وثائق وتقارير

فقط في الليلة التي سبقت إعلان اقامة اسرائيل، إستكمل دافيد بن غوريون النص النهائي لـ <<إعلان الاستقلال>>. بحث جديد، للبروفسور في الحقوق يورام شاحر، يسرد حقيقة بعض رجال القانون والسياسة، الذين عملوا على مدى ثلاثة أسابيع، إنتهت في الليلة نفسها، على إعداد مسودة للإعلان، وأداروا نقاشات حول الصبغة العتيدة للدولة الحديثة العهد. هنا سرد حول النص الأكثر دينياً، والنص الأكثر ديمقراطية، والمعركة على "حقوق المنتجين" بين شاريت وبن غوريون..

 

<<إعلان الاستقلال هو الشيء الأقرب الى "الكتاب المقدس" للصهيونية السياسية>>، يقول البروفسور يورم شاحر، ويعلل: <<هذه كتابة مقدسة بمفهومين: بكونها متعلقة مادياً بكل المؤسسات الرسمية، وكذلك بمفهوم أن الذاكرة الإسرائيلية لم تفحص قط ماذا يوجد من ورائها. النبش في ماضي الوثيقة أعتبر ككفر بالأساس. بالضبط كما أن اليهود المؤمنين لا يبحثون في مصدر الكتاب المقدس. بالنسبة لهم، أعطيت التوراة من عند الله>>.

الله، في حالة إعلان الإستقلال، هو دافيد بن غوريون. الأدبيات الصهيونية تذكر الصوت المرتفع والنبرة الصارخة - الإحتفالية، واللهجة الشرق - اوروبية القاطعة التي جلبت للشعب الإسرائيلي الإعلان الدراماتيكي، الذي أسس دولة إسرائيل في يوم الجمعة 14 أيار 1948 في متحف تل أبيب.

قبل ذلك بثلاثة اسابيع لم يكن هناك أي شيء بعد. في يوم الجمعة، 23 نيسان، ألقى بنحاس روزين، الذي كان رئيس المجلس القضائي ووزير العدل الأول، مهمة صياغة الإعلان على أحد موظفيه، المحامي موردخاي بعهام، وله من العمر 33 سنة في ذلك الحين. البروفسور في الحقوق يورام شاحر من "المركز متعدد المجالات" في هرتسليا خرج في رحلة مثيرة، مليئة بالأكتشافات والتفسيرات، بحثاً عن المسودات، والنصوص والتعديلات الكثيرة التي مرّ بها الإعلان خلال الأسابيع الثلاثة، الى أن تمت بلورته بالصيغة النهائية. رأى بحثه النور مؤخراً في مقال "المسودات السابقة لإعلان الأستقلال" في مجلة "مطالعات القانون" لكلية الحقوق في جامعة تل أبيب.

إلتقى شاحر أرملة بعهام، التي تروي عن وجبة السبت العائلية في شارع اليركون في تل أبيب، في اليوم التالي لاستلام زوجها المهمة. اعترف بعهام بأنه لا توجد لديه أية فكرة كيف سيبدأ. زوج ابنته وجد ما يمكن أن ينقذ الوضع. اقترح عليه ان يتوجه الى يهودي باسم شالوم تسفي دافيدوفيتش، كان يقطن في شارع أرنون المجاور، ليستشيره في الأمر. دافيدوفيتش، الذي عرف أيضاً بـ الرابي دافيدوفيتش، كان رجل آداب مميزاً ومتعدد المواهب. بدأ دراسته كطالب في معهد ديني في ليطا، وبعد ذلك هاجر الى الولايات المتحدة وأصبح حاخاماً محافظاً وحائزاً على شهادة الدكتوراة في مجال الآداب. وفيما بعد قدم الى البلاد ونال عام 1943 جائزة تشرنيحوفسكي على ترجمة مسرحيات شكسبير، حيث كان اول من ترجم مسرحياته الى العبرية. وبالمقابل حرر وفسر مؤلفات الرمبام (موسى بن ميمون).

اللقاء بين المحامي الاسرائيلي العلماني والمثقف الامريكي المتدين أوجد المسودة الأولى. تأثرها من اعلان الاستقلال الامريكي كان ملموساً، ولكن بالاساس كان الله فيه. <<اللقاء بين الاثنين>>، يقول شاحر، <<أوجد النص الديني الأبرز من بين كل المسودات. حق الشعب اليهودي في البلاد استند فيه الى الوعد الإلهي لآباء الأمة. إنما فيما بعد، كلما ابتعد شبعهام عن دافيدوفيتش، راح الاعلان يأخذ صبغة علمانية. الوعد الإلهي مزج بمسوغات تاريخية، سياسية وأخلاقية، الى ان تلاشت في الرابع من أيار وبقيت القصة الصهيونية تاريخية وسياسية في اساسها. الشيء الوحيد الذي بقي من اشراك الله هو من خلال التعبير "قلعة اسرائيل"، الذي ظهر لأول مرة في مسودة بعهام- دافيدوفيتش وبقي حتى النص النهائي>>.

النص "اليساري"

لم يكن الله وحده قد أدخل وأخرج من الاعلان. كذلك المصطلح "ديمقراطية" حظي بالدخول والخروج. الشخصية الهامة التي جاءت بعد بعهام في قصة المسودة كانت المحامي تسفي برنزون، حينذاك المستشار القضائي للهستدروت وفيما بعد قاضي المحكمة العليا. ألقى عليه روزن مهمة صياغة النص في 4 أيار وحدد له 48 ساعة فقط لإتمام المهمة. وحدث برنزون حينها قائلاً إنه لم تكن بحوزته نصوص نموذجية أو مسودات سابقة وحتى لم يكن معه نص قرار مجلس الأمم المتحدة الصادر في 29 تشرين الثاني 1947 لكي يستعين به أو يعتمد عليه. سواء اوجد نصاً جديداً، أو حرر نصاً سابقاً، لا شك، يعتقد شاحر، أن كتابة برنزون كانت الأكثر توفيقاً.

<<الى ان جاء برنزون>>، يقول شاحر، <<كان في الاعلان ثلاثة أقسام: الرواية الصهيونية، الإعلان العملي ("ولذلك اجتمعنا") وفقرة التوقيع ("من خلال الأمن في قلعة اسرائيل فإننا نوقع"). برنزون اضاف فقرة رابعة، وحسب تقديري هي الأهم من الناحية الدستورية - والتي شمل فيها التأكيد الديمقراطي للدولة العتيدة. منذ هذه اللحظة حتى الإعلان بشكل فعلي تم الحفاظ على المبنى المربع>>.

برنزون، اذا جاز لنا استعمال المصطلحات المتأخرة، كان "اليساري" و"رقيق المشاعر" من بين كاتبي النصوص. شاحر: <<فيما كان كل الاخرين منشغلين بالاساس في مسألة ما يحق لليهود، انشغل برنزون في مسألة ماذا سيعطي اليهود في اللحظة التي سيحصلون فيها على القوة السيادية. نلحظ لدى برنزون قفزة الى الأمام ليس فقط في الصياغة، انما أيضاً في القيمة الأخلاقية للمضامين. ليس فقط شكاوى ومطالبات من العالم، انما ايضاً اعتراف بالتزام ومسؤولية صاحب القوة، ومَن تحوّل من مطارد الى سيد. لا شك انه خفقت في برنزون روح ديمقراطية سخية جداً تجاه حقوق الأقليات، روح من المؤكد أنها كانت شاذة في تلك الأيام>>.

في مسودة برنزون وردت <<إقامة دولة يهودية حرة، مستقلة وديمقراطية>>. التعبير "ديمقراطية" لم يظهر في مسودات سابقة وأخرج من النص فيما بعد من قبل واضعي النص الذين أتوا بعده. شاحر: <<انني افترض أنه تم تغليب التأكيد والرغبة في تعزيز سيطرة يهودية واضحة والتخوف من تعبير جارف، عام وملزم جداً، قد يشكل فيما بعد قاعدة لمطالبات واسعة للمشاركة في السلطة على البلاد. وحسب رأيي، لم يتخوفوا فقط من دعاوى كهذه من طرف الأقلية العربية انما أيضاً من مطالبة شبيهة من الوسط المتدين>>.

يعزو شاحر تراجع وتذويب الديمقراطية، وبالأخص تجاه العرب، الى رجال وزارة العدل وبخاصة الى بعهام، وأوري يدين وتسفي بيكر. وفيما كتب برنزون <<نحن ندعو بشكل خاص العرب في الدولة اليهودية للتعاون كمواطنين متساوي الحقوق والواجبات>>، اقترح الثلاثة نصاً بديلاً: <<نحن ندعو العرب، مواطني الدولة اليهودية، أن يساهموا في بناء دولتنا>>. شاحر: <<بهذا يتغير نهائياً طابع الوعد. بدل الالتزام بإعطاء العرب مكانة مواطنين متساوي الحقوق والواجبات، فإنهم مدعوون للعمل في البناء>>.

يقوم بنحاس روزن بإعداد المسودات المختلفة ويبلور اقتراحاً، يقدمه الى دائرة الشعب، التي ترفضه مع انتقاد لاذع على كونه قانونياً جداً، ومهجريا جداً، وتبريريا جداً. تقرر نقل المهمة للجنة الصياغة المكونة من خمسة اعضاء، برئاسة موشيه شاريت. يتسلم شاريت مسودة بعهام - دافيدوفيتش (التي أصبحت فيما بعد مسودة بعهام ومسودة وزارة العدل) ومسودة برنزون. وفي فترة مكوثه في نيويورك تعرف شاريت صدفة الى هيرش لاوترفيخت، أحد رجال القانون الكبار في العالم، قريب عائلة آبا ايبن. لاوترفيخت استجاب لطلب شاريت وكتب مسودة خاصة به. في 13 أيار يعود شاريت لدائرة الشعب مع نص خاص به، وقد رفض هذا النص أيضاً مع انتقاد لاذع.

تسوية "قلعة اسرائيل"

هذه المرة يقرر بن غوريون أن يتولى بنفسه عملية الصياغة. تشكلت لجنة اضافية كان أعضاؤها، بالاضافة الى بن غوريون، موشيه شاريت، أهرون تسيزلينغ من حزب "مبام"، والحاخام يهودا ليب والكاهن فيشمان ميمون. صقل بن غوريون مسودة شاريت في الليلة ما بين 13 و 14 أيار. لا يحضر شاريت الى ذلك اللقاء، وينشب بين تسيزلينغ وفيشمان ميمون الجدل المشهور حول دمج " قلعة اسرائيل" في الاعلان.

الأسم "قلعة اسرائيل" أدخل للاعلان منذ المسودة الأولى لبعهام ودافيدوفيتش. هذا الانتقاء، ككناية للتدخل الالهي، أخذ على ما يبدو من اعلان الاستقلال الامريكي كترجمة للمصطلح Divine Providence. انما بدل "العناية الالهية" أو "عناية سماوية عليا" تم اختيار "قلعة اسرائيل". وفجأة، في الليلة الأخيرة، يجري حوله نقاش دراماتيكي. تسيزلينغ العلماني يطالب بإخراجه. الحاخام فيشمان ميمون يطلب تقويته ليصبح "قلعة اسرائيل وملاذها". بن غوريون يقترح تسوية حل وسط بين الأثنين بإبقاء "قلعة اسرائيل"، بهدف استرضاء المتخاصمين - بالنسبة للعلمانيين وكأنه لا يدور الحديث عن الله انما كرمز تاريخي - حضاري، بينما بالنسبة للمتدينين فيجري الحديث عن احد الأسماء الواضحة لله تبارك وتعالى.

هذه ليست مساهمة بن غوريون الأساسية. بل انه قام بحذف نحو ربع نص شاريت. قام بازالة التعبير "حيث ان" الذي اختار شاريت أن يبدأ به كل فقرة، هذا التعبير الذي أضفى على الاعلان شكل عقد تجاري. والتغيير الهام جداً الذي ادخله بن غوريون هو اضافة الادعاء القانوني، الذي يستند الى الحق التاريخي والطبيعي للشعب في أرضه. شاحر: <<لصالح الادعاء القانوني، يشوه بن غوريون الاسطورة اليهودية الاساسية، التي وفقها وجد الشعب اليهودي كنتيجة للعهد مع ابراهيم ونتيجة لمكانة جبل سيناء، هذان الحدثان اللذان حدثا خارج حدود البلاد. كتب بن غوريون "في ارض اسرائيل قام الشعب اليهودي"، لكي يعزز الادعاء بأنه يحق لكل شعب السيطرة على البلاد التي ولد فيها. آنذاك، فإنه بالطبع لم يخطر بباله أن شعباً آخر، الفلسطيني، سيطالب بالحق من منطلق ادعاء شبيه>>.

التعديلات بخط يد بن غوريون على مسودة شاريت لم يتم العثور عليها حتى اليوم. ويعتقد البروفسور شاحر أن هذه الحقيقة غريبة حيال شهرة بن غوريون كموثق وحريص على الاحتفاظ بكل ورقة ووثيقة تمر تحت يديه. <<كيف حدث بالذات أن الأهم من كل شيء، الوثيقة المؤسسة للدولة، لم تحفظ>>، يتساءل، ويطرح بعض الامكانيات: <<ربما أن احدى موظفات الطباعة مزقت خطأ الورق المكتوب بخط اليد، ربما أخذت الوثيقة للترجمة الانجليزية ولم تتم اعادتها، وربما ان رجال شاريت قد افنوا التعديلات لكي يحافظوا على مركزية شاريت في العملية، وربما ان بن غوريون نفسه أفنى الوثيقة في اطار جهوده لاخفاء معالم العناء الانساني من ورائها ومنع الانشغال بتسلسلاته المختلفة لكي يترك أثره هو ومكانة التسليم في الذاكرة التاريخية>>.

للتوتر بين شاريت وبن غوريون بصمات في المكاتبات من عام 1972 بين تسفي غور آري، الشخص الذي كان مشاركاً في مراحل الصياغة المتأخرة، وبين بن غوريون. غور آري يلمح في رسالته بأن بن غوريون استحوذ بنفسه كلياً على نص الاعلان. <<اذا تمعنت في النصين>>، يقول، <<فإنك ستعلم انك سرت على اثر نص شاريت>>. ويجيبه بن غوريون بنبرة غاضبة: <<انني لا أرى أية حاجة لمناقشة نص لجنة الخمسة (برئاسة شاريت، حتى ان بن غوريون لا يذكره بالاسم، م.غ)، لأن هذا النص لم يقبل. واقترح علي ان أعدّل النص وهذا ما فعلته>>.

يدعم شاحر، في بحثه، الموقف القريب من موقف شاريت. صحيح أن تعديلات بن غوريون كانت تنم عن عبقرية، هكذا يعتقد، لكن النتيجة استندت في نهاية الأمر الى العمل المتلاحق لكل سابقيه. وهو يريد أن يعطي رصيداً للجميع، وحتى انه يلفت الى نصين سابقين ربما استلهم بهما واضعو النصوص: للدكتور ليئو كوهن، الذي اقترح دستوراً واعلاناً مؤسساً للدولة منذ كانون الثاني عام 1948 ولزلمان شزار، فيما بعد رئيس دولة اسرائيل، من 11 نيسان.

مهمة الصياغة الرسمية ألقيت، كما ذكر، في 23 نيسان على موردخاي بعهام، والأشخاص الذين انضموا للعمل فيما بعد كانوا - شالوم تسفي دافيدوفيتش (باستشارة غير رسمية)، تسفي برنزون، موشيه زيلبيرغ، أوري يدين، تسفي بيكر. وفي مرحلة معينة صادر السياسيون بنحاس روزن، وموشيه شاريت ودافيد بن غوريون النص والمجد أيضاً من ايدي الموظفين القانونيين. شاحر: <<في مرحلتين من مراحل العملية ترقى الوثيقة الى مستوى وثيقة رفيعة المستوى حقاً- في مسودة برنزون وفي تعديلات بن غوريون>>.

<<الإعلان>>، يكتب شاحر في مقاله، <<لم يكن معداً منذ البداية لأن يكتب كوثيقة رفيعة المستوى، ولذلك لم يتم عرضه على أدباء الجيل وشعرائه لكي يقوموا بصياغته، بل سلم بالاساس لمحامين وسياسيين. النقطة التي أود تأكيدها هنا وفي المقال كله هي أنه في ذلك الجيل، كانت تسري أيضاً في أولئك روح عظيمة جداً>>.

(بقلم: موشيه غورالي، هآرتس، 5/5)