إجراءات تقشفية وتكاثر مؤشرات التباطؤ الاقتصادي

وثائق وتقارير

 

بقلم: أنطوان شلحت

يُعدّ "مؤشر الديمقراطية الاسرائيلية-3002" أول بحث إسرائيلي من نوعه في توصيف ماهية هذه الديمقراطية وأدائها على أكثر من مستوى. والأمر المثير فيه يظل من نصيب النتائج الصافية، التي يتوصل إليها في هذا الشأن. أولى هذه النتائج، وربما تكون أكثرها أهمية، أن إسرائيل في الجوهر هي "ديمقراطية شكلية، لم تفلح بعد في أن تكيّف لنفسها مميزات الديمقراطية الجوهرية"، على حدّ ما جاء في البحث.

وحسبما سيلاحظ القارئ فان بحث "مؤشر الديمقراطية" يتناول ثلاثة جوانب يشمل كل منها مجموعة من الخصائص المهمة الملازمة للنظام الديمقراطي، وهي الجانب المؤسساتي وجانب الحقوق وجانب الاستقرار. وهو يخضعها للفحص والتمحيص بموجب أكثر من مؤشر، بحيث يشمل البحث في نهاية مطافه 13 مؤشراً حول وضع الديمقراطية الإسرائيلية.

 

بخصوص جانب الحقوق يشير البحث إلى أن وضع إسرائيل "مثير للقلق"، سواء لدى مقارنته مع الدول الديمقراطية الأخرى المشمولة في البحث أو لدى تعقّب خطاه داخل إسرائيل نفسها على مرّ السنوات. وتقريباً في جميع المؤشرات جاء تدريج إسرائيل، من ناحية هذا الجانب، في النصف السفلي من اللائحة. ومثل هذا التدريج هو من مستحقات المستوى المنخفض جداً لحماية حقوق الإنسان، بما فيها حقوق الإنسان الفلسطيني في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة (في هذا الموضوع تحتل إسرائيل المكان الأخير سوية مع جنوب أفريقيا والهند)، وأيضاً من مستحقات وجود تمييز سياسي وإقتصادي (عنصري) شديد للغاية حيال الأقلية العربية الفلسطينية، وكون حرية الصحافة متدنية، أقرب إلى الحدّ الذي قد يدفع بإسرائيل نحو تعريفها بأنها "دولة شبه حرّة". فضلا عن أن حرية الدين فيها أقل بكثير مما هي في ديمقراطيات أخرى، بينما نسبة إنعدام المساواة الإقتصادية-الاجتماعية فيها هي من أعلى النسب في الدول المعدودة على الديمقراطيات في العالم أجمع.

بناء على ذلك يؤكد معدو البحث أنه لدى مقاربة التطورات داخل إسرائيل خلال العقد الأخير فإن عدة مؤشرات قد سجلت تدهوراً ملحوظاً في وضع الديمقراطية الاسرائيلية، بينما في مؤشرات أخرى لم يطرأ أي تحسن يذكر على هذا الوضع. وهكذا، على سبيل المثال، ثمة تراجع في نسبة المشاركة في الإنتخابات ونطاق الفساد آخذ في الإتساع وحرية الصحافة تتدهور ونسبة السجناء في الدولة ترتفع باطراد وعدم المساواة في توزيع المداخيل يتفاقم.

القسم الثاني من هذا البحث يتمثل في إستطلاع الديمقراطية، ويخضع للفحص مسائل تجذّر الثقافة الديمقراطية والتكتل الإجتماعي ومفاهيم الجمهور حيال وضع الديمقراطية الإسرائيلية. وهنا أيضاً تشير نتائج الإستطلاع إلى حصول تدهور كبير، خلال السنوات الأخيرة، في نسبة تأييد جمهور اليهود في إسرائيل للمعايير الديمقراطية على المستويات كافة، ومنها التأييد العام للطريقة الديمقراطية وتأييد قيم ديمقراطية مخصوصة وتأييد المساواة في الحقوق للأقلية العربية.

ولتجسيد هذا التدهور يكفي أن نشير إلى ما يلي:

(ü) سجّل الإستطلاع نسبة التأييد الأكثر إنخفاضاً خلال السنوات العشرين الأخيرة للمقولة الذاهبة إلى أن الديمقراطية هي الشكل الأفضل لنظام الحكم.

(ü) نسبة التأييد في إسرائيل عموماً للمقولة الذاهبة إلى أن النظام الديمقراطي هو أمر مرغوب به، هي الأكثر إنخفاضاً من بين 23 دولة ديمقراطية أخرى (مثل هذه النسبة موجودة فقط في بولندا).

(ü) تندرج إسرائيل في عداد الدول الأربع الوحيدة من بين الدول الديمقراطية (سوية مع المكسيك والهند ورومانيا)، التي تعتقد غالبية الجمهور فيها أن "في مقدرة زعماء أقوياء أن يجلبوا منفعة للدولة أكثر من جميع الأبحاث والقوانين".

(ü) أكثر من نصف اليهود في إسرائيل (35 بالمئة) يقولون على رؤوس الأشهاد إنهم يعارضون مساواة كاملة في الحقوق للمواطنين العرب. من ناحية أخرى يعتقد 77 بالمئة منهم أنه ينبغي أن تتوفر أكثرية يهودية لاتخاذ قرارات مصيرية للدولة. وأقل من ثلثهم (13 بالمئة) يؤيدون ضم أحزاب عربية إلى الحكومة وأكثريتهم (75 بالمئة) تعتقد بأنه ينبغي تشجيع هجرة العرب. علاوة على ذلك فان نصف اليهود في إسرائيل لا يقرون أن المساواة غير قائمة في التطبيق، ونسبة 94 بالمئة منهم لا توافق على أن العرب في إسرائيل يعانون التمييز والاجحاف مقارنةً مع اليهود.

أثار هذا البحث منذ نشرة نقاشاً في إسرائيل، وبصورة خاصة حول متضمناته التي تشفّ عن تعزز الميول المعادية للديمقراطية والميول العنصرية في الشارع الاسرائيلي. والمقالات المرفقة هنا توضح بعض جوانب هذا النقاش. مع ذلك فلا بُدَّ من الإشارة إلى ما يلي:

1- لا معنى للحديث عن "تآكل الديمقراطية في إسرائيل"، بموجب قراءة هذا المؤشر، دون التطرق إلى جوهر هذه الديمقراطية في التطبيق العملي، وأكثر من ذلك دون التطرق إلى مسألة استبطان القيم الديمقراطية الحقيقية من طرف الإسرائيليين أنفسهم، والذي يؤكد إستطلاع الديمقراطية كونه (الاستبطان) شائهاً ومنقوصاً. ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، الحديث فيها يستجرّ حتماً حديثاً عن العثرات التي تقف حائلاً، كسدّ منيع، دون هذا الاستبطان. وهي تبقى عثرات إسرائيلية مخصوصة، من أبرزها طبيعة اليسار الاسرائيلي ذاته.

2- لا شكّ أن الاحتلال الاسرائيلي للمناطق الفلسطينية والعربية منذ حزيران (يونيو) 7691 مثل عاملاً مهماً ومستودعاً كبيراً لتعزيز الميول المعادية للديمقراطية وميول أخرى فاشية وعنصرية في المجتمع الاسرائيلي، غير أن هذه الميول لم تكن مفتقرة إلى ما يغذيها و"يتعهدها بالرعاية" في الممارسة الاسرائيلية (الصهيونية) ما قبل هذا الاحتلال، مع مراعاة أن هذه الممارسة هي التي جاءت بالاحتلال.

3-إن أبحاثاً مثل "مؤشر الديمقراطية" هي أدوات معرفية مهمة في تشخيص الواقع الاسرائيلي وتحليل بُناه، ولكنها تظل تمارس دورها في حدود الذهن، أما مقدرتها على التأثير في هذا الواقع، الذي لا ينفك أولاً ودائماً محاصراً بجميع العوامل والأسباب التي تدفع نحو المزيد من التطرف العنصري والفشستة، فانها لا توازي أكثر من ملامسة صخرة صمَّاء.

ولغاية توسيع الصورة العامة المرتسمة من هذا البحث حول وضع الديمقراطية الاسرائيلية سأستعين في هذا المقام بالمزيد من الأدوات المعرفية الإسرائيلية لتقديم تحليل أكثر تفصيلاً حول مسألتين ترتبطان بالموضوع ذاته، مبنى ومعنى، هما طبيعة اليسار الاسرائيلي وعثرات التربية للديمقراطية في إسرائيل.

طبيعة اليسار الاسرائيلي

اعتبر الاستاذ الجامعي الاسرائيلي زئيف شطرنهل ("هآرتس" 9-5-3002) أن الاول من أيار (مايو) الاخير توازت مناسبته في ذهنه مع بؤس اليسار الإسرائيلي. وخصّ بالذكر، من بين هذا اليسار، حركة "العمل" التي تتبدى الآن في كامل عريها وقمة عجزها عن قيادة المعركة من أجل الفئات الضعيفة، فكم بالحري المهمشة!

هذا العجز لا يعدّ إبن لحظته، كما يؤكد الكاتب، بل هو متأصل، قار، في هذه الحركة التي انبنت قبل أي شيء كمنظومة قوة وهيمنة تمثل جوهرها الرئيس في "إقامة الدولة" استناداً، ضمن أشياء أخرى، إلى احتلالين: الاول للأرض والثاني للعمل بصورة أصبحت بها ومعها، بعد إنجاز "إقامة الدولة"، حركة مجوفة من الجوهر الحقيقي لليسار المتعارف عليه.

غير أن البؤس الصارخ لليسار الاسرائيلي، الذي يستكنهه شطرنهل من مستجدات الفترة الأخيرة، لا يبدو منحصراً في الإنعدام المسبق الاختيار لدوره الاجتماعي تاريخياً، وفي غياب رسالته الفكرية المفترضة فحسب، بل يمتد ايضاً لينسحب على دوره في الشأن السياسي العام. ومما لا شك فيه ان هذا الدور سجّل أعلى مراحل بؤسه في أحداث السنوات الثلاث الأخيرة.

وفي الوقت الراهن لا يظهر هذا اليسار، مثلا قادراً على الوقوف في وجه الإنزياح المتسارع نحو اليمين، الذي يجرف معه قطاعات من اليسار أيضاً. اما عن موقفه إزاء قضايا العرب في الداخل فحدّث ولا حرج. وتكاد تذوب الفوارق بين اليمين واليسار في إسرائيل لدى مقاربة المواقف من القضايا الإجتماعية.

في هذا الصدد الأخير يؤكد شطرنهل أن الوعي المهيمن على إسرائيل-وفي ذلك ما يحيل إلى ماهية الحركة الصهيونية-هو أن الفرد موجود في سبيل خدمة المجتمع وفي سبيل تقديم الأضاحي من أجل الوطن. وهذا المفهوم كان مشتركاً لليمين واليسار على حد سواء، قبل 8491. ومع إنتهاء سنوات التأسيس (للدولة) أسهم هذا القاسم المشترك في جعل "حركة العمل"، من ناحية جوهرها اليساري، زائدة عن الحاجة.

ويضيف، بالحرف: إننا لا ننفك ندفع ثمن ذلك حتى يومنا هذا. وعلى ما يبدو فسنواصل دفعه في المستقبل المنظور أيضاً. ليس ثمة يسار في إسرائيل لأنه ليس لدى هذا اليسار الحد الأدنى من التضامن المطلوب كي يحارب الأقوياء من أجل الاكثر ضعفاً، وكي يكون جاهزاً لتقديم تنازلات من أجل الذين ليس في مقدرتهم أن يهتموا بأنفسهم.

بطبيعة الحال يظل ما يقوله هذا الخبير جانباً واحداً فقط، بالتأكيد ليس عديم الأهمية، من الصورة العامة. وقد يكتمل جانب آخر منها إذا ما التفتنا إلى ما تعكسه الحقيقة بشأن القاسم المشترك السالف من إشكالية أو مشكلية التقاليد السياسية لهذا اليسار.

وفي مناسبة أخرى غير هذه سبق لنا ان تحدثنا عن أن التكوين التاريخي لما أضحى اليوم يندرج ضمن خانة "اليسار الصهيوني" جعله ينشأ على تقاليد إشكالية من ناحية الديمقراطية الليبرالية، هي تقاليد جماعية كرست إلى حد التقديس مبدأ الأكثرية، لا الحريات الفردية التي تعتبر قدس أقداس الديمقراطية المذكورة. كما برزت في هذا اليسار "نخبوية" ذات طرز غير ديمقراطي، هي تلك التي آمنت بأن الطليعة صاحبة القول الفصل في إقرار كل شيء باسم "الشعب". وفي ذلك سارت على "منهج" دافيد بن غوريون، الذي قال ذات مرة: "ليس المهم ماذا يريد الشعب، إنما المهم ما هو مطلوب للشعب"!

عثرات التربية للديمقراطية

في أحد الأعداد الأخيرة من ملحق "الأكاديمية"، الذي يصدر عن دار صحيفة "هآرتس"، ظهر مقال بقلم البروفسور "بنيامين نويبرغر"، رئيس برنامج دراسات الديمقراطية في الجامعة الاسرائيلية المفتوحة، يتمحور حول صعوبات وعثرات التربية للديمقراطية في اسرائيل. ومنطلق الكاتب هو أنه لا وجود للديمقراطية بمنأى عن وجود مواطنين ديمقراطيين، ولا وجود لمثل هؤلاء المواطنين من غير تعليم الديمقراطية والتربية لها.

ويضيف في هذا الصدد: ينبغي التشديد على ان الديمقراطية لا تعني فقط المؤسسات والدستور والقوانين انما هي، فضلا عن ذلك، ثقافة سياسية يجري بواسطتها حل النزاعات بطرق سلمية وتعتبر التسويات قيمة مركزية فيها.

واستعرض الكاتب الكثير من الأبحاث التطبيقية في اسرائيل التي اشارت، منذ أكثر من عشرين عاماً، وفي شبه إجماع، الى ان استبطان الشبيبة الاسرائيلية لمختلف القيم الديمقراطية هو استبطان شائه ومنقوص، ما يجعل هؤلاء غير محصنين كفاية للدفاع عن الديمقراطية في لحظات الامتحان العصيبة.

ويثور بين الفينة والأخرى السؤال التالي: لماذا من الصعوبة بمكان التربية للديمقراطية في اسرائيل؟

هناك عدة أسباب لذلك، احد هذه الأسباب ناجم عن كون الغالبية الساحقة من الجماهير الراشدة في اسرائيل مفتقدة الى التقاليد الديمقراطية، فإن اليهود في اسرائيل هم ابناء الجيل الاول او الثاني او الثالث ليهود جاؤوا من دول اوتوقراطية لم تسد فيها ثقافة سياسية ديمقراطية-ليبرالية. بهذا المفهوم لا فرق بين الهجرات التي أتت من روسيا وبولندا ورومانيا وهنغاريا وبين الهجرات من المغرب والعراق واليمن وايران. كما أن التقاليد السياسية للحركات والاحزاب السياسية الرئيسية هي تقاليد إشكالية من ناحية ديمقراطية ليبرالية، معسكر اليسار التاريخي، مثلاً، نشأ على تقاليد جماعية قدست مبدأ الأكثرية، لا الحريات الفردية التي هي قدس أقداس الديمقراطية الليبرالية.

اما في معسكر اليمين التنقيحي، الذي خرج منه في فترة "الييشوف" كل من "الاتسل" و"الليحي" (وهما منظمتان رفضتا قرارات المؤسسات المنتخبة للييشوف)، فإن الأفضلية ممنوحة لقيم القومية والدولة في حين اعتبرت حريات الافراد تفصيلا مهملا في "الطريق نحو الخلاص". هذا المعسكر قدس ولا يزال يقدّس النظام، القوة، الانضباط، التراتبية، العسكرية و"الوحدة" وليس التسامح والتعددية، وحزب "حيروت" (حرية) رفع لواء حرية الشعب وليس حرية المواطن.

وفي المعسكر الديني، فإن الشريعة ويهودية الدولة (بالمفهوم الديني) كانتا على الدوام أهم بكثير من حريات الانسان والمواطن. يضاف الى ذلك ان الديمقراطية ليست جزءاً من التقاليد الدينية اليهودية، ولذا كان صعباً على الأحزاب الدينية ان تكيّف نفسها مع الفكر الجديد المستورد من الغرب.

في اسرائيل، اذاً، ثمة حاجة لتشكيل تقاليد يمكن تشكيلها أساساً من خلال التشريع ومن خلال سلوك القيادة التي يجب عليها أن تكون في منزلة قدوة يحتذى بها في التسامح والتعايش واحترام قواعد منطقية ومعقولة للعبة السياسية، وكذلك من خلال التربية السياسية الديمقراطية.

غياب الدستور

عدم وجود دستور يشكل عقبة كبيرة امام العملية التربوية الديمقراطية، الدستور الديمقراطي هو قانون أعلى ينبغي به ان يشمل أنظمة الحكم المركزية وقيم الدولة، كما ينبغي ان يكون فيه موقع مركزي لحريات الانسان والمواطن. دستور كهذا هو بمثابة اداة تربوية من الدرجة الاولى في الديمقراطيات المتنورة، وبما ان اسرائيل تفتقد الى دستور يلجم نظام الحكم ويضمن "القيود المطلوبة" لذلك فإن الحفاظ على الديمقراطية منوط، الى قدر كبير، بعدم انفلات رجال الحكم في الكنيست والحكومة، ومثل هذا الامر هو في العادة محصلة التربية التي حصلوا عليها. وهنا يجدر بنا ذكر أنه خلافاً للكنيست في سنوات الخمسينيات والستينيات فإن الكنيست الحالية تضم غالبية من النواب تشكلت بتأثير جهاز التربية الاسرائيلي.

أسس الحكم

وثمة عثرة أخرى تقف في طريق التربية للديمقراطية في اسرائيل، وتتمثل في غياب إجماع حول مبادئ الدولة وأسس نظام الحكم. مثل هذا الاجماع غير قائم في اسرائيل حول أمور جوهرية مثل "المناطق" (المحتلة) والحدود وموضوع الدين والدولة.

يصعب على المربي في اسرائيل التربية للديمقراطية بينما قسم من المواقف (مثل الدعوة الى اقامة "دولة الشريعة" او الدعوة الى تطبيق "الترانسفير") التي لا اجماع قومياً حولها هي مواقف معادية للديمقراطية تماماً. وعادة عندما تواجه غالبية المربين مواضيع كهذه فإن الخيار الذي يتم اللجوء اليه هو الالتفاف عليها وعدم الخوض في التفاصيل المطلوبة.

الوضع في "المناطق" (المحتلة)، المستمر منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، لا يسهل التربية للديمقراطية بينما تنعدم الديمقراطية في تلك المناطق الخاضعة لحكم الدولة ويسود حكم عسكري لم يبق موطئ قدم لأي شكل من أشكال الحكم التمثيلي أو المحدد ولأي مظهر من مظاهر حريات المواطن والمساواة المدنية.

مشكلة المناطق المحتلة يتم ربطها على الدوام بقضية الأمن. وفي المجتمع الاسرائيلي فإن موضوع الأمن هو موضوع وجود يكاد يكون مقدساً.

وغالبية أبناء هذا المجتمع يرون أن سيادة القانون وحريات الانسان والديمقراطية هي أشياء كمالية او ترف يليق بدول أخرى، انما ليس باسرائيل، ولذا لا نكاد نسمع انتقاداً علنياً لمواصلة استعمال انظمة الدفاع لساعة الطوارئ او لممارسة التعذيب في التحقيقات التي يجريها جهاز الأمن العام ("الشاباك").

وبطبيعة الحال فإن قضية الاقلية العربية هي عثرة أخرى في طريق التربية للديمقراطية. ان قمة المساواة بين المواطنين يتعين ان تكون في صلب مثل هذه التربية، فكيف يمكن ممارستها بينما يعلم الجميع ان المساواة بين اليهود والعرب منعدمة في المجالات كافة؟ فضلا عن ذلك فإن الديمقراطية هي ليست حكم الاكثرية فقط، ربما الأهم من ذلك انها الحكم الذي يدافع عن حقوق الأقلية، ويستحيل القول ان ديمقراطية كهذه مطبقة في اسرائيل حيال الاقلية العربية التي تعاني تمييزاً في التعليم وتوزيع الاراضي وحصص المياه وقروض الاسكان والعمل... الخ.

تبقى عثرة اخرى - ليست أخيرة - تتمثل في انعدام النموذج الشخصي، والسؤال هو: كيف يمكن التربية على سيادة القانون في وقت لا يخفي فيه رؤساء حكومة في اسرائيل استخفافهم بهذا القانون، وكيف يمكن التربية على التسامح والتعددية بينما يخلع ساسة كبار على خصومهم نعوتاً مثل "خونة" و"متعاونين" و"وكلاء العدو"؟

وفي التحصيل النهائي فإن التربية للديمقراطية ليست تربية وعظية-حزبية، انما هي تربية سياسية للتعددية والتسامح وحل النزاعات بطرق سلمية ومن خلال الاخلاص العميق لحريات الانسان والمواطن. وان من يهرب من التربية السياسية - الديمقراطية بحجة أن ذلك يعتبر "تدخلاً في السياسة" إنما يربي "رعايا" يخدمون بولاء تام أي نظام حكم وأي دكتاتور. و"رعايا" كهؤلاء لن يكونوا مواطنين يدافعون عن النظام الديمقراطي في لحظات الامتحان.

ولعل العودة الى النتائج، التي خرج بها "مؤشر الديمقراطية"، تمد خطا يصل بين تلك النتائج وبين ما يقوله هذا الأستاذ الجامعي.

  • تقديم العدد الجديد من "اوراق اسرائيلية" الذي يصدر قريبا عن "مدار" حول "مؤشر الديمقراطية في اسرائيل".