مدير مركز كيشف: الإعلام الإسرائيلي غطى الحرب الأخيرة على غزة بطريقة أخفت المعاناة الإنسانية لدى الفلسطينيين

وثائق وتقارير

بعض الذين أجريت مقابلات معهم في نطاق هذا التقرير وصفوا المكان هذا الأسبوع على أنه "غوانتانامو الإسرائيلي". وبالفعل فإن ثمة أوجه شبه معينة بين معسكر الاعتقال الأمريكي في كوبا وبين هذا المعسكر الإسرائيلي، وخصوصا بكل ما يتصل بعلامات الاستفهام القانونية والقضائية التي تحوم حول المعسكرين والشكوك المريبة حول ما إذا كان وجودهما أو نشاطهما يتمشى مع مبادئ الديمقراطية.

 

تقرير في "هآرتس"

ماذا يحدث خلف جدران معسكر الاعتقال رقم 1391؟

 بقلم: أفيف لافي

يتذكر "م" المرة الأولى التي أرسل فيها لتنفيذ مهام حراسة في معسكر 1391. فقبل أن يصعد إلى برج الحراسة، تلقى أمرا صريحا من الضابط المسئول: "عندما تكون فوق البرج، لا تنظر إلا إلى الأمام. إلى خارج القاعدة، وإلى الأطراف. أما ما يحدث خلفك فهو ليس من اختصاصك. إياك أن تدير رأسك إلى الوراء".

لكن "م"، وهو جندي احتياط في سلاح الاستخبارات، لم يكن قادرا على ضبط نفسه، إذ راح يسترق النظر بين حين وآخر، إلى الوراء. شاهد من فوق نقطة حراسته الجدران الشائكة المزدوجة المحيطة بالمعسكر، وكلابا هجومية مدربة تجول في الشريط الواقع بين الجدارين، وسيارة جيب عسكرية تقوم بأعمال الدورية في الجانب الداخلي للسياج، والمركبات التي يستخدمها أفراد الوحدة التي تتولى إدارة القاعدة، والمبنى الإسمنتي الضخم، القديم، الذي استخدمته الشرطة البريطانية في عهد الانتداب والذي تحيط باسمه الآن هالة من الغموض: معسكر الاعتقال السري في دولة إسرائيل.

بعض الذين أجريت مقابلات معهم في نطاق هذا التقرير وصفوا المكان هذا الأسبوع على أنه "غوانتانامو الإسرائيلي". وبالفعل فإن ثمة أوجه شبه معينة بين معسكر الاعتقال الأمريكي في كوبا وبين هذا المعسكر الإسرائيلي، وخصوصا بكل ما يتصل بعلامات الاستفهام القانونية والقضائية التي تحوم حول المعسكرين والشكوك المريبة حول ما إذا كان وجودهما أو نشاطهما يتمشى مع مبادئ الديمقراطية.

ولعل معسكر غوانتانامو الأمريكي يتقدم على نظيره الإسرائيلي من حيث الموقع الجمالي على الأقل، إذ تشاهد أبراج الحراسة الأولى من مياه البحر الكاريبي، في حين يقع السجن السري الإسرائيلي بجانب شارع اعتيادي وسط البلاد. من الداخل يبدو السجن كأي قاعدة عسكرية اعتيادية، عنابر للجنود وغرفة طعام وورشة لتصليح وصيانة السيارات، وباستثناء الحراسة الجسدية، التي أوكلت لمجندين جدد فيا لغالب، فقد أحيط المعسكر 1391 من جانب دولة إسرائيل بسور حصين من التكتم والسرية. فمنذ الثمانينيات، حينما نقل المعسكر من موقعه السابق في جنوب البلاد إلى موقعه الحالي، تبذل إسرائيل كل جهد مستطاع في سبيل إبقاء وجود هذا السجن في حد ذاته طي السرية التامة. وحتى بعدما كشف أمره، لا تزال الدولة ترفض إشراك العالم والجمهور الإسرائيلي في طائفة التساؤلات المتعلقة بالسجن: مكانه، وهوية المعتقلين، وأسباب سجنهم هناك، ومدة سجنهم، وهل حوكموا قبل سجنهم، أو هل ينتظرون المحاكمة، وما هي الظروف التي يتم اعتقالهم فيها، وغيرها من التساؤلات التي تكون إجاباتها في أي معسكر أو منشأة اعتقال أخرى في إسرائيل واضحة وخاضعة لرقابة خارجية وقضائية.. إلخ.

سجن 1391، حسبما هو معروف، هو السجن الوحيد الذي لا يعرف المعتقلون فيه مكان احتجازهم. عندما حاول أحد منهم الاستيضاح، رد عليهم الحراس بأنهم محتجزون "في المريخ" أو في "الفضاء الخارجي" أو "خارج حدود إسرائيل".

هذا هو السجن الوحيد الذي رفضت الدولة السماح لمثلي الصليب الأحمر بزيارته. كما أن أعضاء الكنيست لم يقوموا بزيارته مطلقا، حتى أن السياسيين الإسرائيليين، وبضمنهم مسؤولون سابقون في الحكومة، أبدوا جهلا تاما بشأن وجوده عندما سئلوا عنه في الأسابيع الأخيرة. وعلى سبيل المثال فإن وزير العدل السابق (في حكومة رابين) دافيد ليبائي، والذي كان عضوا في اللجنة الوزارية لمراقبة أجهزة الاستخبارات السرية، اكتفى بالقول حين سئل "لا أستطيع قول كلمة واحدة لسبب بسيط وهو أن الموضوع غير معروف لدي، هذه هي المرة التي أسمع فيها عن شيء كهذا".

إذا كان وزير عدل (سابق) لا يعرف شيئا فإن السؤال المقلق الذي يطرح نفسه هنا: من الذي يعرف إذاً؟!

يقول المحامي دان باكير، المستشار القانوني لجمعية حقوق المواطن في إسرائيل إن "أي منشأة اعتقال سرية تعتبر منافية للمبادئ الأساسية في أي مجتمع ديمقراطي، وللشفافية والرقابة العامة على سلطات الحكم". ويضيف: إن "وجود معتقل من هذا النوع يثر مخاوف مزدوجة، أولا مخاوف بوجود اعتقالات سرية وحالات "اختفاء" أو مفقودين، وثانيا مخاوف من إساءة استخدام القوة وإساءة المعاملة وممارسة العنف والتعذيب" هذه المخاوف لها أساس من الصحة كما سنبين لاحقاً.

وتقول النائبة في الكنيست زهافا غالئون (ميرتس) والتي طلبت السماح لها بزيارة سجن 1391، لكنها لم تلق جوابا بعد، إن "حقيقة وجود سجن كهذا، لا يعرف أحد مكانه من ناحية رسمية، هي من سمات الأنظمة الديكتاتورية، الشمولية ودول العالم الثالث" وتضيف: "لا يعقل أن يجهل المعتقلون مكان احتجازهم، وكذلك بالنسبة لأفراد عائلات المعتقلين ومحاميهم، وأن تنتهك إسرائيل برعاية الجيش حقوقا أساسية للمعتقلين، دون حسيب أو رقيب. زرت جميع معتقلات التحقيق التابعة لجهاز الشاباك ولم أواجه أي مشكلة. فما هي المشكلة التي تحول إذا دون زيارتي لهذا السجن؟".

 

الابن غير الشرعي للإستخبارات

معسكر 1391 هو كما أسلفنا منشأة عسكرية. أفراد جهاز المخابرات العامة (الشاباك) وأجهزة الأمن الأخرى لا يفارقون المعسكر. كما أنهم لجأوا إلى استخدامه منذ اندلاع الانتفاضة الحالية على نطاق واسع أكثر من الماضي، لكن الجيش الإسرائيلي هو الذي يدير المعسكر. ولعل أحد أسباب هالة السرية المحيطة بالمكان يرجع إلى حقيقة كونه وسط قاعدة عسكرية تتبع إحدى الوحدات السرية في سلاح الاستخبارات - الوحدة 504 - وتتولى هذه الوحدة (التي تم تغيير اسمها في الفترة الأخيرة وفقا لمصادر أجنبية) جمع معلومات استخبارية عن طريق العنصر البشري، وبشكل أساسي بواسطة استخدام عملاء ومخبرين خارج حدود إسرائيل. ويسمى ضباط الوحدة اختصارا "كاتميم" - ضباط مهام خاصة - ويتولى بعضهم مهمة تشغيل العملاء والاتصال بهم. فيما يعمل ضباط آخرون كـ "محققين مع الأسرى". قائد الوحدة ضابط برتبة كولونيل. وتتسم النظرة للوحدة بنوع من الغموض والغرابة، فهي من جهة وحدة صغيرة، نخبوية في الظاهر، ومن جهة أخرى هناك من ينظر لها كوحدة شاذة، حيث يقول عنها أحد أفرادها: "نحن الابن غير الشرعي للاستخبارات. أحيانا، وعندما تنظر إلى بعض ضباطها، فإنك تتساءل إذا ما كانت تنطبق عليهم المعايير التي يضعها الجيش لمثل هذه المهام".

وينوه عنصر الوحدة ذاته إلى وجود مشكلة يعاني منها أفراد الوحدة، ناجمة عن تأثير المهام التي يقومون بها على حالتهم النفسية. ويضيف موضحا: "لكي تكون محققا يجب أن يكون لديك من البداية نوع من الانفصام العقلي. ولكن حتى الذين يحكمون عقلهم، لا بد وأن يعانوا من تأثير عملهم، بمرور الوقت، على حياتهم الخاصة. وهذا يظهر بوضوح في علاقاتهم مع زوجاتهم وعائلاتهم، وحتى على مستوى العلاقات الشخصية داخل الوحدة نفسها".

وإلى جانب ما ينسب للوحدة من نجاحات ميدانية، يبقى غالبيتها بطبيعة الحال غير معروف للجمهور، فقد ارتبط خلال السنوات الأخيرة اسم عدد من أفرادها في قضايا وفضائح مريبة، إذ تورط أحد قادتها في نزاع جنائي على خلفية قصة غرامية، وأطلق قائد آخر بطريق الخطأ رصاصة من مسدسه في خضم اجتماع مع هيئة قيادة الوحدة، وأدين مسئول سابق في الوحدة، يدعى جان بيير إلراز، بارتكاب جريمة قتل مسئول الأمن في كيبوتس "منارة" شمال إسرائيل، وأدين ضابط رابع من أفراد الوحدة، الرائد يوسيف عميت بالتجسس الخطير والتخابر مع عميل أجنبي. وكان هذا الضابط نفسه (عميت) ضبط في العام 1978 متلبسا بصفقة مخدرات جنوب تل أبيب.

في السنوات الطوال التي مكثها الجيش الإسرائيلي في لبنان كان أفراد الوحدة 504 يقومون بنشاطات مكثفة وراء الحدود الشمالية، حيث قاموا بتشغيل عدد كبير من العملاء والمخبرين في جنوب لبنان. وفي تشرين الثاني 1998 دانت محكمة لبنانية ما لا يقل عن 75 مواطنا لبنانيا بتهمة التعامل مع إسرائيل عن طريق أفراد الوحدة ذاتها.

نشاطات الوحدة المكثفة في لبنان سلطت الأضواء على معسكر 1391، الذي تحول إلى مركز للتحقيق مع المشبوهين بالانتماء لمنظمة "حزب الله" الذين اعتقلهم أو اختطفهم الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. وكان من أشهر المختطفين الشيخ عبد الكريم عبيد ومصطفى الديراني. الطائرة العمودية التي اختطف بها الشيخ عبيد من منزله في بلدة "جبشيت" بجنوب لبنان، أحضرته مباشرة إلى بوابة المعسكر 1391. ولم يغادر عبيد المعسكر، باستثناء حالات تمديد اعتقاله في المحكمة، سوى مرة واحدة بعد مرور 13 عاما على اختطافه واحتجازه في إسرائيل، حيث نقل عبيد وديراني في صيف العام الماضي إلى سجن "أشمورت" - كفار يونه.

لكن عبيد وديراني ليسا المختطفين الوحيدين اللذين زج بهما في زنازين 1391. فقد احتجز فيه أحد الشبان اللبنانيين، ويدعى هاشم فاصف، صادف وجوده في منزل الشيخ عبيد عندما قامت وحدة إسرائيلية باقتحام المنزل، لتقتاده أيضا مع عبيد إلى إسرائيل. وقد مكث "هاشم" 11 عاما في السجن الإسرائيلي، بداية في معسكر 1391 ثم نقل في السنوات الأخيرة إلى سجن الرملة. وطوال هذه المدة لم يحاكم أو توجه له أية تهمة، فضلا عن أن إسرائيل أنكرت في السنوات الأولى حقيقة وجوده رهن الاعتقال لديها ومنعته من إجراء اتصال مع العالم الخارجي. وفي نيسان 2000 أقرت المحكمة الإسرائيلية العليا الإفراج عن "هاشم" مع 18 معتقلا لبنانيا آخرين احتجزوا في إسرائيل حسب الرواية الرسمية كرهائن مقابل ملاح الجو الإسرائيلي المفقود في لبنان رون أراد. وهناك عدد آخر من اللبنانيين الذين اختطفوا إلى إسرائيل أمضوا فترات معينة في سجن 1391.

 

طمس وتمويه لمعالم المكان

يقول بعض سكان المنطقة التي يقع فيها معسكر 1391 إنهم يتذكرون أنه كانت هناك لغاية السبعينيات لافتة قرب المعسكر تشير إلى أن البناية الإسمنتية القديمة التي تتوسطه استخدمت في عهد الانتداب كمحضر للشرطة البريطانية، حيث كتب على اليافطة: "الشرطة في خدمتك دائما". بعد ذلك اختفت اليافطة، كلك فإن اليافطة التي وضعت لاحقا قرب مدخل القاعدة والتي كتب عليها اسم المعسكر 1391، أزيلت قبل عدة سنوات. في الصور الجوية الرسمية، وكما هو متبع إزاء المنشآت الأمنية الأخرى، لا وجود للمعسكر، حيث تظهر مكانه في الصور حقول وتلال جيء بصورها من مكان آخر لتوضع بطريقة تخفي كل أثر للمعسكر في الصور الجوية. كذلك فإن معظم الخرائط لا تحتوي على أثر للمعسكر.

عندما قمنا بجولة حول القاعدة، وتوقفنا قليلا لالتقاط الصور، إنطلقت في إثرنا سيارة أمن ظلت تتعقبنا لعدة كيلومترات. وفي أول فرصة ترجل منها رجلا أمن مسلحان وجها لنا سلسلة طويلة من الأسئلة والاستفسارات عما نفعله في المنطقة.

يتعين على القادمين للمعسكر اجتياز بوابتين أحيطتا بأسلاك شائكة. بعد اجتياز البوابة الأولى يتم إقفالها آليا وبعد ذلك فقط تفتح البوابة الثانية. قسم الاعتقال والتحقيق يقع على مقربة من غرفة الطعام. زنازين الاعتقال القائمة على دهليز طويل، تلتصق إحداها بالأخرى تفصل بينها جدران إسمنتية سميكة. ولا يستطيع المعتقلون الإتصال فيما بينهم سوى عن طريق القرع على الجدران أو الصراخ على بعضهم، كما يتول أحد الضباط الذين خدموا في المعسكر، مضيفا أن "هذه ممنوعات، لكننا لم نكن نملك القدرة دوما على ملاحقة مثل هذه الأمور".

وحتى لا يتمكن المعتقلون من معرفة مكان وجودهم يتم إحضارهم لمعسكر الاعتقال بعيون معصوبة. وفي مرحلة استيعابهم داخل السجن تصادر منهم حاجاتهم الشخصية، وتنزع عنهم ملابسهم ليرتدوا بدلا منها بنطالا وقميصا بلون أزرق. زنازين الاعتقال متشابهة جدا، وهناك حجرتان فقط واسعتان نسبيا [2,5متر] إحدى هاتين الحجرتين احتجز فيها الشيخ عبيد مع معتقلين لبنانيين آخرين، أما غرف الزنازين فتعتبر سيئة للغاية إذ لا تزيد مساحتها عن 1.25 م مربع. كما أن الظلمة فيها شديدة حيث طليت جدرانها باللون الأسود أو الأحمر. أبواب الزنازين صنعت من فولاذ سميك، ولا يوجد في الزنزانة أي نافذة أو تهوية ما عدا كوة صغيرة في الباب لا تفتح إلا من الخارج. داخل كل زنزانة توجد مسطبة من الباطون ملاصقة لأحد الجدران تستخدم كسرير وضعت عليه فرشة (برش) وبطانية. وفي الجدار المقابل للمسطبة هناك فتحة، أشبه بأنبوب (ماسورة) يضخ الماء عبرها، لكن الحنفية تخضع لسيطرة وتحكم الجنود خارج الحجرة. وهناك تحت مصب الماء ثقب في أرضية الحجرة أو الزنزانة يستخدم (كمرحاض) لقضاء الحاجة. وفي عدد من الزنازين، المخصصة كما يبدو للمعتقلين قيد التحقيق، لا توجد أية خدمات أو مرافق على الإطلاق، حيث يضطر المعتقلون لقضاء حاجتهم في دلو كبير مصنوع من البلاستيك يتم إفراغ محتوياته مرة واحدة كل عدة أيام.

ولا يستطيع المعتقلون التمييز بين النهار والليل لأن المصباح الكهربائي الموجود في كل زنزانة يبقى مضاءً على مدار 24 ساعة في اليوم، وبضوء خافت. وتخضع جميع غرف الاعتقال لمراقبة دائمة بواسطة كاميرات تعمل بدائرة مغلقة، علما أن غالبية المعتقلين محتجزون بشكل انفرادي.

يتلقى المعتقلون وجبات الطعام ثلاث مرات في اليوم، وعندما يأتي الجنود – السجانون - بالطعام يقومون بقرع باب الزنزانة، وعندئذ يتعين على المعتقل، حسب الإجراءات المتبعة، أن يغطي رأسه بكيس أسود وأن يستدير بوجهه إلى الحائط مرفوع اليدين.

ولا يسمح إلا للمعتقلين الذين انتهى التحقيق معهم، بالخروج (مرة واحدة في اليوم) في نزهة (فورة) لمدة ساعة في باحة داخلية ضيقة أرضيتها مكسوة بالرمال.