موقع مقدس لليهود". وحلم واحد من سكان المنطقة، من أتباع برسيلاف، في تلك الليلة أن القاضي غدعون بن يهوآش قُبر على واحدة من التلال. وفورًا بدأوا بتسوية قبر في المكان. واليوم يشكل القبر مزارًا، وهناك من يهتم بإشعال شموع هناك، وحتى أنه مذكور في عدة خرائط. كما منح القاضي التوراتي سلسلة المستمسكات التابعة لـ "أيتمار" إسمًا أيضًا: "غدعونيم أ"، "ب" و"ج". ويُسمى المستمسك الرابع، الذي يبعد 4.5 كيلومترات عن المستوطنة نفسها، "تلال العالم"، وليس صدفة: لأن المنظر المنكشف من هناك لغور الأردن والبحر الميت، يسلب اللبَّ. وقد منحه هذا الاسم الدراماتيكي صاحب البيت، أفري ران.

وتعيل المزرعة عائلة ران باحترام: القنّ العضوي يعمل جيدًا، وإلى جانبه محلب كبير ومتقدم ينتجون فيه أجبان الماعز. ومن حظي بامكانية تذوق هذه المنتجات يروي عنها الأمور الجيدة بحماس. كما أنها تُباع في "حوانيت الطبيعة"، خاصةً في القدس، تحت الإسم "غفعوت عولام" (تلال العالم). وهناك خيول أيضًا في المزرعة وكلاب. وفي موقع الانترنت التابع لـ "أيتمار"، وبعد الضغط على "مرافق ران"، يحصلون على شرح وافٍ عن أفضليات البيضة العضوية من إنتاج "أيتمار": "قُنن الدجاج عندنا واسعة ومبنية من الأخشاب الطبيعية، وتتجول الدجاجات وتلتقط غذاءها، وتضع بيضها في أمكنة وضع مفروشة بالقش وتنام على رفوف نوم عالية، تمامًا كما في بيئتها الطبيعية. ويشمل الغذاء خلطات عضوية، من دون أدوية، ولذلك فإن الدجاجات تكون هادئة وذات منظر صحي، والنتيجة المباشرة - بيضة طازجة، أثقل، قشرتها أكثر صلابة، وبياضها أكثر لزوجة وصفارها أكثر صفرة". كما يقترح المرفق صفقة: "كرتونة من ثلاثين بيضة بسعر منخفض، وتزويد البيض يتم مرة في الأسبوع في مكان سكناك. جمع يومي للبيض بعمل عبري، يقدس السبت. إضغط على الدجاجات لطلب البيض حتى البيت".

قائد الغرباء والمنقطعين الروحي

الزوج ران، في حدود الخمسينيات لعمريهما، ليسا لوحدهما في المزرعة. لهما عشرة أولاد، غالبيتهم، ومن ضمن ذلك البنات المتزوجات، يعيشون معهم. واحدة من بناتهم، ساره، متزوجة من نرياه، إبن غابي وبراخاه بن يتسحاق، اللذين يعيشان منذ سنوات في "كرفان" في "تل روميدا" (حي من أحياء "كريات أربع"، المستوطنة في الخليل- المحرر)، ويُعتبران من نخبة المستوطنين. ومن أجل إسكان العدد الكبير من الأشخاص أقيمت في المزرعة سلسلة كبيرة من المباني، من بينها كنيس. وفي الاتفاق الذي أبرم عندها بين مجلس المستوطنات وبين حكومة براك عُرف "غفعات هعولام" على أنه بلدة مجمدة، ولكن هذا لم يمنعه من التوسع بسرعة. في أكتوبر 1999 كان في المكان عشرة مبانٍ. في أيلول 2000 أصبحت خمسة عشر مبنىً.

وعدا عن أبناء العائلة، يعيش في المزرعة أيضًا "الشبان". غالبيتهم من الشباب، قسم منهم دائمون والقسم الآخر يتبدل، يعملون في المكان ويرون بالأساس في أفري مثالا يحتذى، أبًا روحيًا. ويصل شباب كُثُر، قسم منهم معدودون على من اطلق عليهم في السنوات الأخيرة اسم "شبيبة التلال"، إلى المزرعة، من كل أنحاء البلاد. ويوضح شخص من "أيتمار" قوة الجذب: "فهو يثير إنطباع الجميع بسبب جذريته، وصدقه، وهو مزارع ممتاز يعتاش باحترام من أرضه ولا يحصل على قرش من أية مؤسسة. وهو يعتمد على نفسه وعلى رجاله فقط. وهو غيور جدًا، ويصل إليه أيضًا أشخاص غريبون، منقطعون، ألقي بهم من عدة أماكن ووجدوا ملجأً من المؤسسة والأهل وليس لديهم راعٍ روحي. وعندما يصلون إليه فإنهم يصبحون تحت إمرته".

"لديه في التلال هالة أسطورية"، يقول شخص آخر، "الوضع هناك يشبه ‘أشرام‘ إلى حد ما، وهو الـ ‘غورو‘ خاصتهم". ويصف باروخ مرزال العلاقات بين ران وعماله كرسالة إجتماعية: "هو والد أهل التلال، يهتم ويعنى بهم. وهو مضياف، ولديه قلب كبير وواسع. وهو يعنى بأناس معدومي البيوت، يقربهم منه ويقويهم".

وكان واحد من الشبان الباحثين عن طريق، والذين وصلوا للعمل في "غفعوت عولام" هو غور هامل، الخارج من الكيبوتس المتدين "ساعد". وفي واحد من أيام أكتوبر 1998، زار هامل "أيتمار" عند أخته، كاماه، وبعد ذلك خرج ليتمشى، وعلى ظهره حقيبة، باتجاه مزرعة أفري ران. وقد التقى في طريقه مسنًا فلسطينيًا في الـ 77 من عمره، محمد سليمان الزلموط، من القرية المجاورة بيت فوريك. ولسبب غير واضح، حطم هامل جمجمة زلموط بحجر. وفي نفس الليلة وزعت سكرتارية "ايتمار" ورقة معلومات للساكنين: "نحن نستنكر بالاجماع هذا العمل الاجرامي". وشددت السكرتاريا أيضًا على أنه "ليس واحدًا منا".

دينامو يشغل من حوله

التقى موسي راز أفري ران، وجهًا لوجه، لمرة واحدة فقط، ولكنه يذكر هذا اللقاء جيدًا. في مطلع صيف 1999، أيام أوسلو وحكومة براك، خرج راز في "جولة مستمسكات" مع ديدي ريمز، رئيس طاقم تعقب المستوطنات في "السلام الآن" آنذاك، وميخال كفرا، صحفية من "معريف". وخلال الجولة وصل الثلاثة إلى "غفعوت عولام". وقد أستقبلوا بأذرع مفتوحة. وكانت شارونا ران والعمال واثقين من أن الحديث عن متنزهين قدموا للاستمتاع بمناظر الأرض المقدسة، ليتقوّوا وليقوّوا. وقد دعي الضيوف إلى عريشة الضيافة، وشربوا القهوة. وهم يتذكرون عريشة عظيمة، مسقوفة بالقماش، وطاولة طويلة، وسجاجيد صغيرة على الطراز الفارسي، وكراسٍ وكنبات كاشحة، ومجموعة من أبناء الشبيبة في أجيال 16- 17 وجو من الحياة الجماعية. وفي نفس نهاية الأسبوع وصفت كافرا الأمور باقتصاب في "معريف". "شبان صغار، طويلو الشعر، في لباس مهمل، يشبهون جدًا، على الرغم من ‘القبب‘ و‘الشراريب‘، إخوتهم العلمانيين المهملين لمناظرهم الخارجية، ناهيك عن أن رائحة سيجارة من الماريحوانا كانت تدغدغ المنخارين".

سألت كافرا المضيفين إذا لم يكونوا مهتمين بمعرفة من أين قدموا. وسألها أحدهم "أنتم يهود؟" وبعد ان ردت بالأيجاب، قال "فإذًا إجلسوا قبل كل شيء واشربوا القهوة". لكن كافرا أصرّت، وعرفت نفسها على أنها من تل أبيب تعمل في "معريف". وخلال ثانية تغير التعامل من النقيض إلى النقيض، وطردتهم شارونا ران من المزرعة بالصراخ: "صحفيون؟ الآن انصرفوا من هنا، الآن". في طريقهم إلى الخارج التقوا بأفري ران، الذي وصل للتو. وهو أيضًا أوضح لهم بأن تواجد الصحفيين في المكان غير مرغوب به، ولكنه استغل الفرصة لكي يسمعهم مواعظ من التوراة لدقائق طويلة. ووصفت كافرا اللقاء في "معريف": "نحن ننظر إليه وهو ينظر إلينا. توقف. لحظة من التوتر. من حولنا تجمع الشبان. ‘طردونا‘ قلت له. لديه نظرة ثاقبة، داخلة. وعندها فتح فمه. نغمة أحادية تقريبًا، هادئة لأول وهلة، والعينان لا تريحان. ثم أوضح لنا بلغته الطلقة كيف أدى الاعلام إلى تحول شعب إسرائيل إلى أنذل الشعوب، لأنه الشعب الوحيد الذي خان أرضه. وكلماته، التي يصعب إستعادتها، تنطلق مثل الرشاش. أنتم، قال، أنتم كنتم على إستعداد لمنح هتلر، لو كان حيًا، جائزة نوبل للسلام. وحبه الكبير للأرض المقدسة، لهذه الأرض الالهية، يختلط مع حقده على العرب والفلسطينيين، الأنذال بصورة خاصة، وعلى عرفات، والصحفيين، المذنبين بذنب الخيانة الأكبر على الاطلاق".

وآخرون ممن التقوا ران في السنوات الأخيرة، يوافقون على الانطباع القوي الذي يبثه. ويتذكر مراسل للمناطق المحتلة، وصل في إطار جولة للمزرعة في أيامها الأولى: "أنت تستوعب رأسًا أنه ليس إنسانًا عاديًا. فيه نوع من التطرف المكبوت، وهو يتحدث بهدوء ولكن هدوءه هذا بالذات هو الذي يشي بالتطرف الكبير. اقترحت عليه مقابلة لكنه رفض بإصرار، وتفاجأت عندما تحدث بإلمام كبير عما يُقال ويحدث في الاعلام، خاصةً في الراديو. وقد أعطاني عدة أمثلة، ولمع إسم شيلي يحيموفتش هناك. وشدد طيلة الوقت على أن أفضليته تنبع من ‘أنني كنت في السابق حيث أنتم الآن‘".

"عندما تضغط على يده، فإن يدك تتفكك"، يقول صحفي آخر زار المزرعة عدة مرات، ولكن طلب منه دائمًا أن يبقي الدفتر والكاميرا في السيارة. "يد خشنة، لإنسان لا يتوقف للحظة عن العمل الجسماني. يلبس جزمة من المطاط، يحمل طورية، صلب مثل حجر الصوان. وهو ينظر إليك ويدخل حتى خلاياك الأكثر عمقًا، يلزمك بالنظر إليه. لا يمكن التحدث معه لخمس دقائق من دون قبول أيديولوجيا أرض إسرائيل وتوطين أرض إسرائيل، وهذا يخرجك عن طورك. الشبان الذين ينضمون إليه يأتون خانعين، ويودون الاستماع إليه، وهو يمدهم بالنشاط والهمة. فهو ما يشبه الدينامو الذي يشغل كل من حوله. وقد فهم هؤلاء الشبان أنهم لو رغبوا في البقاء على هذه الأرض، فإن عليهم أن يتبنوا طريقة الصمود الفلسطيني، ولذلك تطور في السنوات الأخيرة تيار قطعان المواشي والزيتون. كلهم متصلون بالأرض، وكلهم مستعدون للقتل من أجلها".

معاداة الإعلام هي كما ذكر موتيف متكرر في منظومة عالم ران. هناك من يدعي أن حتى ‘القناة 7‘ منبوذة عنده. "رفضه وحقده على الاعلام صَلبان جدًا، لا يمكن إحداث شرخ في ذلك"، يقول صحفي حاول إقناعه بإجراء مقابلة عدة مرات. "من جهة ثانية، فإنه يستغل كل فرصة ليلقي بمحاضرة بلهفة كبيرة عن منظومته، الأمر الذي يدل على أن له حاجة في التعبير، في الاتصال. وهو مغازل، له سحر يسري على الناس وهو يعرف كيف يستغله، ولكنه لا ينسى القول مرة بعد مرة أننا "تشكوريت" (كلمة إخترعها اليمين الاسرائيلي لوصف الاعلام الاسرائيلي المتهم باليسارية، وتعني الأكاذيب- المحرر)، ومخادعون، ومنشغلون بالتفاهات طيلة اليوم".

وشخص يعمل في مجلس "شومرون" المحلي يروي أنه من رمة إلى أخرى، يخطر أفكار لإستغلال كاريزما ران لأغراض إعلامية، لكن هذه المبادرات تلقى معارضةً قاطعة. "أردنا حتى أن ننظم له تقرير علاقات عامة لأجبانه في برنامج للطعام، لكنه رفض ذلك بشدة أيضًا".

ذعر الفلسطينيين

عدا عن الصحفيين، هناك مجموعة أخرى من الناس غير مرغوبين في مزرعة ران: العرب. ويروي بمفارقة عن العلاقات بين ران والجيران الفلسطينيين، واحد من سكان "أيتمار": "هم يحترمونه جدًا، وهذا من باب عدم المبالغة". وبعد صمت قصير يضيف: "ولديهم سبب جيد لذلك".

يانون هي قرية صغيرة جدًا. تسكن فيها حوالي 150 عائلة، غالبيتها تعيش في المكان منذ مئات السنين، وتكسب رزقها المتواضع من كروم الزيتون وحقول الحنطة التي تمتلكها. القرية تقع في منطقة C، الخاضعة للسيطرة الاسرائيلية الكاملة، ولكن في السنوات الأولى من بعد إتفاق أوسلو، لم تصل التغييرات السياسية هذا المرج الهادئ، المتصل مع العالم عن طريق شارع ترابي مشوش. الهدوء انتهى في اليوم الذي بدأت فيه "أيتمار" بالتوسع شرقًا. في السنوات السبع الأخيرة يدفع سكان يانون ثمنًا باهظًا على الخطيئة الأصلية: هم عالقون كالشوكة في قلب مسار توسع المستوطنين.

عبد اللطيف بني جابر، في الثامنة والأربعين، هو رئيس مجلس يانون. وهو العنوان في القرية، التي يؤلف المسنون والأطفال والنساء غالبية سكانها، العنوان شبه الوحيد لكل الضائقات. وهو يتجول مع دفتر بني كبير مغلف بطبقة كثيفة من ورق "السيلوتايب"، وعن طرق هذا الدفتر يدير تسجيلا دقيقًا لكل الحوادث الغريبة التي تمرّ بها القرية. في السنوات الأخيرة أخذ الدفتر يمتلئ بوتيرة مقلقة.

وقد بدأ التغيير، يقول، في 1996، قبل أن يُرى أفري في المنطقة. وقد ميّز سكان القرية الحركة على التلال المحيطة. هنا وهناك تراكتور يسوي الأرض، حضور متزايد للمستوطنين في المنطقة. وفجأة صار من الخطر التوغل في الحقول، وتحولت التلال إلى مناطق ممنوعة. ومن قام بالاخلال بالقواعد دفع غاليًا، مثل ذلك المسن الذي ابتعد في أحد الأيام عن حدود قريته وعاد إلى القرية مضروبًا ومدميًا. في أحد صباحات نهاية 1997 استيقظ سكان القرية على أًصوات تراكتورات كانت "تحلق" حقول الحنطة وكروم الزيتون عند مشارف القرية. وبعد قليل من ذلك نُصبت في المكان خيم. وكان واضحًا أنهم أتوا ليبقوا.

في العام 1988 التقى بني جابر أفري ران لأول مرة. فقد ذهب ليشتكي في دائرة الارتباط، المرحومة، على أن ران يبني مزرعة على أراضي يانون. وقالوا له في القيادة إن كل شيء مرخص وإن ران يريد السكن بهدوء على الجبل. وبدلا من الهدوء، جاءت العاصفة الكبيرة: الشكوى جعلت رجال المزرعة، يقول بني جابر، يردون بعصبية. وبدأت عروض من إطلاق النار في الهواء، وحملات تخويف، ومنع الوصول إلى بئر المياه، وكل ذلك تحت حماية الشرق الأوسط الجديد الناتج عن أوسلو.

وأخذت الدائرة تضيق. وبدأت رؤوس التلال حول يانون بالامتلاء بأبراج الحراسة، والكرافانات والمباني الثابتة والجدران. "أخرجوا في الليل إلى شوارع يانون. القرية الصغيرة معتمة، المنظر طبيعي"، كتب قبل خمسة أشهر المؤرخ غادي الغازي، في مقال نُشر في "هآرتس". "ولكن حتى في القرية نفسها، فإن ساكنيها ليسوا وحدهم: من على التلة المقابلة تبدو أبراج الحراسة التي أقامها المستوطنون، ومن على التلة المقابلة في الجهة الأخرى يمكن رؤية الكرفانات والسيارات. في وطنهم، يُحاصر أهالي يانون، مثل محمية طبيعية أيامها معدودة".

ولكن حتى داخل المحمية لم يكن لدى سكان يانون الأمان. فقد تزايدت وتيرة الأحداث، وأخذت الحروف في دفتر عبد اللطيف بني جابر بالاكتظاظ. هناك المضايقات الصغيرة، نسبيًا: رحلات السبت التي ينظمها المستوطنون في شوارع القرية، مع أسلحتهم، وأطفالهم وكلابهم، وأحيانًا يطلبون من ساكني المكان أن يبقوا في بيوتهم، فيما يستمتعون هم بالمنظر. وقد تحولت هذه النزهات إلى عادة، إلى درجة أن أطفال القرية درجوا على سؤال أهلهم في الصباح بخوف، ما إذا كان "اليوم السبت". وحتى في باقي ايام الأسبوع يحظى سكان يانون بزيارات من مستوطن عابر، واحد من شبان "غفعوت عولام" على الأغلب، يقطع القرية على تراكتور صغير أو على حصان. ويجري المستوطنون في الليل أحيانًا مسيرات تخويف على أسطح البيوت. وتُضاء القرية في الليل، وبشكل ثابت، بواسطة حزمة ضوء خارجة من أبراج الحراسة وتتنقل بين البيوت. وحتى فيرجين واتشر، متطوعة من منظمة تضامن فرنسية، والتي وصلت إلى هنا قبل أيام معدودة فقط، باتت موقنة بأن هناك من يراقبها طيلة الوقت. وخلال محادثتنا تطلب ألا نشير صوب مبنى للمستوطنين أو ذاك، لأن أحدهم "قد يدفع مقابل ذلك".

الفارق بين المضايقات وبين العنف الحقيقي إجتيز بسرعة. ففي أيار 2001 ورد في تقرير "بتسيلم" عن حادثة صعبة أمسكت فيها مجموعة كبيرة من "غفعوت عولام"، في الحقل، خمسة من سكان يانون وهم يحرثون قطعة الأرض التابعة لعائلتهم. وقد مر الفلسطينيون على بعد 300 متر من جدار المزرعة. وبعد وقت قصير وصلت بعدهم إلى المكان سيارتا "جيب" مدنيتان فيهما 12 مستوطنًا مسلحًا. وقد أدلى غسان خضر سليمان، في الخامسة والثلاثين، الأكبر بين الفلسطينيين الذين كانوا في تلك الحادثة، لمحقق "بتسيلم"، بالشهادة التالية:

"رأوا أننا كنا ننوي الذهاب وبدأ ثلاثة منهم بإطلاق النار صوبنا وصوب قطيع الماعز. اختبأنا خلف الصخور التي في المكان وبدأنا بالابتعاد زحفًا إلى الوراء. وفجأة رأيت خمسة مستوطنين يركضون صوبنا من الاتجاه المعاكس. ونجح هؤلاء الخمسة في القبض عليّ. تعرفت على واحد منهم، رجل إسمه أفري، في حوالي الخمسين من عمره. ووجه أفري سلاحه إلى رأسي وطلب مني أن أذهب معه إلى المستوطنة. أوضحت له أننا لم نفعل شيئًا ونحن في النهاية نرعى ماشيتنا. فضربني على رأسي بعقب المسدس الذي معه وطلب مني أن أذهب معه. قلت له إنني لن أذهب إلى المستوطنة حتى لو أطلق النار عليّ. فأمر أفري أربعة من المستوطنين الآخرين بإطلاق النار علينا ما إذا واصلت رفضي الذهاب معه إلى المستوطنة. قاموا برسم دائرة من حولنا وبدأوا بإطلاق النار من بنادقهم باتجاه الأرض، قريبًا من أرجلنا. وبدأنا بالبكاء والصراخ على الرغم من أننا لم نُصب من النار. وقررت أن نذهب معهم.

"أخذونا الخمسة في طابور. سرت في نهاية الطابور وأمسكني أفري طيلة الوقت من شعري ومسدسه موجه إلى رأسي. سرنا حوالي 300 متر إلى أن وصلنا إلى الجدار. أمرونا بالاضطجاع على الأرض ووجوهنا إلى الأسفل. استلقى الشباب الأربعة وأنا رفضت، لأنني خفت أن يطلقوا علينا النار ونحن على الارض. وبدأوا برفسي وضربي بأعقاب الأسلحة التي معهم. بكيت وتوسلت أمام أفري أن يتركنا، لكن توسلاتي لم تساعد.

"في مرحلة معينة لاحظت أن أفري يضع المسدس خلف ظهره، ابتعد حوالي ثلاثة أمتار، أخذ حجرًا كبيرًا يزيد وزنه عن العشرين كيلو وبدأ بالتقدم نحوي. قمت مذعورًا وألقى بالحجر على الأرض وبدأ بالشتم. نادى باقي المستوطنين وبدأوا بضربي في كل جسمي. أغلب الضربات كانت في صدري، في وجهي وفي خصيتي.

بدأت دماء كثيرة بالنزف من وجهي، وبدأ جسمي بالاحتقان. شعرت بالدوخان وعندها رأيت وصول "جيب" آخر. نزل من "الجيب" مستوطن وبيده عصا طويلة. ضربني المستوطن بالعصا بينما ضحك باقي المستوطنين بصوت عالٍ. قمت مذعورًا، دفعت المستوطن الذي أمسك بالعصا، وبدأت بالركض. لا أعرف من أين استمديت القوة. فقام أفري، الذي كان يقف جانبًا ونظر إليهم يضربوننا، بإمساك مسدسه وأطلق صوبي النار وأنا على بعد حوالي المترين منه. تخيلت أنهم سيحاولون إطلاق النار عليّ، ولكنني فضلت الموت هكذا على الموت تعذيبًا. لم أشعر بأنني أصبت واستمريت في الهرب".

في طريق هربه التقى سليمان برعاة فلسطينيين، نجح بمساعدتهم في الوصول إلى محطة الشرطة الفلسطينية في عقربة. توجه الفلسطينيون إلى شرطة إسرائيل، التي قامت بإرسال شرطيين إلى مكان الحادثة واهتمت باطلاق سراح أقرباء سليمان من أيدي المستوطنين. وهو نفسه نقل إلى مستشفى رفيديا في نابلس، وأخرجت الطلقة من رجله اليسرى، في عملية جراحية.

"دافيد الملك يتلقي روبين هود"

في اللقاءات القليلة بين بني جابر وبين أفري ران، حيث يقوم أخ رئيس المجلس الشاب بالترجمة إلى العبرية، اهتم ران بتوضيح قواعد اللعبة الجديدة: أنا حاكم المكان، أنا أقرر القواعد. إنسَ الجيش، إنسَ الشرطة، أنا من يقرر هنا. هذه الأرض هي أرضي، وأنا في الواقع أصنع معكم معروفًا عندما أسمح لكم بفلاحتها. ولهذا، أوضح، ممنوع على رجال القرية أن يقوموا بأية خطوة، ولو أصغرها، من دون الحصول على أذنه. قال، وفعل: بعد وقت قليل من تركيب وكالة الأمم المتحدة للتطوير، لمولد كهربائي في القرية، والذي زوّد البيوت بالكهرباء ودفع المياه صوب الأعلى، استيقظ بني جابر لصلاة الفجر ورأى أن المولد الكهربائي يشتعل. بعد عدة أيام من ذلك، يروي بني جابر، أوضح له ران أن رجاله هم الذين قاموا بذلك، وأنه بعث بهم لأن المولد رُكب من دون طلب إذن منه. كما قام المستوطنون بدحرجة صهاريج المياه السوداء من رأس التلة، لكي يرى الجميع ما يمكنهم القيام به.

في واحد من أيام السبت رأى بني جابر عدة مستوطنين يسبحون في نبع القرية. ولم يكن الحديث عن متعة خالصة: من أجل الغطس في النبع يجب رفع الغطاء والنزول على سلم مضعضع إلى داخل البئر. وقد استحم المستوطنون بملابسهم. وعندما طلب بني جابر منهم الخروج من هناك لأنهم يلوثون مياه الشرب للقرية، فإنهم أنزلوا كلابهم إلى المياه كردٍ، وأخبروه بأنه سيدفع غاليًا على وقاحته. وفي يوم السبت التالي، عندما وصلوا إلى النزهة المعهودة، طلبوا منه الدخول إلى بيته. فرفض. وانتهت الحادثة بأن أمسك به ثلاثة من المستوطنين وضربه أحدهم بعقب البندقية على رقبته. وما زال أثر الضربة باديًا جيدًا.

وعشية موسم الزيتون، في الخريف الأخير، زاد التوتر في يانون، كما في أماكن أخرى كثيرة في المناطق المحتلة. فقد كان كل خروج إلى الكروم منوطًا بخطر إلتقاء المستوطنين. وانتهى واحد من هذه اللقاءات، في السادس من أكتوبر، بموت هاني بني منية. فقد خرج إلى قطف الزيتون مع عدة من أبناء عائلته، وظهر عدة مستوطنين مسلحين من بعد وأطلقوا النار، فخرّ الشاب الفلسطيني صريعًا.

بعد ذلك بقليل بدأ سكان القرية بترك بيوتهم. لم يعد بمقدور الأطفال بعد أن يتحملوا الذعر، وكان طلاب الثانويات من بينهم معرضين لخطر الضرب الدائم في مشيهم على الشارع الترابي باتجاه المدرسة الموجودة في عقربة، على بعد ثلاثة كيلومترات. وانتقل غالبية سكان يانون للنوم عند أقارب لهم في عقربة. وقد أدت هذه الخطوة الدراماتيكية إلى تجند سريع من أعضاء "تعايش" ومن ناشطي "حركة التضامن العالمية". وبدأوا بإظهار حضور دائم في القرية، وفي أعقابهم وصل الاعلام، وخاصة الأجنبي. قلل المستوطنون من أعمالهم، وعاد قسم من سكان القرية. وتحول العنف الذي كان موجهًا ضدهم من قبل، إلى ناشطي السلام من الخارج ومن البلاد. في السابع والعشرين من أكتوبر هاجم عشرة مستوطنين مسلحين مجموعة من ناشطي السلام والفلسطينيين الذين كانوا يقطفون الزيتون؛ وفي الأشهر التالية سُجلت سلسلة من الحوادث العنيفة الأخرى. وكان آخر الضحايا، حتى الآن، ستوشي أيتاكورا، كولين كلاسيل ودافيد نير.

على ما يبدو، فإن صحفيًا إسرائيليًا واحدًا نجح حتى اليوم في إقناع أفري ران بإجراء مقابلة معه. كان هذا نيتسان حين، الذي أعدّ في العام 1955 تقريرًا لبرنامج خاص في القناة الأولى، خُصص لوضع المستوطنين في أعقاب إتفاقات أوسلو. جلس حين مع ران في مزرعته. "كان مذهلا، كان من الصعب جدًا عليّ أن أقطع أقواله عند التحرير"، يتذكر. "عاش عندها كما في القرن الـ 18، وبدت مزرعته مثل مزرعة من قبل 200 سنة. في البداية كان هو، ثم "حفات معون"، وبعد ذلك قلدهما الجميع. وبدا لي عندها كدمج بين دافيد الملك وروبين هود".

يمكن رؤية ران في التقرير، يلبس قميص عمل أزرق و"قبة" خضراء كبيرة على رأسه، ينظر إلى الكاميرا مباشرةً، يزرع فيها عينين فولاذيتين ويستعرض منظومته: "كل بيضة أجمعها وكل دجاجة أعتني بها وكل حيوان أو نبات في الساحة، كلها جزء من عهدي مع أرض إسرائيل وتوراة إسرائيل. وإذا أخلى الجيش الاسرائيلي نابلس فإن هذا سيقوينا، سيزيدنا ثباتًا، وبالتأكيد بالتأكيد لن يضعف من عزيمتنا. ما يجعلني أشعر بالأمان الأكبر هو النساء اللواتي تقدن على الطرقات والأطفال الذين يسافرون على الطرقات، لأنهم الجنود الحقيقيون هنا في الميدان. ولو كان طرومبلدور سيقول الآن ‘ما أجمل الموت من أجل الوطن‘، لكان سيُلقى به إلى الحبس الاداري. هذه الأرض هي نفسي وجسدي، وهي وجودي، وأنا أتنفس هذا الهواء من فوق وأرضع الأرض من تحت بنفس القدر. هل سأضحي بحياتي من أجل هذا المكان؟ نعم، ببساطة نعم، أنا سأضحي بحياتي من أجل هذا المكان وحتى أنني مستعد للمخاطرة بحياة المقربين مني من أجل هذا المكان. نعم، بالتأكيد. لأن هذا المكان قد يستدعي الضحايا".

ردّ أفري ران، بواسطة محاميه، شاشي غاز، بالسلب، على طلب إجراء مقابلة لهذا التقرير، أو الرد على ما ورد فيها.

(افيف لافي، "هآرتس"، 11/4/2003، ترجمة: "مـدار")