وثائق وتقارير

الياس خوري، من أهم مثقفي لبنان، لم يعد يفهم اليسار الاسرائيلي. هذا اليسار الوحيد في العالم، يقول، الذي لم يخرج ضد الحرب الأمريكية على العراق، وعلى هذه الحقيقة أن تثير علامات إستفهام كثيرة. "كان هنا تفويت كبير لفرصة من أجل إعادة خلق أرضية مشتركة مع المثقفين العرب"، يقول.

الياس خوري، من أهم مثقفي لبنان، لم يعد يفهم اليسار الاسرائيلي. هذا اليسار الوحيد في العالم، يقول، الذي لم يخرج ضد الحرب الأمريكية على العراق، وعلى هذه الحقيقة أن تثير علامات إستفهام كثيرة. "كان هنا تفويت كبير لفرصة من أجل إعادة خلق أرضية مشتركة مع المثقفين العرب"، يقول.

خوري معروف في إٍسرائيل في أعقاب ترجمة كتابه "باب الشمس" إلى العبرية (صدرت عن منشورات "اندلس" في تل أبيب - المترجم)، وهو رواية طويلة توثق النكبة الفلسطينية وذكريات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وُلد في العام 1948 في بيروت، وربط مصيره منذ صغره بالحركة الوطنية الفلسطينية: عمل في "مركز الأبحاث الفلسطيني" في بيروت وفي مجلة "شؤون فلسطينية"، سويةً مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش.

يحرر خوري الملحق الثقافي في يومية "النهار" اللبنانية الهامة، منذ 1992، ويكرس وقته للكتابة. في هذه الأيام يعمل مع مخرج الأفلام المصري يسري نصرالله على تحويل "باب الشمس" إلى فيلم ملحمي، من أربع ساعات.

بعد ساعات قليلة من بدء الهجوم الأمريكي على العراق وقف خوري على منصة "دار ثقافات العالم" في برلين ودشّن مهرجان الثقافة العربية، من أكبر المهرجانات التي أقيمت في تاريخ ألمانيا. وقد سمي الحدث بـ "إنعدام الوُجهة"، وكان خُطط له قبل أشهر عديدة من إندلاع الحرب. لكن الأحداث الأخيرة منحت المهرجان توجهًا واضحًا جدًا.

اتهم خوري في كلمته إتهامًا لاذعًا "روما الجديدة" – الولايات المتحدة - وخرج ضد "الآلهة المتعطشة للدماء والعفاريت الشريرة، التي تحتل مشاهد فلسطين". كما نوى أيضًا توجيه الانتقاد الحاد للأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، لكن صدى المدافع الضاجة في الخليج، أضعف من حدة نقده.

"هل يمكن أن تجابه الكلمة السيفَ، أم أن علينا أن نبتلع المذلة الواقعة بقيم العدالة وأن نركع أمام قوة روما الجديدة، التي تحكمها الرغبة في الانتقام ورياح العصبية الجديدة؟"، قال خوري. "ماذا بوسع مثقف أن يقول على عتبة تغيير دراماتيكي، يهدد بوضع العالم كله تحت إمرة إمبراطورية لا ترحم؟ ماذا بوسع مثقف عربي أن يقول وهو واقف أمام حقيقة أن القمع والعنف والاحتلال والحرب هي قواعد اللغة المهيمنة الجديدة، وأنها هي التي خلقت الحكم الامبراطوري والأوضاع التراجيدية، والسياسية والثقافية، والتي حولت العالم إلى ساحة وغى؟"

في نهاية أقواله أورد خوري صيغة جديدة لمقولة "إنّي أتهم" الشهيرة، التي وضعها الكاتب (الفرنسي) إميل زولا، والتي خرج بها خوري ضد الامبريالية الأمريكية، والاحتلال الاسرائيلي و"حكم الابرتهايد" المتنامي في إسرائيل، والدكتاتوريين العسكريين في العالم العربي والأصولية الدينية - الإسلامية والمسيحية واليهودية.

"الحرب على العراق: إحتلال فظ"

"من يعرفني ويعرف مواقفي لا يمكن أن يتهمني بأنني لا أهاجم بشدة الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي"، يقول خوري في مقابلة لـ "يديعوت أحرونوت". "لكنني كنت ملزمًا بإدخال الحرب على العراق في سياقها الحقيقي. هذه ليست حربًا تجري بإسم الديمقراطية. أنظروا كيف وضعوا المعارضة العراقية جانبًا. من الواضح أن الأمريكيين ينوون إقامة نظام عسكري أمريكي في العراق، وهذا إحتلال. ومن الواضح أيضًا أن العراق ليس الدافع الحقيقي من وراء هذه الحرب. الجيش والنظام العراقيان هما ضعيفان جدًا. العراق هو ساحة حرب، ليس إلا".

"للأمريكيين إستراتيجية كونية. كل الذين من حول وزير الدفاع رامسفيلد، والذين يتحكمون بالبنتاغون، معنيّون بألا تنشأ قوة يمكن أن تتساوى مع أمريكا. الهدف هو أن تكون الولايات المتحدة القوة العظمى والوحيدة المسيطرة في العالم. وهناك أيضًا موضوع النفط - السعي الأمريكي هو السيطرة المطلقة على خطوط الامدادات النفطية، خاصةً في الخليج العربي وحتى بحر قزوين، بشكل يحيط بكل أوروبا. من هنا ينبع الموقف الأوروبي ضد الحرب. الأوروبيون يخشون من أن يضعهم الوضع الجديد، بشكل مطلق، تحت رحمة الولايات المتحدة".

"ما هو مثير للاهتمام في هذه الحرب هو أن الحديث يدور عن إحدى الحروبات الدولية النادرة في التاريخ، التي هُزم فيها الطرف "الرابح" معنويًا، قبل إطلاق الرصاصة الأولى. وقد تظاهروا ضد الحرب في كل العالم - في نيويورك، سان فرنسيسكو، باريس، برلين، مدريد ولندن.

"مسألة أخرى، مخيفة جدًا، هي أنه لم يكن أي تأثير للرأي العام ضد الحرب في أوروبا، على قرارات الحكومات. الديمقراطية ليست حرية التعبير فقط، وإنما وبالأساس القدرة على التأثير على إتخاذ القرارات. هذه واحدة من المرات النادرة في تاريخ الديمقراطية، التي لم يكن فيها أي تأثير للرأي العام على إتخاذ القرارات في الحكومات. مسألة ثالثة، مذهلة بنظري، وهي أن المظاهرات خرجت في كل العالم سوى في دولة واحدة - إسرائيل".

- لكن كان هناك عدة آلاف تظاهروا في تل أبيب.

"هذه لم تكن مظاهرات حقيقية".

- إسرائيل، وخلافًا للدول الأوروبية، مهددة مباشرة من العراق.

"هذا غير صحيح. شارون قال ذلك بشكل واضح جدًا قبل الحرب. فقد أعلن أنه لا يوجد أي تهديد، وحتى لو وُجد - فهو ضعيف جدًا. وحتى الآن لم يحدث لإسرائيل شيء، ولن يحدث. القدرة العسكرية العراقية أُضعفت جدًا، بعد سنوات من المراقبة الدولية والحصار. إنعدام المظاهرات في إسرائيل مذهل ويبعث عندي إحساسًا سيئًا بالنسبة لمستقبل المنطقة.

"الرأي العام العالمي ضد الهجوم الأمريكي على العراق، خلق، بشكل غير قليل، حركة عالمية. العالم العربي، مع كل الدكتاتورية التي فيه، ليس جزءًا من هذه الحركة الشعبية. لكن هناك محاولات في داخله للانضمام إلى هذه الحركة. ومن المؤسف أن الرأي العام الاسرائيلي ليس جزءًا من هذه الظاهرة. هذا سيعقد المسألة الاسرائيلية - الفلسطينية".

- لماذا؟

"الحرب في العراق هي حالة واضحة جدًا يهدم فيها الأمريكان القانون الدولي ويخربون عمل الأمم المتحدة، ناهيك عن الضرر اللاحق بالحلف الأطلسي. في وضع كهذا، وإذا لم يستطع المثقفون العرب إيجاد لغة مشتركة مع زملائهم الاسرائيليين – الذين من المفروض أن يتجندوا ضد الامبراطورية الكبيرة المتشكلة في العالم - فإن هذا يعني أن هناك شرخًا عميقًا جدًا، وعلينا مواجهة ذلك".

- هل توقعت حقًا أن يتظاهر الاسرائيليون بحشودهم ضد الحرب على العراق؟

"أنا لا أتحدث عن التوقعات، وإنما عن وضع كوني، يتظاهر فيه الجميع، ما عدا الاسرائيليين. على الاسرائيليين أن يسألوا أنفسهم ما الذي يحدث معهم. فحتى في الولايات المتحدة خرجت مظاهرات".

- ربما يكون ذلك نتيجة صدمة حرب الخليج الأولى؟

"هل كانت هناك صدمة؟ كم شخصًا قتلوا من ‘السكاد‘؟ إثنان؟ ما يذهلني فيما يخص إسرائيل هو أنها دولة تملك 200 قنبلة ذرية. الجميع يعرف ذلك. فلماذا إذن يستعين الاسرائيليون دائمًا بلغة الخوف؟ فهم يخيفون كل العالم العربي. ما هذه التخيلات المرضية؟ بالطبع، يمكن أن يكون هذا مربوطًا بالتجربة اليهودية الطويلة مع المجازر والمحرقة. ولكن كل هذه الأمور الفظيعة حصلت في أوروبا وليس في العالم العربي".

"للفلسطينيين أيضًا حقٌ في الذاكرة"

"إسرائيل تملك أسلحة بكميات عظمى، ولكن في كل مرة أتحدث فيها مع إسرائيليين فإنهم يقولون لي إنهم يخافون"، يقول خوري. "ولكنهم يخافون من أولئك الذين لا يملكون شيئًا. الموضوع هو موضوع أيديولوجي في معظمه، وليس حقيقيًا. الحديث عن ماكنة أيديولوجية، مرتبطة بالجيش، وهنا على الاسرائيليين أن يطرحوا أسئلة حول وظيفة الجيش في حياتهم السياسية. أنا لا أرغب في القول إن قوة محتلة لا يمكن أن تكون ديمقراطية. ولكن على الاسرائيليين أن يسألوا أنفسهم لماذا لديهم جنرالات في كل مكان. أنا أرى في السياسة الاسرائيلية جنرالات فقط.

"أنا لا أقلل من قيمة ذاكرة الماضي اليهودية. أنا أحترم جدًا ضحايا المحرقة، وأتقزز من التقليد الأوروبي العنصري، الذي أدى إلى كارثة كهذه. ما يذهلني هو أن المجتمع في إسرائيل والأيديولوجيا التي بُني عليها – فالحديث يدور عن عنصر هائل من الذاكرة - لا يمنحان الفلسطينيين الحق في الذاكرة.

"يمكن فهم السبب من وراء كون إسرائيل مشروع تخليد كبيرًا إلى هذه الدرجة. ولكن نفس الأشخاص الذين يتذكرون، يرغبون بسلب الفلسطينيين ذاكرة أرضهم. حق الفلسطينيين في التذكر يخيف الاسرائيليين. وما لم يصل الاسرائيليون والفلسطينيون إلى وضع من الاحترام المتبادل لذاكرة الآخر، فإنه لن يكون حل للنزاع، حتى لو تحقق حل سياسي".

- أنت تتحدث عن إحترام المحرقة، وفي نفس الوقت أنت تقول إنك عندما شاهدت فيلم بولانسكي، "عازف البيانو"، فإن تراجيديا غيتو وارسو جعلتك تفكر في دمار المدن الفلسطينية. أين العلاقة التاريخية؟

"أنت لم تَرَ في فيلم بولانسكي رام الله؟ أنا، ببساطة، ارتعبت. أنا أقول إن الوضعية في الفيلم ذكّرتني بشيء ما. أنا لا أقارن. ولكن ما دمتُ توصلت إلى نقطة، أقول فيها إن الوضعية تذكرني بشيء ما، فهذا يدل على أننا وصلنا إلى وضع يجب أيجاد حل له".

- وعندها يأتي الكاتب خوسيه ساراماغو وغيره ويقارنون بين رام الله وبين أوشفيتس.

"أنا أقدر ساراماغو جدًا. ولكنني نشرت مقالا كتبت فيه أنني لا أوافقه أبدًا في هذا الشأن، وأن هذا مبالغ به. الضحية الفلسطينية لم تحظَ بالاعتراف. هذه الحقيقة خلقت الغضب العميق في المجتمع العربي. علينا أن نفهم المحرقة، ولكن علينا أيضًا أن نجعلكم تفهمون أن الضحية الأولى لا يمكن أن تصنع ضحية ثانية.

"الأمور تتغير اليوم بالنسبة للاعتراف بالضحية الفلسطينية. ليس لأننا أذكياء جدًا، بل لأن الاسرائيليين يتحولون إلى متكبرين جدًا. الاسرائيليون لا يرغبون في التوصل إلى حل، ولا يودون الاستيعاب أن للفلسطينيين حقوقًا كما لكل شعب آخر. أنا أعتقد أن هذا التكبّر يجعل الرأي العام العالمي يفهم أن جريمة كبيرة أرتكبت بحق الفلسطينيين".

ليس بوسع السجين أن يحاور

ألا تعتقد، أسأل خوري، أن كل ما حدث في السنتين والنصف الأخيرتين بين الطرفين، ساهم في تعميق الشرخ الذي تتحدث عنه؟ "بوسعي أن أفهم ما تقصده، ولكن ما مرّ به الفلسطينيون أيضًا في هذ الفترة كان فظيعًا"، يجيب. "وما زال فظيعًا. بلاد كاملة محاصرة، حواجر وقتل. أنا أعتقد أنه كانت هناك فرصة لخلق أمر ما مشترك بين المثقفين العرب والاسرائيليين. لكن الاسرائيليين والعرب يفوّتون الفرص دائمًا لخلق أرضية مشتركة. علينا أن نسأل أنفسنا لماذا الوضع على ما هو عليه؟ أنا لا أملك الجواب بعد. أنا أعتقد أن على الاسرائيليين أن يتحرروا من نبوءة المسيح المنتظر الغبية وعلى الفلسطينيين أن يتنازلوا عن التطرف الديني".

- لا يمكن القول إن المثقفين الاسرائيليين يعانون من تطرف ديني.

"المثقفون من الجانبين يحاربون التطرف الديني، ولكن عليهم أن يكونوا أكثر شجاعة".

- هناك اليوم مقاطعة في العالم العربي ضد المثقفين الاسرائيليين. ليست هناك أية رغبة في الجانب العربي في إنشاء حوار يُذكر.

"ليست هناك قاعدة اليوم للحوار. أنا لست فلسطينيًا، ولا أريد التحدث بإسمهم. ولكنني أعتقد أنه لا يمكن خلق حوار وأنت سجين. على الحوار أن يتم في جو آخر، أن يكون مبنيًا على مواقف واضحة من الطرفين. الطريق المنطقية الوحيدة للتوصل إلى سلام هي عن طريق حل الدولتين. ولو كانت الحروب بين الآلهة، فيجب أن نفهم أن الآلهة هي أكثر الكائنات تعطشًا للدماء، وهي لا تكتفي أبدًا. علينا أن نكون منطقيين وأن نتوقف عن التحدث عن التوراة والقرآن".

- كيف يمكن خلق وضع مناسب للحوار؟

"أولا، علينا أن نصف بالضبط ما الذي أدى إلى الوضع الحالي. لقد تبنى اليسار الاسرائيلي، من حول "العمل"، وبشكل تام، صيغة المقترحات الكريمة التي طرحها أيهود براك في كامب ديفيد. ولكن مقترحات براك لم تكن كريمة أبدًا. أصلا، ليس هناك مجال للكرم: هذه ليست بلاده، وعليه أن يخرج منها. كامب ديفيد كان كذبة كبيرة. لم يكن هناك تنازل إسرائيلي حقيقي، ولم يكن بوسع أية قيادة فلسطينية أن تقبل عروضًا كهذه.

"لا يمكن إقامة دولة بواسطة الأنفاق التي تصل بين المدن. يجب أن يكون تراصٌ جغرافي. لا يمكن أيضًا إقامة دولة من دون حدود. هذا غير جدي. على التسوية أن تعتمد فكرة دولتين ذوات سيادة. وإذا لم يكن هذا المقصد، فلن يكون أي حل.

"لقد كان موقف المثقفين الاسرائيليين بالنسبة لكامب ديفيد غير منصف بالمرة وخلق سدًا وفصلاً مطلقين، حوّلا الحوار إلى غير ممكن. كان هناك كتاب إسرائيليون نشروا نداءً للفلسطينيين لقبول مقترحات براك، من دون أن يفهموا أن الفلسطينيين يملكون الحق بدولة حقيقية. الموضوع لم يكن حق العودة –على الرغم من كونه موضوعًا بحد ذاته- وإنما إقامة دولة فلسطينية دائمة، ما لم يُقترح في كامب ديفيد. أنا أعتقد أن على كل شخص في معسكر اليسار الاسرائيلي أن يعيد فحص مواقفه من جديد، من أجل التوصل إلى وضع يصبح فيه الحوار ممكنًا".

(يديعوت احرونوت، 7/4/2003، ترجمة: "مـدار")